حسب مراسلة تحصّلت عليها ”نواة“ وردت من التفقدية الإدارية والمالية بوزارة الصحة إلى وزارة الصحة بتاريخ 11 جانفي 2023، فإن جمعية الهلال الأحمر التي تستفيد من التمويل العمومي ملزمة بنشر تقرير سنوي يشمل وصفا مفصلا لمصادر تمويلها ونفقاتها إلى محكمة المحاسبات. وحسب المراسلة ذاتها، فإنّ مُراجع الحسابات لم يتمكن من التدقيق في حسابات التصرف لسنوات 2018 و2019 و2020 و2021 وهو ما يعد مخالفة جسيمة لمرسوم الجمعيات ويستوجب إقرار عقوبات حيث لا يمكن أن تصادق الجلسة العامة على القائمات المالية إلا على ضوء تقرير مراجع الحسابات، واقترحت التفقدية إحالة الملف إلى الكاتب العام للحكومة وإلى محكمة المحاسبات حسب التفقدية الإدارية والمالية لوزارة الصحة. إذ يحتّم الفصل 44 من مرسوم الجمعيات على كل جمعية تستفيد من المال العمومي تقديم تقرير سنوي يشمل وصفا مفصلا لمصادر تمويلها ونفقاتها إلى محكمة المحاسبات.

يقول عضو سابق في الهيئة المديرة للهلال الأحمر التونسي في تصريح لنواة، إنه راسل شخصيا وزارتي الصحة والعدل ومحكمة المحاسبات لتنبيههم بمسألة مخالفة المنظمة لقانون الجمعيات، غير أن الوزارات المعنية لم تتجاوب مع المراسلات، ويضيف المصدر: ”منذ العام 2018، لم تمكّن الهيئة المديرة مدقق الحسابات الداخلي من القائمات المالية السنوية وفق المقاييس الحسابية المتعارف عليها، واكتفت في كل سنة بعرض ملخص للأنشطة والمصاريف وهو ما لا يستجيب للقانون. طيلة وجودي في المنظمة، عاينت عدم وجود قائمات موحدة لكل المصاريف والمداخيل المجمعة لأنشطة الفروع الجهوية والمحلية والمركزية، ما يجعل مسألة القيام بالتدقيق المالي للمداخيل والمصاريف عملية مستحيلة“.

أكد عضو الهيئة المديرة السابق، الذي تحفظ على ذكر اسمه، تقديم شكاوى في سنوات 2020 و2021 و2022 لمحكمة المحاسبات، إلا أنها لم تتجاوب معها، ووجهت القضية الاستعجالية التي قدمها أعضاء من الهيئة المديرة لطلب تعيين متصرف قضائي على رأس المنظمة، بحكم أولي يقول إن عدم تعيين مراجع حسابات وعدم التصريح بالقائمات المالية مدعمة بالوثائق المحاسبية لا ترتقي لدرجة أخطاء التصرف.

تجاوز واضح للقانون

ينص الفصل 41 من المرسوم عدد 88 المنظم للجمعيات على ضرورة نشر المساعدات والتبرعات والهبات الأجنبية وذكر مصدرها وقيمتها وموضوعها بإحدى وسائل الإعلام المكتوبة وبالموقع الإلكتروني للجمعية في ظرف شهر من تاريخ قرار طلبها أو قبولها، مع إعلام الكاتب العام للحكومة بكل ذلك بمكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ في نفس الأجل، غير أن موقع الهلال الأحمر يخلو من أي تقارير عن الهبات والتمويلات التي تلقاها من شركائه الأجانب مثل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، قبل أن تضع حدا لتعاونها مع الهلال الأحمر التونسي بسبب تأخّره في تنفيذ المشاريع المشتركة في العامين 2018 و2019، وعدم إنفاق ميزانية الأنشطة المقدرة بأكثر من 170 ألف دينار، إضافة إلى عدم تجاوبه مع المسؤولين عن المفوضية، وهو ما ذكرته اللجنة الدولية لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في تقريرها السنوي للعام 2022، إذ تذكر اللجنة أنها قدمت للهلال الأحمر التونسي ما يقارب 712 ألف دينار لمجابهة الكوارث الطبيعية في ولايات جندوبة وسليانة والكاف والقيروان وقفصة والقصرين، إلا أنّ النفقات لم تتجاوز 80 ألف دينار فقط حسب التقرير.

