يتلاشى الخوف ويحل الفضول الممتزج بالحسرة مكانه، أمام باب المنزل القديم المتصل بالسور الطيني. قد تكون هذه القطعة الوحيدة التي ظلت صامدة في ذلك المنزل في وجه التخريب والسرقة طيلة عقود تعرض فيها للإهمال. لا شيء يحيل إلى المالك الأول لذلك المنزل المخرب، سوى اسم ذلك النهج الذي سمي باسمه، أحمد ابن أبي ضياف (1804-1874) ، صاحب كتاب “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان” (2187) الذي يعتبر أهم مرجع تاريخي على الإطلاق حول العهد العثماني في تونس. كما أنه مؤلف وثيقة “عهد الأمان” (1857)، أول نص رسمي يحدد حقوق أهل تونس الذي مهد لدستور 1861.

تجاهل المجتمع ولا مبالاة الدولة

قبل الاقتراب من المنزل، تحاصر كل فضولي يريد استكشاف “تركة” ابن أبي الضياف الوزير في الدولة الحسينية، إنذارات من سكان النهج، فيستوقفون كل غريب يسأل عن المنزل وتنهال النصائح بعدم الاقتراب “احذر من الدخول، لا أحد يتوقع ما ستجده هناك، ذلك المنزل يسكنه أشخاص فقدوا عقولهم بسبب المخدرات، والأقرب أنهم مسلحون، ذلك المنزل هو مرتع للمنحرفين الخطرين كما أنه الوجهة المفضلة للصوص”.

يؤكد هذه الروايات كل من يوجد في نهج ابن أبي ضياف، وينصحون الغرباء بعدم المغامرة والدخول، لذلك يفتح أمام كل فضولي خياران، الأول الرجوع على الأعقاب والمغادرة، والثاني دفع الباب بحذر والدخول. عند النزوع إلى الخيار الثاني ومحاولة دفع الباب الخشبي من أجل فتحه، تعاند كومة من الأتربة والأوساخ المتراكمة بين شقوق الباب وأرضية المنزل، وقد تمثّل لبعض المتوجسين إنذارا بالتراجع بسبب إمكانية حدوث شيء سيء، لكنها في الواقع قد تكون دليلا أيضا على أن الباب لم يفتح منذ مدة طويلة وأن المنزل لم تطأه قدم منذ أيام على الأقل.

يَلُف ردهة المنزل ظلام كثيف، ولا يمكن تبيّن أركان الردهة أو السقيفة حتى عند فتح الباب، لكن يكفي بعض النور المنبعث من إضاءة الهاتف الجوال ليكشف عن مشهد مؤلم: أرضية السقيفة مفروشة بمجلات إشهارية لمنتوجات إحدى المغازات التجارية الكبرى، وفي الركن الشرقي للردهة التي تعمها الفوضى، أكوام أثاث قديم مكومة تسكنه طبقات سميكة من الغبار والتراب، وجدران يملؤها الخراب والرطوبة. ينذر الظلام والسكون بشيء مجهول داخل المنزل، قد يكون ثعبانا يسكن بين أكوام الأثاث الخشبي، أو ربما متشرد لم يستفق من نشوة المخدر يتوسد سكينا لدرء الخطر عنه من اللصوص أو المتطفلين. أحد العاملين في دكان محاذ للمنزل يقول أن هناك من شاهد ثعبانا يزحف داخل المنزل.

هناك، في ذلك المنزل الصامت والجميل، رغم خرابه، كتب الوزير وأمير الأمراء أحمد ابن أبي ضياف منذ أكثر من قرن ونصف، كتابه الشهير “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان”، وفي غرفة في الطابق الثاني، خطّ ابن أبي ضياف وثيقة “عهد الأمان” والتي أُلهِم بها أحمد باشا باي. يزخر ذلك المنزل بمشاهد ثرية في مخيلة العارفين بالتاريخ، فيتراءى خيال الوزير أحمد ابن أبي ضياف يشق المنزل بمشية أمراء، بملامح وجهه الحاد وطربوشه العثماني وبدلته النظامية الأنيقة، يتأهب للخروج ليقابل أحمد باشا باي أو المصلح خير الدين باشا، لكن يقطع ذلك المشهد بسرعة مشهد آخر : شخص يحمل حزمة من النشريات الإشهارية لمساحة تجارية كبرى تعلن عن تخفيضات في مزيل العرق و في سعر الموز، يهرول بسرعة، يرمي بلا مبالاة نشرية أو ربما اثنيتين من تحت باب المنزل ، فيجفل ظل الوزير ويهرب من المخيلة.

لم يتبق شيء من ذكرى أبي الضياف في ذلك المنزل الخراب سوى اسم ذلك النهج الضيق. يجهل كثيرون قيمته التاريخية، التي تفوق قيمة الرخام أو البلاط المزروع في أرضيته، فباستثناء اللصوص الذين يستهدفون المباني العتيقة المهجورة لما تحتويه أحيانا من أغراض قيمة، لا يُقدّر أحد أهمية ذلك المعلم التاريخي، بما في ذلك الدولة التونسية التي لم تصنفه كمعلم تاريخي سوى منذ أقل من عشر سنوات، في شهر ديسمبر من العام 2010 تحديدا.

حرب باردة بين الدولة ومالك المنزل

يتمنى السكان المجاورين للمنزل وسكان النهج المتصل بنهج ابن أبي ضياف أن يتدخل المعهد الوطني للتراث لصيانة المنزل وترميمه، حتى يضمنوا خلوه من أشخاص خطرين يرتادونه كثيرا لحقن العقاقير، لكن السيد منتصر جمور، محافظ المدينة بالمعهد الوطني للتراث قال ل”نواة” أن “العقار المذكور هو ملك أحد الخواص، ولا يوجد أي تواصل مع مالكه الحالي بخصوص ترميمه أو إصلاحه”.

