mosquees-tunisie-statistiques

تسعى الدولة، منذ أشهر، إلى استعادة دُور العبادة “الخارجة عن السّيطرة”. فحسب وزارة الداخليّة، استطاع المتشدّدون الإسلاميون وضع أياديهم على أكثر من ألف مسجد عقب ـ14 جانفي 2011. ولكنّ تدهور الوضع الأمنيّ واقتراب الاستحقاق الانتخابيّ، دفعا الدولة إلى التسريع في هذا الإجراء المتأخّر نسبيّا لتحييد هذه الفضاءات العامّة التي سيطر عليها المتشدّدون واستغلّوها لنشر أفكارهم الدعويّة والترويج للتحزب الديني.

وبعد كثير من التردّد، قررت الدولة أن تلعب دور “الرّاعي للشأن الدينيّ” كما نصّ على ذلك الدستور التونسيّ. ولكنّ التناقضات التي أسّست للمرجعيّة الدينيّة ما زالت تحول دون هذا الدور العَلمانيّ (secular) الذي يعتبر حجر الأساس في صياغة العلاقة بين ما هو اجتماعيّ وما هو سياسيّ في الدولة. فالشّأن الاجتماعيّ يستمدّ رمزيّته من قدرة السلطة على ضمان العيش المشترك وفق مساحة الحريّة التي تمنح للمواطنين.

ولكن، على غرار الدين، تستغلّ السياسة بدورها المسميّات العقائديّة، معتمدة في ذلك على التناقض الذي تغلّفه بقيم الاعتدال والتسامح. وفي هذا الإطار، فإن التسابق نحو السيطرة على المساجد، عقب 14 جانفي 2011، لا يدع مجالا للشكّ في أنّ مسألة حياد الدولة تجاه المسألة الدينيّة لا تعدو أن تكون الشجرة التي تحجب الغابة.
وهو ما أثبتته معضلة المساجد والأئمة التي كشفت عن هشاشة العقيدة وإفراغها من معانيها لصالح شكليات تنأى بالعبادة عن دورها الروحيّ و التعبّدي.

وتنبع التحديّات التي تواجهها وزارة الإشراف في الوقت الحاضر من التطويق المفرط للشؤون الدينية. ولكنّ المؤكّد هو أنّ تعديل مسار طويل المدي للعلمنة يبدأ مع وضع سياسة عمومية واضحة المعالم لإدارة الشّأن الدينيّ.

mosquee-crise-tunisie

الدولة “راعية الدين”

لقد شرعت الحكومة في تحييد دُور العبادة وفق ما نصّ عليه القانون، إذ منذ شهر جويليّة 2014، وجّهت إنذارات للعديد من المساجد وأغلقت البعض الآخر. وقد أثارت هذه الإجراءات حفيظة النوّاب الإسلاميين والأئمة المتشدّدين الذين اعتبروا مثل هذه الخطوة مسّا من حريّة المعتقد وانتهاكا لحرمة دُور العبادة. وقد أعلن في هذا السياق خطيب مسجد صفاقس رضا الجوّادي أنّ ما يحدث هو حرب على الإسلام، في ما اعتبر إمام جامع الزيتونة حسين العبيدي الإجراءات الحكوميّة تهديدا للديمقراطيّة. إلاّ أنّ المفارقة الأهمّ جاءت على لسان حبيب خضر نائب حركة النهضة في المجلس الوطني التأسيسيّ والمقرّر العام للدستور الذّي صرّح أنّ “حريّة الضمير في تونس في خطر”!
فقد اعترضت الكتلة “الإسلامية” داخل المجلس الوطني التأسيسي على الفصل المعنيّ بحرية الضمير خلال صياغة الدستور، لتستعمله بعد ذلك خالطة بين الحجّة العقائدية ومبادئ الحريّات الأساسيّة. وللتذكير، فإن المادتين الأولى والسادسة من الدستور كانتا محلّ نقاشات مطوّلة ومريرة أدت في نهاية المطاف إلى المقايضة بين الكتل السياسية. وأفضت إلى التصريح بعَلمانيّة الدولة من جهة وإخضاع الحريّات الفرديّة وخصوصا حريّة المعتقد لسلطة المقدّس.
وهكذا، تم الإبقاء على “الإسلام دين الدولة” في المادة الأولى من دستور 26 جانفي 2014، وتكريس العلاقة المباشرة غير القابلة للنقض بين الدولة والدين

تونس دولة حرة ومستقلة وذات سيادة، الإسلام هو دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها. وهي مادّة لا يمكن تعديلها.المادة 1 من الدستور

هذه المادة تضمن عَلمانيّة الدولة. فالدولة مكلفة بالتدخّل في الشأن الدينيّ، بخلاف الدولة العِلمانيّة (laïc) المحايدة تماما، إذ أنّها تضمن الحياد الدينيّ ولكنّها لا تكون محايدة. ولن نعود هنا إلى الاختلاف بين الدولة العَلمانيّة (secular) والدولة العِلمانيّة (laïc)، فقد سبق لـزميلنا “رياض القرفالي” أن تناول هذه المسألة بإسهاب وتحليل معمّق. ولكنّنا سنركّز على عَلمنة الدولة التونسيّة.

