اجتمع أوّل أمس، الأربعاء 8 نوفمبر 2017، رؤساء الكتل البرلمانية بمجلس نوّاب الشعب للنظر من جديد في انتخاب رئيس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات. وقد أسفر الاجتماع على قرار إعادة فتح باب الترشّحات وتحديد جلسة عامّة يوم الثلاثاء المقبل 14 نوفمبر للتصويت على المترشحين لرئاسة الهيئة. هذا وقد رُفعت الجلسة العامّة السابقة المُخصّصة للغرض يوم الخميس 30 أكتوبر دون أن يتحصّل محمد التليلي منصري على 109 صوت التي تخوّله للمنصب الجديد رغم إجماع مسبق حوله بين كتلتي الأغلبية البرلمانية.

متمسّكون بالتوافق “رغم كلّ شيئ”

“نحن متمسّكون بتسريع انتخاب رئيس جديد للهيئة وموقفنا لم يتغيّر، فالهيئة مكسب ونحن مع الموعد الذي تُحدّده للانتخابات البلدية” هذا ما صرّح به نور الدين البحيري، رئيس كتلة حركة النهضة لموقع نواة مُكرّرا الإجابات نفسها ومُتشبّثا بموقف كتلته البرلمانية “الموحّد والأساسي” –حسب تعبيره- والمتمثّل في التزامها بالتوافق البرلماني كسبيل وحيد للخروج من الأزمة والذهاب للانتخابات. هذا الالتزام يتعارض مع موقف حزب آفاق تونس الذي يعتبر أنّ التوافق بين حزبي الأغلبية المطلقة أصبح معرقلا رئيسيا لعملية الانتقال الديمقراطي. في هذا السياق، ندّد فوزي بن عبد الرحمان، وزير التشغيل وعضو حزب آفاق تونس بسياسة التوافق مشيرا أنّه “لم يعد توافقا وإنّما تحالفا بين حزبي الأغلبية”، مضيفا أنّه تحالف غير واضح لا من حيث النتائج ولا من حيث السياسات كما لا يستند لبرنامج.

داخل البرلمان وخارجه، لا يتوانى حزب آفاق تونس عن التصعيد ضدّ سياسة التوافق خاصّة موقف حركة النهضة، حيث صرّح ياسين ابراهيم خلال اجتماع شعبي بدوّار هيشر يوم الأحد 5 نوفمبر أنّ ”التحالف القائم حاليا بين النهضة والنداء غير مبنى على الثقة”، وفي سياق متّصل من داخل البرلمان، تمّ الإعلان قبل نهاية أكتوبر المنقضي عن تكوين “جبهة برلمانية تقدّمية” تضمّ نوّاب من حزب نداء تونس وحركة مشروع تونس وحزب آفاق تونس، إلاّ أنّ المكلّف بالإعلام بحزب نداء تونس فؤاد بن سلامة علّق على تكوين هذه الجبهة في حوار صحفي أوّل أمس، قائلا “لابدّ أن تكون محلّ وفاق في الحزب وفي الهيئة السياسية” محذّرا نوّاب النداء المرحّبين بالجبهة: “الحزب رشّحهم كنواب للحديث باسمه، لذا لا يستطيعون القيام بأي شيء دون الرجوع إلى الحزب”.

هذا ويتمسّك حزب نداء تونس بإدارة التحالف حتى الآن، كما لا يتراجع عن تقديم تصوّراته الحزبية المطلقة خارج جدول العمل التشريعي وأولويات بقيّة الكتل البرلمانية الأخرى بما في ذلك الحليف الرئيسي. وقد أفاد القيادي بحركة نداء تونس فؤاد بن سلامة أنّه “عندما يريد كلّ طرف أن يكون رئيس هيئة الانتخابات تابعاً له، فطبيعي ألاّ يحدث وفاق بين الحزبين الكبيرين”. ثمّ واصل المتحدّث باسم “حزب الأغلبية” تقديم تبريرات حزبه خارج سياق التشريعات ومسؤولية كتلته البرلمانية وأولويات المرحلة الوطنية التي تغلّبت عليها أولويات الحزب، حيث صرّح “نحن لا نعرف إن كنّا سنلتزم بالموعد الذي حدّدته الهيئة للانتخابات البلدية في 25 مارس أو بتاريخ آخر، لكن الجاهزية لابد أن تكون موجودة حتى ندخل الانتخابات” مفسّرا، “الانتخابات تهمّ 350 بلدية، وكلّ حزب لابد أن يأتي بـ7200 مترشح، و1200 عضو احتياط وعضو من ذوي الاحتياجات الخاصة في كل قائمة” في إشارة مبطّنة لعدم جاهزية الحزب وعدم انتهائه من تشكيل القائمات الانتخابية للمجالس البلدية.

