ليست هذه المرة الأولى التي تطرح فيها مبادرة للحوار الوطني من أجل الخروج بالبلاد من أزمتها الخانقة. في نهاية أكتوبر الماضي، أعلن حزب التيار الديمقراطي عن مبادرة للحوار الوطني لحل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وقدم التيار هذه المبادرة إلى رئيس الجمهورية يوم 04 نوفمبر الماضي، باعتباره الشخصية الأقدر على رعاية الحوار. وعلى الرغم من وعد الرئيس لقادة التيار بالنظر في المبادرة، إلا أنها انتهت على رفوف مكتبته.

حوار بدون متحاورين

في فترات الأزمات، كما في النزاعات المدنية والمسلحة على حد سواء، عادة ما يتم اللجوء إلى الحوار والمباحثات السياسية، وذلك لإيجاد أرضية مشتركة بين أطراف النزاع، والاحتكام إلى العقل والتفاوض عوض تغليب منطق العنف والقوة. خلال سنة 2013، مرت تونس بفترة صعبة كان الاستقطاب فيها على أشدّه بين تيارات الإسلام السياسي بقيادة حركة النهضة من جهة والتيارات العلمانية والوسطية من جهة أخرى. وقد أفضت عملية التجييش والشحن إلى اغتيال اثنين من أبرز القيادات اليسارية والقومية في تونس، وهما الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

في تلك الفترة، كانت التيارات الإسلامية تحتشد في القصبة لدعم حكومة علي العريض في اعتصام الصمود. وكانت التيارات العلمانية والوسطية تحتشد في ساحة باردو أمام مقر البرلمان في اعتصام الرحيل. وكانت عملية الاشتباك بين الطرفين تنتظر أقل شرارة وتنبئ بالتحول إلى حرب أهلية.

في هذا السياق، بادر اتحاد الشغل بقيادة حسين العباسي مع منظمات عريقة أخرى مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين إضافة لاتحاد الأعراف، بطرح مبادرة الحوار الوطني، لم تكن المنظمات المذكورة طرفا في الصراع الدائر آنذاك، وقدمت خارطة طريق واضحة المعالم ومسارات محددة في الزمن. ولأن كل الأطياف السياسية لم تكن ترغب في الذهاب إلى الأقصى في الصراع الدائر بينها، تلقّف الجميع مبادرة الرباعي التي قادت إلى مسار سياسي شارك فيه الجميع وخلصت إلى نتائج أرضت جميع الأطراف.

السياق الحالي يختلف جذريا عن سياقات 2013 و2014، فاتحاد الشغل اليوم هو جزء من المشكل، باعتباره تجاوز دوره الاجتماعي وأصبح طرفا سياسيا يفاوض في تشكيل الحكومات وينخرط في المحاصصات ويطالب بحقه في التسميات في المواقع المختلفة من الدولة، هذا من جهة. من جهة أخرى، فإن الاتحاد اليوم خصم سياسي معلن لطرف مهم ووازن في المشهد السياسي وفي البرلمان وهو الإسلام السياسي ممثلا في حركة النهضة وائتلاف الكرامة. ومن الصعب أن يتمكن الاتحاد من لعب دور الميسّر والمسهّل للعملية التفاوضية للسبب المذكور، فضلا عن كونه أعلن تموقعه منذ فترة تحت خيمة الرئيس. الرئيس قيس سعيد الذي يواجه بدوره نفس المشكلة، وهي عدم القدرة على لعب دور الوسيط المحايد بعد أن دخل في حرب مفتوحة ومعلنة مع الترويكا البرلمانية الداعمة لحكومة المشيشي (حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة). وقد أعلن الرئيس سعيّد صراحة أنه لا مجال لتشريك الفاسدين في الحوار الوطني، في إشارة واضحة إلى حزب قلب تونس، وربما أيضا حركة النهضة (وهما حزبان أكدت محكمة المحاسبات أنهما استعملا المال السياسي الأجنبي في تمويل حملاتهما الانتخابية). كما عبر اتحاد الشغل عن رفضه تشريك ائتلاف الكرامة في الحوار المذكور.

تغيير النظام السياسي

لا تختلف مبادرة اتحاد الشغل كثيرا، في منطلقاتها وأهدافها، عن مبادرة التيار. فكلا المبادرتين ركّزتا على الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بهما البلاد وضرورة إيجاد إصلاحات عميقة وعاجلة. لكن الاتحاد اقترح، في مبادرته التي وجهها إلى رئيس الجمهورية، ونشرها على صفحته الرسمية بموقع فايسبوك ، إرساء هيئة حكماء تضم عدد من الشخصيات الوطنية المستقلة من كافة الاختصاصات تتولى مهام الإشراف على حوار وطني يقود إلى إصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية. وتخضع الهيئة المذكورة، حسب نص المبادرة، إلى إشراف رئاسة الجمهورية، وألا يترشح أعضاؤها إلى المناصب السياسية.

حدّدت المبادرة أهم المحاور التي سيتناولها الحوار والتي تتلخص في ثلاث مجالات: المجال السياسي ويتمثل في مراجعة قانوني الأحزاب والجمعيات، ومراجعة القانون الانتخابي وتعديله “بما يحقّق تماسك الحياة السياسية”. وتطالب وثيقة الاتحاد استكمال إحداث المحكمة الدستورية بعيدا عن المحاصصة الحزبية، وتقييم أداء الهيئات الدستورية واستكمال تركيزها، فضلا عن تقييم تجربة الحكم المحلّي ومراجعة قانون الجماعات المحلّية بما يخلق التوازن بين عقلنة السلطة المحلّية واحترام الدستور ووحدة الدّولة. في المجال الاقتصادي، دعت المبادرة إلى الإسراع بفتح حوار وطني يؤسّس لمنوال تنموي بديل دامج ومستدام يكرّس العدالة الاجتماعية والجبائيّة والتّوزيع العادل للثّروات، حسب ما جاء في نص وثيقة المبادرة.

أمّا فيما يتعلّق الجانب السياسي، فقد أكدت المبادرة على ضرورة الانطلاق في حوار مجتمعي حول طبيعة النظام السياسي يتواصل خارج رزنامة الحوار ولا يتقيّد بسقفه الزمني، ويمكن أن تؤدي التوافقات بشأنه لاحقا إلى التفكير في تعديل النظام السياسي أو تغييره.

تعديل النظام السياسي يعني إجراء تنقيح للدستور وطرحه على الاستفتاء، وهو ما يدعو إلى التساؤل حول مدى جدية هذا التوجه الذي يدعو للاستفتاء على تغيير الدستور في حين يشترط عدم تشريك أكثر من نصف أعضاء البرلمان في هذا الحوار.

وقد جاءت المبادرة في شكل برنامج سياسي عام يمكن أن يكون أرضية لجبهة انتخابية، أكثر منها مبادرة سياسية واقعية تأخذ بعين الاعتبار الأدنى المشترك بين مختلف الأطراف المتنازعة.

كل ذلك يدعم فكرة أن قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل كانت مسكونة بهاجس تحقيق انتصار سياسي شبيه بما حققه الاتحاد زمن حسين العباسي، واستحق من أجله جائزة نوبل للسلام إلى جانب بقية المنظمات الوطنية. انتصار يحتاجه الاتحاد وأمينه العام نور الدين الطبوبي للتغطية على مخلفات تغيير الفصل 20 من قانون الاتحاد الداخلي والذي سيمكنه من الاستمرار في قيادة المنظمة العريقة لأكثر من دورتين. لكن هل يمكن أن نستحم في نفس النهر مرتين؟