وتتمثل العَلمانيّة في نقل الوظائف والممتلكات من تحت نفوذ السلطة الدينية إلى المجال العمومي. “وبذلك، فإنها تعزّز القيم المدنية التي هي بحكم طبيعتها، مشتركة بين جميع المواطنين. هذه العقلنة للعلاقة بين المواطنين وللقيم الاجتماعية المشتركة تضمن عقدا اجتماعيا ديمقراطيا، بدونه تصبح الدولة الحديثة وهما في حداثتها السياسيّة”. ومثلما تؤكده المادة 6، فإن أولويّة السياسيّ على الدينيّ تسمح ب “رعاية المعتقدات الدينية لكل فرد في المجال العام”.

الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي.
تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على العنف والكراهية وبالتصدّي لها.الفصل 6 من الدستور التونسي

إنّ جهاز الدولة ملزم، بحسب هذا الفصل، بحماية حريّة المعتقد عند الاقتضاء إذا ما تمّ المساس بها. هذا وتشمل الحرية الدينية حرية المعتقد، وحرية الضمير وحرية العبادة. وفي المقابل تبقي حريّة ممارسة المعتقد مشروطة بتحييد المساجد عن العمل السياسيّ من خلال الفصل بين الدين والانتماء الحزبيّ. فأحد أهمّ أشكال الحياد تتمثّل في اعتبار دور العبادة خدمة عموميّة، تماما كما هو الحال بالنّسبة إلى الإدارات، كما جاء في الفصل 49 من القانون الانتخابيّ.

وفي المقابل، فإنّ دسترة هذه الحريّة الأساسية، أي حريّة المعتقد، تتعارض مع مبدأ “حماية المقدّس”. فهل يمكن التوفيق بين اللاعقلانيّة والقانون الوضعي؟ إن حماية المقدّس لا يمكن أن تتمّ بأيّ حال من الأحوال دون المسّ من حريّة المعتقد. لا شَكَّ أنه في نظر القانون، لا يمكن احتواء المقدّس أو تحديده. مع ذلك، لو تُركت هذه الفقرات الثلاث التي جاءت في الفصل السادس إلى سلطة تقدير القاضي، فقد “يترك المجال مفتوحا أمام التأويلات التي يمكن أن تصل إلى تجريم الحريّة باسم المساس بالمقدّس أو التحريض على العنف“.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المادة 5 من دستور عام 1959 قد نصّت كذلك على الحريّة الدينيّة، إذ ورد فيها أن “الجمهورية التونسية تضمن حرمة الإنسان وحرية الضمير وتحمي حرية ممارسة الشعائر الدينيّة بشرط ألا تخلّ بالنظام العام “. فنلاحظ أن المنظومة الثلاثية الكلاسيكية التي تتألف من الأمن وحماية الأخلاق والنظام العام هي التي أسست للتناقضات. فهل يمكن للجهاز الأمنيّ التدخّل ومنع أو وقف الإجراءات التي تعتبر مسّا من المقدّس إذا لم يكن المقدس معرّفا؟ وهل ستتمكّن هيئة مختصة كالمجلس الأعلى الإسلاميّ مثلا من تعريف مفهوم المقدس؟

الشجرة التي تحجب الغابة

في أعقاب الرابع عشر من جانفي 2011، فقدت الدولة تدريجيا سيطرتها على العقول. وقد تجلّت ردّة الفعل تجاه عقود من التضييق على الحريّة الدينيّة في التهافت على المساجد تهافتا لم يخل من العنف. ومع وصول حركة النهضة الإسلامية إلى سدّة الحكم، تحول المسجد من جديد إلى نقطة ربط بين المعتقد والانتماء الحزبيّ. وأصبحت دور العبادة، عبر الخطب التي تلقيها الشخصيات الرسمية، امتدادا للمنابر السياسية والإعلامية التي تأسّس للسلطة.