أوت 2023 الحدود التونسية الليبية، خيمة للهلال الأحمر قرب المنطقة التي طرد إليها المهاجرون من افريقيا جنوب الصحراء إثر موجة العنف بمدينة صفاقس-وزارة الداخلية

وخلال العدوان على غزّة، أطلق الهلال الأحمر التونسي حملة واسعة لجمع التبرّعات لفائدة الهلال الأحمر الفلسطيني، وطالبت منظمة أنا يقظ الهلال الأحمر بنشر قيمة التبرّعات العينية، مستنكرة عدم وضع الهلال الأحمر لمنظومة أو استراتيجية واضحة تضمن إمكانية تعقّب تدفّق التبرعات النقدية ومآلها وكيفية معالجتها وتوزيعها، حتى يتسنّى للمواطن متابعة تبرّعاته، خاصّة وأنّه إلى حدّ هذه اللحظة لم ترسل الدولة التونسية إلاّ طائرتين فقط من المساعدات بتاريخي 15 أكتوبر و13 نوفمبر 2023، وفق بيان المنظمة.

كما ذكر تقرير اللجنة الدولية لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر أنه ”نظرا لعوامل مجهولة ونقص في التواصل مع جانب المنظمة الوطنية المنفذة للمشروع (الهلال الأحمر)، فشل المشروع في المضي كما هو مخطط له، مما حال دون تنفيذ الأنشطة والوصول إلى الأهداف التي تم تحديدها. ومع ذلك، ظل الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر حريصا على تقديم كل الدعم المطلوب لضمان وجود إدارة كافية للكوارث والاستجابة لها على المستوى الدولي. كما لم يكن من الممكن التحقق من تنفيذ الأنشطة المخطط لها في مسألة ضمان المأوى وسبل العيش والاحتياجات الأساسية والمياه والصرف الصحي والنظافة والصحة، ولم يكن من الممكن تحديد النفقات نظرا لعدم وجود تقارير من الجمعية الوطنية المنفذة“.

راسلت نواة اللجنة الدولية لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في ثلاث مناسبات، غير أن اللجنة لم تجب على المراسلات بخصوص تحصلها على التقارير المالية للمشاريع التي نفذها الهلال الأحمر وتحصل خلالها على دعم مالي من اللجنة، كما لم تتحصل نواة على إجابة من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بخصوص استرجاعها المستحقات التي لم يتم صرفها من قبل الهلال الأحمر قبل إلغاء عقد الاتفاق، في حين اكتفى مكتب المنظمة الدولية للهجرة بتونس بالإجابة على استفسار نواة بخصوص التقارير المالية للهلال الأحمر المتعلقة بأنشطته المدعومة من المنظمة، بالإجابة بأنه لا يملك أية معلومة في هذا الخصوص.

يقول مصدر تحفظ على ذكر اسمه، لنواة إن مسؤولتين في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين واللجنة الدولية لجمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر بدأتا في التدقيق بصفة أحادية، في مسألة صرف أموال الدعم اللتين قدمتهما المنظمتان، لكن توقفت عملية التثبت بعد نقلة المسؤولتين قبل عامين تقريبا، من تونس، مضيفا أن عملية التدقيق في الحسابات لا تشمل أيضا الفروع الجهوية والمحلية التي تتلقى دعما من البلديات والولايات، ويؤكد المصدر لنواة أن الفرع الجهوي للهلال الأحمر بسوسة لا يملك حسابا بنكيا، وهو ما يعتبر تجاوزا كبيرا للقانون.

