لم تكن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري بعيدةً عن التجاذبات السياسيّة منذ تأسيسها، ولم يكن من السهل استيعاب فكرة تفويض مهمّة تعديل المشهد السمعي البصري إلى هيئة مستقلة، عوضًا عن وزارة تُعنى بالشأن الإعلامي. ”المشاكل بدأت منذ الهيئة العليا لإصلاح الإعلام والاتصال، لأنّ الفاعل السياسي لم يقبل بعدُ فكرة الإعلام المستقل ودوره في المسار السياسي“، يقول هشام السنوسي لنواة. هيئة إصلاح الإعلام المعروفة باسم ”الإينريك“ تكوّنت بعد الثورة في 02 مارس 2011 بمقتضى المرسوم عدد 10 لسنة 2011، لتتولّى مهمّة تقييم وضع الإعلام وإعداد تصورات للارتقاء بالمشهد الإعلامي، إلى جانب اقتراح التشريعات اللازمة لتجسيم أهداف الثورة وضمان صحافة مستقلة عبر هياكل تعديلية مستقلة في قطاع الصحافة المكتوبة والقطاع السمعي البصري وقطاع الإعلام الإلكتروني. في الأثناء، تعهّدت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي بإعداد مرسوم متكامل ينظم حريّة التعبير ويضع إطارا تشريعيا لهيئة مستقلة تعدّل المشهد السمعي البصري، وبعد نقاشات وتحركات احتجاجية صدر المرسوم عدد 116 لسنة 2011 في 02 نوفمبر 2011 المُحدث للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، الهايكا.
إحداث فراغ في مجلس الهيئة
قبل إيقاف رواتب أعضائها بسنة، صدر بالرائد الرسمي يوم 24 جانفي 2023 قرار حدّد استثناء للعمل في القطاع العمومي لفائدة النوري اللجمي رئيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، يمتدّ من 01 أكتوبر 2020 إلى غاية 31 ديسمبر 2022، ما يعني إنهاء مهامّه على رأس الهيئة بدخول سنة 2023. وفي 06 فيفري 2023، أُحيل اللجمي رسميّا على التقاعد وفق مراسلة حكومية حسب بلاغ الهيئة، إثر انتهاء مدّة الاستثناء الّتي حدّدها قرار 24 جانفي. ثمّ أصدرت الهيئة تبعا لذلك بيانًا في 15 مارس 2023 حذّرت فيه من عواقب ”إحداث فراغ على رأس الهيئة بمساهمة رئيسها السابق واستثمار ذلك لمصادرة وظائفها خاصة مع عدم رد رئيس الجمهورية على طلب المجلس تعيين رئيس بديل“، معلنةً عن ”تعيين عضو المجلس صالح السرسي –وهو الأكبر سنا وكان يشتغل قاضيا من الرتبة الثالثة (رئيس دائرة بمحكمة التعقيب) قبل تقاعده والتحاقه بالهيئة- رئيسا مؤقتا لمجلس الهيئة إلى حين عرض مشروع القانون الأساسي المنظم للهيئة والقطاع على أنظار مجلس النواب وتسليم العهدة لمجلس جديد“. لكنّ يبدو أنّ نيّة السلطة التنفيذيّة تتّجه نحو إلغاء الهيئة ليكون مصيرها مثل مصير الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
تصعيد ضدّ السلطة
يبدو أنّ الأزمة بين قرطاج والهايكا قد تأجّجت مع المراسلة التي توجّهت بها الهيئة إلى السلطة التنفيذية والتشريعية يوم 25 ماي 2023، دعت من خلالهما الحكومة والبرلمان إلى تحمّل مسؤولياتهما في ما آل إليه الوضع من ”انتكاسة حقيقية وتراجع واضح عن أهم مكتسبات الثورة وهي حرية التعبير والصحافة“، إلى جانب الانتقادات الموجّهة إلى المرسوم 54 وتوظيفه ”كأداة لتكميم الأفواه وإعادة إنتاج ثقافة الخوف والرقابة الذاتية“. ”على الأرجح أنّ مضمون هذه المراسلة وملاحظاتنا حول حرية التعبير وممارسة العمل الصحفي هو السبب في قرار إيقاف أجور أعضاء مجلس الهيئة“، يقول هشام السنوسي، مضيفًا: ”ضُربت رقابة إداريّة على الهيئة منعتنا من مراسلة منظورينا، ولدينا ستّون مراسلة لم تخرج بعدُ من الهيئة“، وهو ما أشارت إليه الهايكا في بيانها، حيث انتقدت ”السياسة المرتبكة“ للحكومة وعرقلة عمل الهيئات التعديلية من خلال فرض رقابة إدارية علي أعمالها، من خلال ”وضع اليد على مكتب الضبط ومصادرة ختم الهيئة ومنع صدور المراسلات والقرارات، وهو ما يعتبر مسا سافرا من استقلاليتها واستحواذا صريحا على صلاحياتها التقريرية“.
