يوم الأربعاء الماضي، خلال لقائه الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، كرر رئيس الجمهورية نفس التهديدات تقريبا، مشيرا إلى أن

هناك عديدون من الخونة والعملاء الذين باعوا ضمائرهم بالعملة التي تأتي خلسة، ونعلم مأتاها ونعلم من يريد تخريب الدولة من الداخل

وذلك في إشارة إلى نفس الأطراف التي اتهمها سابقا، وهو غير مستعد للتحاور معها، لأن “من هم مطالبون للعدالة مكانهم قصور العدالة”.

تهديدات متتالية

تتالت تهديدات قيس سعيد لمن أسماهم المخرّبون للدولة من الداخل والمرتبطون بأجهزة أجنبية ويتقاضون أموالا مقابل ذلك، ووصل التهديد إلى حد الحديث مع رئيس مجلس النواب راشد الغنّوشي ونائبيه خلال لقاء في قصر قرطاج في 20 جويلية الماضي، من خلال التلويح بصلاحياته الدستورية و”الصواريخ التي يخبئها”، حيث قال “إنّ الوسائل القانونية المتاحة في الدستور موجودة لديّ، وهي كالصواريخ على منصات إطلاقها، ولكن لا أريد اللجوء إليها في هذا الظرف بالذات”.

خلال سنة من حكمه، لم ير التونسيين من الرئيس قيس سعيد غير كثرة الوعود، خاصة تلك المتعلقة بالتصدي للفاسدين والمتآمرين على الدولة. هؤلاء قال عنهم سعيّد أنه يعرفهم جيدا ولديه كل الأدلة والتفاصيل عن تجاوزاتهم، والسؤال المطروح هو لماذا لم يتجاوز قيس سعيد التصريحات؟ ولماذا ظلّت معاركه كلامية حتى بدأت تفقد أثرها في كل مرة؟

الواضح أن تصريحات قيس سعيد لم تأت من فراغ، وليست مجرّد جعجعة لغوية، وذلك لعدة أسباب. أولها أن رئيس الجمهورية يدرك جيّدا أن محاربة الخصوم السياسيين بالادّعاء عليهم باطلا يمكن أن يجعله محل تتبع قانوني ومحل إدانة أخلاقية، وثانيا أنه لا يمكن توجيه اتهامات بهذه الخطورة دون حيازة أدلة وتفاصيل إدانة ثابتة ولا تحتمل النّقض، وثالثا أن الكثير من الاتهامات التي وجّهها لخصومه أثبتها تقرير محكمة المحاسبات وخاصة فيما يتعلق بالتمويل الأجنبي للحملات الانتخابية واستعمال المال مجهول المصدر. هذا التقرير كفيل لوحده بفتح باب السجن على مصراعيه أمام الكثير من السياسيين وإثر محاكمات عادلة.

المخلّص من الفساد

في إيطاليا بداية التسعينيات، اكتشف القاضي أنطونيو دي بييترو أثناء إحدى التحقيقات تورط بعض السياسيين في قضايا رشوة. وبعد توسيع التحقيق وجد أنها شبكة ضخمة على المستوى الوطني متورطة فيها شخصيات من كل الوظائف و المستويات، وزراء ومدراء شرطة، مدنيون وعسكريون، ديبلوماسيون، رجال أعمال وزوجاتهم. اتخذ دي بييترو قرارا بتوقيف كل المتورطين مهما كان منصبهم. حيث شملت الاعتقالات 5000 شخص بينهم أكثر من 1000 من رجال الدولة و السياسة، بينهم وزراء ورئيس الوزراء نفسه بيتينو كراكسي الذي هرب بعدها لتونس واستقر في الحمامات أين قضى بقية حياته.

كان دي بيترو يعتقد أن الفساد يدمر الدولة من الداخل لذلك يجب تدميره من داخلها. أطلق على العملية اسم “الأيادي النظيفة” وصُدم الإيطاليون لحجم الفساد المتغلغل في أجهزة الدولة وخرجوا في مظاهرات تدعم دي بييترو وتعتبره بطلا قوميا وأصبح اسمه يغنى في ملاعب الكرة مع شعار “دي بييترو جعلتنا نحلم”.

لم يكن التونسيون في حاجة إلى من يرشدهم لاكتشاف حجم الفساد في بلادهم وحجم الخراب الذي ألحقه هذا الفساد، ليس زمن الاستبداد فقط وإنما كذلك بعد الثورة حيث توسّع وتمأسس. لكنهم كانوا في حاجة إلى من يجعلهم يحلمون، في حاجة إلى قاض شريف أو سياسي مستقيم يفتح نار جهنم في وجوه الفاسدين. ومع الخيبات المتتالية منذ الثورة في النخب والأحزاب السياسية، وخاصة تلك التي حكمت، والتي خدمت الفساد والفاسدين وفتحت لهم أبواب السلطة، كان أمل كثير من التونسيين في رئيس الجمهورية، رجل القانون الذي تربطه علاقات وطيدة بالسلطة القضائية.

لم يكن مطلوبا أن يتدخل رئيس الجمهورية في الأجهزة القضائية، وإنما كان المطلوب ترجمة خطاباته واتهاماته إلى ملفات قانونية تقدم للقضاء وتنير درب العدالة. كان المطلوب أن يوجه رئيس الجمهورية رسائله إلى القضاة النزهاء لدعمهم سياسيا من أجل فتح كل ملفات الفساد.

لا حوار مع الفاسدين

في مواجهة الأزمة الحادة التي تمر بها تونس، بادرت بعض الأحزاب والمنظمات، من ضمنها اتحاد الشغل، لتقديم مبادرات حوار وطني، لإيجاد الحلول السياسية والاقتصادية التي يمكن أن تخرج البلاد من أزمتها وتمنعها من الذهاب إلى المجهول. الرئيس قيس سعيد أعلن صراحة أن لا مجال للحوار مع الفاسدين، في إشارة إلى قلب تونس، وربما حركة النهضة وفرعها ائتلاف الكرامة. وفي هذه الحالة، فإنه لا معنى لأي حوار وطني إذا لم يشمل كل المختلفين والمتنازعين، كما أن أي اتفاقات في حوار لن يشمل ثلاث كتل يمثلون نصف البرلمان ستكون غير ذات أهمية ولن تكون ملزمة، والرئيس يدرك ذلك جيدا.

وإذا تم استبعاد الحوار، فإن حل البرلمان أو حل الحكومة التي تتمتع بدعم الأطراف المذكورة لن يكون ممكنا. فما هي إذن “الصواريخ الرابضة على منصاتها” والتي لوّح الرئيس قيس سعيد بإطلاقها، وهو الوحيد الذي يقدر على ذلك؟

يبدو أن الحرب الوحيدة التي تبقت والتي تستعمل فيها صواريخ القوانين هي الحرب على الفساد وعلى الفاسدين، هذه الحرب التي بدأت محكمة المحاسبات في فتح طرقاتها. فهل الرئيس جادّ فعليا في تهديداته ووعيده بشن حرب على الفاسدين؟ ماهي أسلحته وهل أن القضاء جاهز حقا لخوض مثل هكذا حرب؟ أم أن أحزاب وبارونات الفساد تحصّنت كفاية بما يجعلها بمنأى عن أي تهديدات، وأن صواريخ الرئيس تحولت إلى مجرد جعجعة كلامية؟