لم تكد تمرّ ستّة أشهر على إعفاء محافظ البنك المركزيّ السابق الشاذلي العيّاري من منصبه في 15 فيفري 2018 إثر إدراج تونس في القائمة الأوروبيّة السوداء لتبييض الأموال، حتّى شهد البنك المركزيّ التونسي ثاني أهمّ تغيير على مستوى تركيبته المسيًّرة، ليتمّ تعيين المديرة العامّة بالبنك نائبا للمحافظ الجديد مروان العبّاسي يوم السبت 25 أوت الجاري خلفا لمحمد الرقيق. التعيين الجديد الذّي وضع نادية قمحة في ثاني أهمّ منصب في القطاع المالي العموميّ، بعد إحالة سابقها على التقاعد، بدا منتظرا مع تتالي مطالبة عدد من نوّاب الشعب بإقالته عقب استدعائه من قبل القطب القضائي المالي كشاهد حول قضايا تتعلّق بالفساد وتبييض الأموال في شهر أفريل الفارط.

الإحتفاء الإعلاميّ بنادية قمحة، كأوّل امرأة ستضع إمضاءها على الأوراق النقديّة، والسيرة الذاتيّة الناصعة التّي استنسختها معظم وسائل الإعلام، أسقط دور المديرة العامة السابقة في قضيّة البنك الفرنسي التونسي. إذ تكشف التحقيقات التّي نشرتها نواة سابقا والتّي أرفقتها بتسريبات لمحاضر الإجتماعات الوزاريّة، موقف نادية قمحة المدافع عن تصفية أحد أكبر ملفّات الفساد في القطاع الماليّ وبصماتها التّي أثّرت في مسار النزاع الذّي كلّف الماليّة العموميّة مئات ملايين الدنانير.

نادية قمحة: مدافعة شرسة عن خيار تصفية البنك الفرنسي التونسي

ما يزال ملفّ البنك الفرنسي التونسيّ الذّي اعتبره رئيس الحكومة يوسف الشاهد في أحد حواراته التلفزيّة أكبر قضيّة فساد في تاريخ البلاد، مفتوحا على جميع الاحتمالات مع تواصل تحرّكات قاضي التحقيق لدى القطب الاقتصادي والمالي وتتالي استدعاءات موظّفين من البنك المركزي التونسي كمتّهمين أو كشهود. هذه القضيّة التّي كلّفت الخزينة العمومية أكثر من مليار دينار كديون غير مستخلصة وتكاليف مسار التقاضي وغرامة تحميل الدولة المسؤوليّة في النزاع مع المجموعة الاستثمارية ABCI يكشف في جوانب منه الدور الذّي لعبه مسؤولو البنك المركزي التونسي في تكبيد الخزينة العموميّة تلك الخسائر الفادحة ومحاولتهم التغطية على المافيا الاقتصاديّة عبر الدفع نحو خيار التصفية وإسقاط المسؤوليّة عن الجميع.

النائب الجديد لمحافظ البنك المركزيّ نادية قمحة، كانت أحد الأسماء الرئيسيّة التّي تتالى حضورها في الاجتماعات الوزاريّة المضيّقة التّي خُصّصت لتدارس وضعيّة البنك الفرنسي التونسي.

⬇︎ PDF

عيّنتان من محاضر الجلسات الوزاريّة في 13 ديسمبر 2012، و15 ديسمبر 2015، تؤكّدان أنّ المديرة العامة بالبنك المركزي التونسي حينها كانت أحد المتدخّلين الرئيسيّين، والمكلّفة خلال تلك الجلستين بشرح وضعيّة البنك الفرنسي التونسي وتقديم السيناريوهات الممكنة لمعالجة الأزمة.