في العام 2022، عين الهلال الأحمر التونسي مراقب حسابات خارجي من أجل التدقيق في عملياته المالية لكنّه تخلى عن المهمة بعد رفض الهيئة المديرة آنذاك مده بالوثائق اللازمة للقيام بمهمته، ولم يعين مراجع حسابات خارجي منذ تلك الفترة.

 أزمة تسيير

ألقت مسألة سوء التصرف في الموارد المالية بظلالها على تركيبة المكتب الوطني مبكرا. ففي العام 2019، تقدمت أمينة المال للمنظمة ليلى الماطري باستقالتها من هذه الخطّة بعد عام من مباشرتها لمهامها، وذكرت في نص استقالتها أنه تم حجب معطيات مالية كثيرة عنها مما عقّد مهمة إعداد التقرير المالي لسنة 2018، وذكرت أنه تم فتح حسابات بنكية ”منفردة وسرية“ دون إمضائها وفق ما ينص عليه القانون، كما لم يتم تمكينها من الاطلاع على حسابات الهلال الأحمر المفتوحة باسم المنظمة.

 8 جويلية 2023 قرطاج، الرئيس قيس سعيد يستقبل رئيس الهلال الأحمر عبد اللطيف شابو ويسمح لمنظمته دون غيرها بالوصول إلى مشارف الحدود التونسية الليبية لتفقد مهاجرين ألقت بهم قوات الشرطة في الصحراء-رئاسة الجمهورية

في منتصف العام 2019، علق أعضاء الهيئة الجهوية للهلال الأحمر بمدنين الأنشطة التابعة لبرامج الهجرة واللجوء مؤقتا وذلك بسبب عدم خلاص معاليم تأجير مكتب المنظمة بمدنين وعدم تشريك الهيئة وتأخر تحويل الأموال المعتمدة لتسيير الأنشطة التابعة للمهاجرين، وانعدام التواصل من قبل رئيس الهلال الأحمر مع الهيئة الجهوية. وفي 27 فيفري 2020، أي في منتصف المدة النيابية للرئيس الحالي عبد اللطيف شابو، سحب المكتب الوطني للهلال الأحمر الثقة من رئيس المنظمة، لكن تم الطعن في قرار سحب الثقة بواسطة قضية جزائية قدمها الرئيس عبد اللطيف شابو، حُسمت يوم 4 أكتوبر 2022 بعدم قبول الطعن.

حاول موقع نواة التواصل مع رئيس الهلال الأحمر عبد اللطيف شابو غير أن هاتفه كان خارج الخدمة، في حين ذكر مسؤول عن مستودع المنظمة المحاذي للمقر الجديد لها في مقرين، تواصلت معه نواة، أنه لا يوجد مسؤول عن الإعلام، وليس هناك إمكانية للتواصل مع أي مسؤول في مكتب الهلال الأحمر بسبب عدم وجود هاتف أرضي هناك.

منذ العام 2019، يخوض عدد من المنشقين عن الهيئة الوطنية للهلال الأحمر التونسي معارك من أجل تنحية الرئيس الحالي للهلال الأحمر التونسي الذي يصفونه بغير الشرعي بعد سحب الثقة منه في العام 2020. ورغم مراسلتهم لرئاسة الجمهورية لإطلاعها على ما سمّوه بالتجاوزات الحاصلة في هذه المنظمة ودعوتها لفتح تحقيق من أجل التدقيق المالي لحساباتها، إلاّ أنّ الرئيس قيس سعيد استقبل في جويلية الماضي عبد اللطيف شابو في القصر الرئاسي خلال أزمة المهاجرين بصفاقس، وهي رسالة اعتبرها من يقودون ما يسمونه بالمسار التصحيحي داخل الهلال الأحمر غير مطمئنة. خاصّة وأنّ قيس سعيّد يلمّح في كلّ مرّة إلى سوء التصرّف والفساد المالي في المنظّمات، لكنّه يغضّ الطرف عن التجاوزات الحاصلة في الهلال الأحمر رغم التقارير وشبهات سوء التصرف التي تحوم حوله، بل قدمها كمثال يحتذى به في التطوع ونظافة اليد.