في منطقة حمام الأنف من الضاحية الجنوبية للعاصمة، يقع قصر من أقدم قصور البايات الذي كان وجهة ملوك تونس في القرن التاسع عشر للاستجمام. دار الباي الواقعة في منطقة حمام الأنف هي قصر شُيّد قي عهد الحسين بن علي الحسيني سنة 1750، ويقع على مقربة من المياه الحرارية. تحوّل هذا القصر بمفعول الزّمن والتاريخ من منتجع ملكي إلى ملجأ للمناضلة النسوية بشيرة بن مراد وعائلتها، بعد أن أصبحت من المغضوب عليهم في منتصف عهدة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ثم مأوى لما يقارب تسعين عائلة اتخذت من غرف أجنحته المتهالكة مسكنا لها في 2012، قبل أن تطُرد سنة 2020 بواسطة القوة العامة.

تاريخ حافل داخل بناية هشّة

عند الوقوف فوق رصيف الشارع الرئيسي في مدينة حمام الأنف المؤدّي شمالا إلى وسط العاصمة وجنوبا نحو ولاية نابل، يغطي محلان لبيع الورود الواجهة المتآكلة للقصر الحسيني، وكأنهما يحاولان إخفاء معالمه المتداعية. يشير بائع الورود إلى شرفة في الطابق الأول للقصر ويقول لنواة في ذلك الطابق عاشت عائلة الزهار التي تزوّجت منها بشيرة بن مراد، أتذكر هيأتها وهي تمشي نحو مدخل القصر المخرب حاملة كيسا به حاجياتها. كانت تعيش صحبة زوجها وابنه في كامل الطابق، ويبدو أنها كانت في عزلة حتى أنّي لا أستحضر زيارات متكررة لعائلتها.

تستحضر شيراز بن مراد ابنة شقيق بشيرة بن مراد آخر أيام حياة عمّتها وتقول لنواة:

”أتذكر بشيرة في بداية التسعينات حين استقرت بدار الباي، كنت أزورها أحيانا وكانت حالة ذلك المبنى مخيفة. كنت أزورها صحبة والدي بصفة القرابة التي تجمعنا ولم أكن واعية بتاريخها وبنضالها للدفاع عن حق المرأة في التعليم إضافة إلى دعمها للمقاومة ضد الاستعمار، إلى أن كبرت واطلعت على المراسلات التي تظهر التزامها السياسي بمقاومة الاستعمار. علمت أنها كانت تنظم عروضا موسيقية وتجمع مداخيل تلك العروض وترسلها للطلبة المقاومين والذين يدرسون في فرنسا. لا يمكن تعداد ما قامت به بشيرة بن مراد في سبيل مقاومة الاستعمار من جهة والدفاع عن حق المرأة في المساواة مع الرجل من داخل المنظومة الدينية، وقد يكون ذلك السبب في استبعادها في العام 1956 من قبل بورقيبة بعد عزل والدها الشيخ محمد صالح بن مراد الذي كان رئيس المحكمة الشرعية. عاشت بشيرة بن مراد قرابة العام في مبنى قصر الباي المتداعي بجراية قدرها 150 دينار وهي على كل حال كانت تقول دائما هكذا هي الحياة هناك أناس يزرعون وآخرون يحصدون“.

واجهة قصر دار الباي بحمام الأنف. نوفمبر 2023

لم يتغير حال دار الباي على ما كان عليه قبل ثلاثين سنة بعد وفاة بشيرة بن مراد، باستثناء جدران الآجر التي سدّت كل أبوابه الرئيسية، بعد إخلائه من العائلات التي تحوزت عليه بين سنتي 2012 و2020. يكفي أن يمد الزائر عنقه من القضبان الحديدية لأحد شبابيك المبنى ليرى حجم الخراب الذي طال البناية. ورغم ذلك، يمكن تخيل غرفة بشيرة بن مراد كما وصفتها رفيقتها السيدة القايد العضوة السابقة في الاتحاد النسائي، التي تقول:

انتقلت بشيرة من صلامبو للعيش بقصر الباي سنة 1992، كان المبنى أشبه بوكالة، وحين زرتها كانت تجلس فوق سرير حديدي ودعتني للجلوس بجانبها. آلمني وضعها. كانت بشيرة من نسل عائلة مرموقة وثرية وانتهى بها الحال في مبنى كهذا. سألتها بعد أن غاب اسمها قرابة ثلاثين عاما عن الإذاعة والتلفزة والصحف في تونس: ماذا فعلت بعد كل النشاط الذي قمت به؟ فأجابت: مكثت ببيتي، فسألتها وكيف كان هذا البيت؟ فردّت: بيت مظلم نوافذه مغلقة“.

جحود دولة الاستقلال لنضالات سابقة لأوانها

في 1955، طالبت بشيرة بن مراد بالمساواة التامّة بين المرأة والرجل وحقّ النساء في الانتخاب والترشّح، وهو ما عجّل بمحو المناضلة من الذاكرة الوطنية في فترة بناء دولة الاستقلال، وفق شهادات العائلة وقراءات بعض الباحثين، من خلال حلّ الاتحاد النسائي الإسلامي، وتعويضه بالاتحاد القومي النسائي التونسي الّذي يتزعّمه الحبيب بورقيبة. ووُضعت المناضلة تحت الإقامة الجبريّة إثر الاستقلال، وكأّنها عوقبت على افتكاك رأس المال الرمزي لدولة الاستقلال القائم على سرديّة تحرير المرأة.   