⬇︎ PDF

إلاّ أنّ نادية قمحة وكما تبيّن الوثائق التّي نشرتها نواة رفقة سلسلة من التحقيقات حول هذا الملّف، لم تكتفي بتلك المهمّة فحسب بل كانت أحد الأصوات المدافعة عن خيار التصفية التدريجيّة للبنك بتعلّة فداحة الخسائر التّي تتكبّدها هذه المؤسّسة الماليّة، ولكن دون تحديد أيّ مسؤوليّات أو التطرّق لمحاسبة المتسبّبين بهذا الوضع الكارثيّ الذّي كبّد البنك 700 مليون دينار من الديون غير المستخلصة.

خيار التصفية الذّي دافعت عنه نادية قمحة خلال الجلسة الوزاريّة سنة 2012، والذّي أعادت طرحه والتمسّك به كخيار أمثل إبّان الجلسة الثانية التّي ترأسها رئيس الحكومة حينها الحبيب الصيد بتاريخ 15 ديسمبر 2015، بحضور محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري ونائبه محمد رقيق ووزير المالية سليم شاكر ووزير التنمية والاستثمار ياسين إبراهيم وممثلين عن وزارة الشؤون الخارجية ووزارة العدل، الذّين تفادوا طرح أي سؤال عن مسؤوليات السلطات المالية رغم حضور أبرز ممثليها في الاجتماع، لم يكن يعني سوى لملمة هذا الملّف وإنقاذ كلّ الرؤوس من تبعات هذه القضيّة.

رغم الوضع الكارثيّ للقطاع المالي: الحرس القديم يثبّت مواقعه

كان إدراج تونس في القائمة الأوروبيّة السوداء لتبييض الأموال في 07 فيفري 2018، العنوان الأكبر لإعفاء الشاذلي العيّاري وخاتمة عهده على رأس البنك المركزي التونسي الذّي طُبع في الأذهان كواحد من أشد الفترات تدهورا لا على المستوى الإقتصاديّ فحسب، بل على مستوى التعتيم على ملفّات الفساد واستغلال النفوذ أو الصفة الحزبيّة والخسائر الماليّة. رأس محافظ البنك المركزيّ منفردا، كان كافيا بالنسبة للحكومة كشماعة للفشل المالي والاقتصاديّ لذراعها الماليّة الأقوى. إلاّ أنّ فرقة الحرس القديم التّي رافقت الشاذلي العيّاري طيلة مباشرته مهامه على غرار منير القليبي أو محمد الرقيق ونادية قمحة، وجدت نفسها بمنأى عن المحاسبة أو المساءلة رغم مشاركتها -بحكم مناصبها- في مختلف قراراته.

بعد وفاة منير القليبي، أحد أبرز الفاعلين في قضيّة البنك الفرنسي التونسي، وإحالة نائب محافظ البنك المركزي محمد الرقيق على التقاعد دون محاسبة، خرجت نادية قمحة من ظلّ نائب المحافظ السابق، لتخلفه تماما كما خلفته سابقا على رأس إدارة الرقابة المصرفيّة. ترقية تجاوزت دورها كأحد المديرين العامين صلب البنك المركزيّ ومسؤوليتها عن الفشل الذريع في إدارة مختلف الملفّات التّي تعود إليها بالنظر مباشرة في إدارة الرقابة المصرفية على غرار مسألة الرقابة على غسيل الأموال والتّي أدّت إلى تحويل تونس إلى بوّابة عبور لتدفّقات ماليّة ضخمة مجهولة المصدر حسب تقارير مجموعة العمل المالي الدولية (GAFI-غافي) ولجنة التحاليل المالية التابع للبنك المركزي التونسي. هذا التراخي في مكافحة غسيل الأموال والتعاطي مع ملفّات عديدة على غرار قضيّة سيتاكس و بنك تونس الخارجي، مرّ هو الآخر دون تقييم لترتقي نادية قمحة إلى ثاني أقوى منصب في البنك المركزي التونسيّ، كعنوان لاستمرار سطوة الحرس القديم وتواصل خياراته الاقتصاديّة والماليّة.