لكنّ سبب الخلاف بين الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري والحكومة يعود إلى رفض الهيئة الإمضاء على قرار هيئة الانتخابات حول قواعد تغطية الحملة الانتخابية لتشريعيات 2022، ولجوئها للقضاء في مرحلة لاحقة لإبطال هذا القرار الّذي استحوذت من خلاله هيئة الانتخابات على صلاحية مراقبة التغطية الإعلامية لفترة الحملة الانتخابية، التي تعتبر من صميم اختصاص الهايكا.
خلل هيكلي في المنظومة التعديلية
من جهته، يحدّد الباحث في علوم الإعلام والاتصال الصادق الحمامي عناصر ما يسمّيه ”الانهيار النّسقي للنظام الإعلامي“، ويقول لنواة: ”النّخب التي حكمت منذ الثورة لها نفس التصور فيما يتعلّق بقطاع الإعلام، وثقافتها قديمة“، مُشيرًا إلى سعيها المتواصل إلى إبقاء الإعلام تحت تصرّفها.
أمّا عن عناصر فشل الانتقال الإعلامي، فهي تتحدّد بثلاث عوامل رئيسية. أوّلا، إرساء إصلاحات جزئية في قطاع الإعلام منذ الثورة. ”إصلاح المنظومة لم يكن شاملا، والإصلاح الجزئي لا يمكنه أن ينجح“، يوضّح الحمامي، مضيفًا أنّ النظام الإعلامي الّذي تمّ إرساؤه منذ 2011 عبر المرسومَين عدد 115 و116 فشل، بدليل تعطّل الإعلام العمومي وتحوّله شيئًا فشيئًا إلى إعلام حكومي، بالإضافة إلى عدم تنوّع المادّة الإعلامية في وسائل الإعلام الخاصّة التي أطلق عليها تسمية ”إعلام الأشباح“.
أمّا العنصر الثاني، فيعود إلى فشل السياسات العمومية لقطاع الإعلام. ”السياسة العمومية هدفها عدم إصلاح الإعلام وتركه ينهار، من ناحية الحوكمة والإدارة والاستقلالية وطرق التمويل وغيرها“، يقول الباحث في علوم الاتصال، خاصّة عندما فشل برلمان 2014-2019 والبرلمان الّذي تلاه في المصادقة على نصّ تشريعي يُنظّم ”الهايكا“ الدّائمة.
ثالثًا، يعتبر أستاذ علوم الإعلام والاتصال أنّ سياسة التعديل التي اتّبعتها الهايكا هي سياسة ”الحدّ الأدنى“، بمعنى اقتصار الهيئة على معاقبة القنوات المخالفة للقانون، والحال أنّ هذه القنوات نفسها لم تحترم ما ورد بكرّاس الشروط الّذي وضعته الهايكا. ”فكيف تعاقب الهيئة وسائل الإعلام على أساس البرمجة ولا تعاقبها لارتكابها مخالفات أخطر، مثل عدم تطبيق ما ورد بكراس الشروط“؟ يتساءل الحمامي، داعيًا إلى الابتعاد عن التفسيرات ”التبسيطية“ في تقييم الوضع الإعلامي، وأن تُعالج المسألة في كليّتها، بعيدًا عن الحسابات الضيّقة لكلّ طرف.