فمثلا، في نوفمبر من سنة 2013، وخلال خطبة الجمعة، صرّح رئيس حركة النهضة بأنّ المعارضين لمشروع “قانون الأوقاف” إنّما هم معادون للإسلام، بينما كان هذا المشروع محل نقاش في المجلس الوطني التأسيسي. وقد تحوّلت هذه المربّعات العقائديّة، بعد تملّسها من رقابة الدولة، إلى منابر لترويج الأفكار والإيديولوجيات الشموليّة. فمنها انطلقت الاتهامات بالردّة ضدّ الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذين اغتيلا في ما بعد. ولا ننسى الدور الذي لعبه جامع الفتح في الهجوم ضدّ السفارة الأمريكيّة وجامع اللخمي في التحريض على العنف ضدّ الاتحاد العام التونسي للشغل، كما لا تغيب عن الذاكرة حادثة إمام الزيتونة الذّي دعا إلى قتل الفنّانين “الملحدين” الذّين شاركوا في المعرض التشكيلي بقصر العبدليّة.

غير أن أزمة المساجد كشفت أيضا عن هشاشة وضعية الأئمة نتيجة عقود من “الإحتواء” السياسي الذي همّش المضمون العقائدي لصالح المظاهر الخارجية للعبادة. وذلك ما تثبته العوائق التي تواجهها وزارة الشؤون الدينيّة اليوم.

العائق الأول: 96% من ميزانيّة الوزارة مخصّصة للرواتب ومنح الإطارات، البالغ عددها 18000 عون، بما نسبته ضعف العدد الذّي كان يعمل بالوزارة سنة 1988. مع العلم أنّ وزارة الشؤون الدينيّة قد بلغت ميزانيتها لهذه السنة 88,250 ألف دينار، وهي تعتبر واحدة من أصغر الميزانيات لسنة 2014 وتساوي تقريبا ميزانيّة وزارة شؤون المرأة والأسرة (86,059 ألف دينار)، ولكنّها تظل بعيدة كل البعد عن ميزانيّة وزارة الداخليّة (2135,790 ألف دينار) التي رفّع فيها ب136 مليون دينار استجابة للظرف الأمني العاجل. مع العلم أنّ وضعية دور العبادة هي في صميم مهامّ قوّات الأمن الوطني. وما يثير التساؤل، هو استمرار هذا التفاوت الكبير في الميزانيات، وعدم إقرار زيادة في ميزانيّة وزارة الشؤون الدينيّة على الرغم من المهام العسيرة الموكلة إليها.

فقد اتضح مثلا أنه يصعب على الوزارة تعويض الأئمة التكفيريين المطرودين (289 إماما سنة 2013)، لا فقط بسبب الرواتب الضعيفة “للإطارات المسجدية”، بل وأيضا بسبب الخطر المحدق بحياتهم.

العائق الثاني: يبدو أن تدني رواتب الإطارات المسجدية مرتبط أساسا بتدنّي تعليمهم، مما يجعل مهمتهم أقرب إلي التطوّع منها إلى التوظيف. وتبرز المفارقة من خلال قانون 1988 الخاصّ بالمساجد الذّي ينصّ على أنّ الأئمة الذّين يتقاضون رواتب من الحكومة هم وحدهم المخوّلون بممارسة مهامهم، وذلك وفق “مراكزهم المهنيّة المختلفة” ومستواهم التعليميّ. فهناك خطيب الجمعة، وإمام الصلوات الخمس والمؤذّنون والمكلّفون برعاية المساجد. ويتقاضى هؤلاء المكلّفون منحة رمزيّة تبلغ 90 دينارا شهريّا، في حين تبلغ منحة الأئمة 200 دينارا. كما صرح وزير الشؤون الدينية أن نسبة الأئمة الحائزين على شهادات من جامعة الزيتونة تبلغ 4.8%، بينما تقدر نسبة المتخرّجين من اختصاصات جامعيّة أخرى ب44.9%، منهم 28.3% لم يتجاوز تعليمهم الثانويّ (البكالوريا أو أقلّ)، و12.6% لم يتخطّ المرحلة الابتدائية. وفي الأثناء أعلنت وزارة الإشراف عن إحداث المعهد العالي للخطابة والإرشاد الديني بتمويل حكوميّ، في شهر أكتوبر الماضي بالقيروان. وسينطلق هذا المعهد بخمسين طالبا سيخضعون لمناظرة لمزاولة تكوينهم والحصول على شهادة تعادل شهادة أستاذ تعليم ثانويّ، مما يرفع سقف الآمال عاليا. لكن، إلى حد كتابة هذه الأسطر، لم يتمّ الكشف عن تفاصيل هذا التكوين الذّي سيتلقّاه “أئمة المستقبل”.