في بهو مجلس نوّاب الشعب قابلنا شفيق العيّادي، النائب عن كتلة الجبهة الشعبية، الذي أكّد لنواة أنّ حزب نداء تونس “يتعمّد تعطيل الانتخابات” مضيفا أنّه “يعيش تجاذبات داخلية وانشقاقات ولذلك يعمل على التأجيل لما بعد مؤتمر الحزب للبتّ في مسألة الترشّحات قبل حلّ أزمة الهيئة”.

تعطيل الانتخابات أوّلا ثمّ ضرب الهيئات ثانيا

بغض النظر عن المزايدات بين الطرفين المتحكّمين في التوافق البرلماني، أكّد لنا نوّاب من الكتل المعارضة وغير المنتمين أنّ الأزمة تأخذ أبعادا خطيرة داخل البرلمان وخارجه، حيث أجمع كلّ من نذير بن عمّو وشفيق العيّادي وعمّار عمروسية ومصطفى بن أحمد أنّ السبب الرئيسي وراء عدم انتخاب رئيس للهيئة هو اختلال التوازنات الحزبية وهيمنتها على العمل البرلماني، مشيرين إلى عدم رغبة كلّ من نداء تونس والنهضة في إنجاز الانتخابات دون التأكّد من نتائجها. أشار نذير بن عمّو، من غير المنتمين لكتل، لنواة إلى أن “القراءة البسيطة للأحداث وحدها كفيلة بأن تكشف أنّ التجاذبات الحزبية طاغية على العمل التشريعي، ولا يبدو أنّ هذه الأحزاب ترغب في الذهاب للانتخابات البلدية في آجال قريبة”.

نذير بن عمو المنشقّ حديثا عن كتلة حركة النهضة انضمّ إلى قائماتها الانتخابية كمستقلّ، ولكن تمرير قانون المصالحة كجزء من التوافق الحزبي بين كتلتي الأغلبية جعله يراجع علاقته بالحركة، إذ يرى أنه “فشل في تقريب الرؤى بينه وبين مركز القرار داخل كتلة النهضة”. وقد كشفت استقالة بن عمو عن المقايضة الحزبية التي كان طرفاها، قانون المصالحة لفائدة نداء تونس من جهة وحل أزمة الهيئة لصالح حركة النهضة من جهة اخرى.

من جهته، لم يُخف لنا مصطفى بن أحمد رئيس الكتلة الوطنية توجّسه، ليس فقط من التوافق المختلّ كما أشرنا له سابقا، وإنّما من مسألة الهيئات وتحييدها أساسا، موضحا أنّ “انتماء النوّاب إلى كتل برلمانية والتزامهم بدورهم التشريعي لا يلغي انتماءهم الحزبي” مواصلا في نفس السياق، “لقد خلق الدستور معضلة قانونية فيما يتعلّق بأمر الهيئات الدستورية يواجهها النوّاب اليوم، فمن جهة هم ممثّلون سياسيون لأحزابهم ومن جهة أخرى هم مطالبون بانتخاب رئيس “محايد” و”مستقلّ” للهيئة الدستورية، وهذا غير ممكن عمليا”. وأشار محدثنا إلى وجود إشكالات عديدة تتعلّق بالهيئات المستقلّة، “فهي بصدد خلق موازين قوى جديدة موازية ليس في قدرة النظام احتواءها”. أمّا موقف الجبهة الشعبية، فقد عبّر عنه عمّار عمروسية الذي صرّح أنّ “الهيئة ذهبت ضحية عقلية المحاصصة الحزبية، وأنّ غياب التوافق مقصود، فتحصيل 109 صوت لانتخاب رئيس للهيئة ليس بالأمر العسير، غير أنّ حزبي الأغلبية لا ينفكّان عن الصراع لوضع اليد على الهيئة”.

رغم الإجماع بين صفوف المعارضة على قراءة واضحة لاختلال التوافق البرلماني وتوجيه أصابع الاتهام مباشرة نحو حزبي الأغلبية الكبرى، فإنّ دورهم البرلماني الضعيف أصبح وجها آخرا من أوجه الاختلال، نظرا لعدم قدرة المعارضة البرلمانية على بناء توازن سياسي جديد من شأنه أن يعالج اختلال القوة الذي تمر به المنظومة السياسية الراهنة.