تذكر خديجة العرفاوي في بحث لها بعنوان ”بشيرة بن مراد رائدة نسوية“ أنه عند الاستقلال، أسس بورقيبة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية، غير أنه لم يعترف أبدا بالعمل الذي قامت به بشيرة بن مراد ولم يدعها حتى لاحتفالات عيد المرأة، ولم يُذكَر اسمها أبدا وتمّ محوها بالكامل من الذاكرة الجماعية للشعب التونسي على يد بورقيبة، وكأنها لم تكن موجودة من قبل. ولم يكن لبشيرة بن مراد خيار بعد ذلك سوى الابتعاد. وأسرّت للناشطة النسوية إلهام المرزوقي في مقابلة خاصة: ”بعد أن كنت رئيسة لهذه المنظمة-أي الاتحاد الوطني للمرأة التونسية- لمدة عشرين عاما، كان من المهين للغاية بالنسبة لي أن أشغل أي منصب في الاتحاد الجديد، لأنني نشأت على الشعور بالكرامة واحترام الذات“.

كانت بشيرة بن مراد تشعر بالجحود تجاهها، فتحدثت للمخرج منصف بربوش حسب مقال نشر في نواة عن فضلها في تقديم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة للباي حين أراد الانخراط في الحركة الوطنية، وكانت تحتفظ بصورة استقبالها لبورقيبة في الباخرة بعد عودته إلى تونس قبل الاستقلال بقليل.

توفيت المناضلة النسوية سنة 1993، في ركن منسيّ وسط مبنى متداعٍ. ولئن أنصف التاريخ ولو نسبيًّا بشيرة بن مراد بفضل نشاط الحركة النسوية واستعادة حريّة التعبير المسلوبة زمنَي بورقيبة وبن علي، إلاّ أنّ دار الباي ظلّت على حالها، كاشفةً العقاب الذي سلّطه بورقيبة على الحقبة الحسينية وعلى إرث البايات وقصورهم. ولم يبق لصورة القصر الملكي أثر سوى في بعض البحوث التي تتبعت ملامحه قبل أن يصبح خرابا.

بيت داخلي في قصر دار الباي يظهر الحالة المزرية لهذا المعلم المهمل – نوفمبر 2023

إهمال يطيح ببنيان تاريخي

لم يستطع قصر دار الباي بحمام الأنف الاحتفاظ بملامحه الفاخرة، غير أن وصف الباحثة بية العبيدي بلحاج في بحثها دار الباي بحمام الأنف في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: بدايات العمارة الاستشفائية في تونس”، يمكن أن يقدم تفصيلا عما كان عليه القصر، الذي بني سنة 1747 بمبادرة من علي باشا باي، قرب منابع المياه المعدنية. وكان القصر تخليدا لذكرى مامية باي المعروفة بالبية الكبيرة. وتحول القصر في القرن التاسع عشر إلى مقر شتوي للسلطة. تقول بية العبيدي بلحاج:

”تطل دار الباي على المسار القديم المعروف بطريق الساحل، وتضم جناحا يحتوي على حمام سباحة مخصّص للاستخدام الخاص للباي وعائلته، وخان يحتوي على غرف تطل على فناء مركزي واسع تصطف على جانبيه الأروقة. تم تجديده على يد حسين باي عام 1828، وتحول إلى قصر ضخم يتكون من طابق أرضي وطابقين ضخمين، تتخللهما عشرون نافذة، في عهد الناصر باي (1906-1922)، تم هدم الطابق الثالث من قبل السلطات الاستعمارية. أما الشرفة الأرضية فكانت مبنية بالزجاج بالكامل ومحاطة بحديقة وتم تزيين الصحن بحوض من الرخام، ويوجد في الطابق العلوي غرفة العرش وغرف النوم وفناءين مغطيين مزينين بالخزف الإيطالي“.

كان قصر دار الباي شاهدا على اعتقال المنصف باي من قبل السلطات الفرنسية، وكان أيضا مركزا للسلطة أيضا، وبعد الاستقلال، استحوذت الدولة على الحصة الأكبر منه، وتحول في بداية الثمانينات إلى مسكن لبعض العائلات ولم يتم إخلاؤه بالكامل سوى سنة 2008، قبل أن تحتله عائلات أخرى سنة 2012.

شرفة قصر دار الباي بحمام الانف في نوفمبر 2023 الآيلة للسقوط وغياب أية أشغال ترميم وصيانة رغم اخلائه الكلي منذ سنة 2012

تشير الإحصائيات إلى أن عدد القصور الحسينية بلغ خمسمائة قصر لم يبق منها سوى مائة أغلبها مبان متداعية، رغم الوعود بترميمها. ففي ماي 2022، وعدت مصالح الموفق الإداري باتخاذ إجراءات عاجلة لإنقاذ ذلك المعلم بالقول إنها ستتابع هذا الملف بكل جدية وحزم إلى حين التوصل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف وإنقاذ هذا المعلم من السقوط والاندثار”. القصور الحسينيّة تراث وطني وذاكرة تاريخيّة، وواجب الحفاظ عليها محمول على الدّولة الّتي لا يبدو أنّها تضع الحفاظ على مثل هذه المعالم التاريخية ضمن أولويّاتها.


في باب سويقة: منزل ابن أبي الضياف، من مركز عقل السلطة إلى خربة مهجورة

في أحد الأنهج الضيقة بحي باب سويقة بتونس العاصمة ، يمتد سور طيني اللون يوحي بأنه امتداد لإحدى البنايات القديمة المتداعية التي تمتلئ بها الأنهج المتاخمة للمدينة العتيقة. مشهد البنايات المهدمة، التي تعرف باسم "الخربة" مألوف لدى سكان تلك المنطقة ولا يستوقف المارين بجانبها، بل يحدث أن يتجنب كثيرون المرور قربها بسبب قصص مخيفة منتشرة هناك عن منحرفين مسلحين ومخدرين يسكنونها.