العائق الثالث: في الوقت الذّي ما تزال فيه أجور الأئمة ضعيفة وتكوينهم العلمي ضحلا، ازداد عدد المساجد بشكل ملحوظ. فإلى حدود شهر جوان من سنة 2014، تمّ احصاء 5146 مسجدا وجامعا، مسجّلين بصفة رسمية وخاضعة لتراتيب وزارة الشؤون الدينيّة، بزيادة بلغت 500 بيت عبادة عن 4627 تمّ تعدادها في مارس 2010.

النقطة المثيرة في توزيع المساجد في مختلف مناطق البلاد، أنّه وخلافا للفكرة السائدة القائمة على أنّ القيروان، المدينة المقدسة الرابعة لدى المسلمين، تحتوي على أكبر عدد من المساجد (391)، فإنّ مدينة صفاقس هي من تحتلّ الصدارة ب 524 مسجدا و جامعا.

وقد استطاع المتشددون الإسلاميون، عقب 14 جانفي 2011، أن يضعوا أياديهم على أكثر من 1000 مسجد كما جاء في تصريح الناطق الرسميّ باسم وزارة الداخليّة محمد علي العروي. هذا وقد تمّ تشييد 90 مسجدا دون ترخيص حسب بلاغ وزارة الشؤون الدينيّة، كما أنّ 149 مسجدا كانت لا تزال خاضعة لسيطرة مجموعات سلفيّة إلى حدود شهر جويليّة الماضي، 25 منها ما زال خارج نطاق السيطرة إلى الآن. هذا وما يزال جامع الزيتونة تحت سيطرة الإمام العنيد حسين العبيدي الذّي أعلن استقلاله عن سلطة الإشراف وأعاد “التعليم الزيتونيّ الأصلي” إلى الجامع الأعظم.

وتجدر الإشارة إلى أن هؤلاء القادمين الجدد في المشهد السياسيّ والاجتماعي والدينيّ للبلاد، قد حوّلوا مقراتّ حزب التجمّع المنحلّ إلى مساجد بعد اقتحامها وفرض السيطرة عليها بالقوّة. وأشارت خريطة نشرت في الجريدة الأسبوعية “آخر خبر” في شهر ديسمبر 2013، إلى أنّ أغلب المساجد التي تعود للمجموعات السلفيّة تتركّز في العاصمة التونسية أي في قلب مركز القرار والسلطة السياسيّة.

ابتكار سياسة جديدة لإدارة الشأن الديني

وهكذا تستمرّ المغالطة في التعامل مع المسألة الدينيّة. فعلى امتداد خمسين سنة، اعتبر المثال العلمانيّ التونسيّ فريدا من نوعه. ولكنه اتضّح جليّا أنّ “الخصوصيّة التونسيّة” لم تستطع الصمود إلا وهي مدبجة بمبادئ شبه كونية. ويبدو أن معالجة هذه المسألة وفكّ التداخل بين الدين والدولة سيكون عسيرا، ولكنّ ذلك حتميا إذا ما وضع في إطاره الكوني النابع من الحاجة الملحّة للشعوب للتغيير السياسيّ والاجتماعي.

وإن كانت الدولة العلمانيّة تعيش اليوم في أزمة، فإنّ ذلك يعود “لتعصّب الكونية”، (حسب تعبير بورديو) الذي أنتج أنماطا استبداديّة شملت الحداثيّين والمحافظين على حدّ سواء.

وما تحتاجه تونس اليوم هو مشروع وطني كبير لإعادة تأهيل الخطاب الديني الذي كان مهمّشا في السابق، كما أقر بذلك وزير الشؤون الدينية. ويضل من اللازم “استبعاد تظاهر هؤلاء وأولئك ب”الورع الزائف”، وهو تظاهر مفض إلى الإفراط في الرفع من قيمة المتغير الدينيّ، بدلا من الاستجابة للانتظارات السياسية، خصوصا في ما يتعلّق بالديمقراطيّة والتعدّدية” .

إذا كانت “أزمة المساجد” قد حدت من احتكار الدولة لإنتاج وتوجيه المعايير الإسلامية، فإن خطاب المساجد ما يزال يُستخدم للتأثير في المجال السياسي. ويسهل في الواقع هذا الأمر، بطريقة حتمية، ما تتميز به الديموقراطية من طابع التأثير والإغراء في كل ما يتعلق بالعمل على جلب الأصوات والتّأييد الشعبيّ.