سوابق وضع اليد على الهايكا
خلال العهدة البرلمانية الأولى 2014-2019، كان صوت المكونات المدنية والسياسية عاليًا لتفعيل الهيئات الدستورية المستقلّة المنصوص عليها بدستور 2014، بما فيها هيئة الاتصال السمعي البصري. ولم يكن حذف كلمة ”المستقلّة“ من اسم الهيئة الدستورية مطمئنًا بالنسبة إلى عدد منها، ولكنّ الضمانات الدستورية والقضائية ويقظة المنظّمات غير الحكومية كانت كفيلة آنذاك بتبديد تلك المخاوف، ولو بشكل مؤقّت.
وعلى عكس كلّ الهيئات الدستورية المنصوص عليها بدستور 2014، فإنّ مشروع القانون المنظّم لهيئة الاتصال السمعي البصري الدائمة لم يُصادق عليه داخل الجلسة العامّة وإنّما لبث في لجنة الحقوق والحريات ونوقش في ثلاث مناسبات كانت مخصّصة للاستماع إلى جهة المبادرة ممثّلة في وزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني، فيما خُصّصت الجلستان الأخريان للاستماع إلى خبراء في مجال الإعلام. ثمّ تمّ إرجاء النّظر في مشروع هذا القانون نظرا لغياب روزنامة تشريعيّة واضحة للجنة وأيضا بسبب خلاف بين النوّاب حول سنّ إطار تشريعي شامل وموحّد ينظّم حرية الاتصال السمعي البصري وينصّ على إحداث هيئة تعديليّة، أو إعداد نصَّيْن قانونيَّين منفصلَيْن أحدهما يُقنّن مسألة الحريّة والآخر ينصّ على تنظيم الهيئة.
وُئد مشروع الهيئة الدستورية للاتصال السمعي البصري وظلّت الهايكا قائمة رغم انتهاء مدّة عملها فعليّا في 03 ماي 2019، أي بعد انقضاء ستّ سنوات من عهدتها الأولى المحدّدة قانونًا وفق الفصل 7 من المرسوم 116. لكن في ظلّ الفراغ المؤسساتي لا يمكن أن يظلّ المشهد السمعي البصري دون هيئة تعديليّة، خاصّة مع المساعي المتكرّرة لوضع اليد على قطاع الإعلام.
حيث تقدّمت كتلة ائتلاف الكرامة في 04 ماي 2020 بمبادرة تشريعية لتنقيح المرسوم 116، تهدف إلى تغيير تركيبة الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري بحيث تصبح منتخبة بالأغلبية المطلقة للنواب، مع تعويض نظام إجازات البث بالنسبة إلى الإذاعات والتلفزات بتصريح بالوجود. وكان هذا المشروع محلّ تجاذب سياسي ورفض من الهيئة التعديلية ومن طيف واسع من الصحفيين والناشطين، انتهى بنهاية برلمان 2019/2021.
هذه المناورات السياسية، وما رافقها من مشاريع تهدف إلى القضاء على استقلالية الهيئة، رافقتها شيطنة متواصلة خاصة من الأحزاب الحاكمة ضدّ الهايكا وأعضائها. عبث اشتد مع اقتراب المواعيد الانتخابية لسنة 2019، ففُتحت منابر المال السياسي الفاسد لتحريض المواطنين على الهيئة بمشاركة سياسيين من مختلف التوجهات السياسية بما فيها المعارضة، طمعا في الظهور الإعلامي وإن كان ذلك في قنوات خارجة عن القانون حوّلت صحافييها إلى مطبلين دائمين لصاحب المحطة.
واجهت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري منذ تكوينها مطبّات سياسيّة عدة، ورغم محاولاتها في كلّ مرّة افتكاك اختصاصها، إلا أنها جوبهت بقوّة التحالفات السياسيّة وسطوة الحكم. أما بعد 25 جويلية 2021 وامعان الرئيس قيس سعيد في سياسته الأحاديّة، باتت الهيئة محاصرة بترسانة قانونية وإرادة سياسيّة ماضية نحو إلغائها تمامًا، خاصة بعد تجرّئها على معاقبة التلفزة الوطنية بخطية مالية في ديسمبر 2022، بعد تعمد سعيد خرق الصمت الانتخابي في خطاب مباشر من مركز اقتراع على شاشتها.
iThere are no comments
Add yours