تعود ملكية منزل ابن أبي ضياف إلى يوسف فرحات، وهو أحد أعضاء جمعية “المدينة والربطين”، إذ اقتنى المنزل من ورثة المؤرخ أحمد ابن أبي ضياف عام 2002، في حديثه مع نواة لم يتردد في التعبير عن امتعاضه ممن يستنكرون ترك ذلك المعلم التاريخي بتلك الحالة المزرية دون أن يعرفوا أصل الحكاية. ويقول “يلومني كثيرون على وضعية منزل ابن أبي ضياف الذي أصبح ملكي، لكنهم لا يعلمون أنني منذ قرابة عشرين عاما، تاريخ شراء المنزل، كنت أصارع أشباحا في الإدارة التونسية من أجل تمكيني من حقي في التصرف في منزلي الذي دفعت من أجله كل مدخراتي حتى أتمكن من شرائه وترميمه، لكن بقيت قرابة ست سنوات في حالة من الذهول، لم أفهم ما الذي جعل الإدارة في ذلك الوقت تماطل في تسجيل العقار باسمي”.

حسب روايته، قرر يوسف فرحات بعد زواجه بوقت قصير شراء منزل عتيق يشبه منزل عائلته في مدينة منوبة، وخلال رحلة بحثه، وقع على منزل ابن أبي الضياف الذي أراد أحفاده بيعه آنذاك، وبعد أكثر من عام تمكن من تحديد شجرة الورثة وبدأ عملية الشراء. لم يكن المنزل مسجلا في إدارة الملكية العقارية بل كان كل ما يملكه الورثة هو عقد تقليدي طوله سبعة أمتار، تتطلب قراءته إيجاد عدل مختص في تفكيك لغته. تعطلت عملية تسجيل المنزل قرابة خمس سنوات وأوقفت بلدية تونس أشغال البناء رغم أن المنزل لم يكن مصنفا باعتباره معلما تاريخيا آنذاك. يقول يوسف فرحات “لم أفهم ما الذي يجري إلى أن أعلمني صديق بمحتوى مقال صدر في مجلة مقربة من نظام بن علي آنذاك دعا فيه كاتبه إلى إنقاذ منزل ابن أبي ضياف وإبطال بيعه متهما إياي بأنني تاجر مخدرات. ثم شاهدت تقريرا آخر بثته قناة تلفزية خاصة حينها وكان التقرير في الاتجاه ذاته. بعد مدة قصيرة، كتبت صحيفة أسبوعية خبرا عن هبة قدمها بعض ورثة أحمد ابن أبي ضياف للدولة، وهي نصيبهم من منزل ابن أبي الضياف. حينها غضبت كثيرا ولكن الورثة أكدوا أن الموقعين على الهبة لا علاقة لهم بالمنزل وبأنهم فروع لورثة نالوا نصيبهم من الإرث في أملاك أخرى”.
تعطلت عملية تسجيل المنزل بعد أن راسلت وزارة أملاك الدولة المحكمة العقارية مطالبة إياها بإيقاف عملية تسجيله بسبب توفر معطيات جديدة تتمثل في حيازتها لنصيب من المنزل المذكور بعد أن قبلت هبة الورثة علما أنه سبق أن رفضتها في مناسبتين قبل ذلك. وبقي ملف تسجيل المنزل معلقا فترة طويلة بسبب عدم تقديم وزارة أملاك الدولة ملفا كاملا لإثبات أحقيتها في جزء من المنزل، فقضت المحكمة بإرجاع وضعية المنزل إلى الحالة القانونية الأولى.

في اتصال أجرته نواة بوزارة أملاك الدولة، قالت مسؤولة بالوزارة إن الوزارة لا تملك أي ملف بخصوص المنزل وأنه لم يتم تخصيصه إلى أية وزارة وبالتالي فهو لا يتبعها. وعلى الرغم من حصولنا على وثيقة من مشتري المنزل، وهي وثيقة قبول هبة من أشخاص قدموا أنفسهم على أنهم ورثة ابن أبي ضياف، إلا أن يوسف فرحات شكك في قانونية استعمال تلك الوثيقة في ملف المنزل المتنازع عليه. وقال “أعلمتني العدل التي كلفتها بقراءة العقد التقليدي للمنزل أن أوصاف العقار محل النزاع، وحدوده التي نص عليها العقد مغايرة لتوصيف العقار الذي ذكرته وثيقة الهبة، وبالتالي فإن وزارة أملاك الدولة لا تملك أي حق في المنزل”.
منذ ذلك الحين، بقي منزل ابن أبي ضياف على تلك الحال المزرية، ويقول فرحات لنواة “تقدمت بمطلب للحصول على رخصة بناء إلى البلدية، قبل أعوام من تصنيف المنزل معلما تاريخيا، لكن رفض ذلك المطلب بعد أن انتظرت أكثر من عام بتعلة أن المنزل وقع تصنيفه معلما تاريخيا، وهو أمر استغربته كثيرا لأنه كان على البلدية أن تحيل الطلب إلى المعهد الوطني للتراث ليشرف على عملية الإصلاح والبناء”. راسل يوسف فرحات وزارة الثقافة ومعهد التراث من أجل الحصول على إجابة بخصوص وضعية المنزل.
يقول يوسف فرحات “أعتقد أنني وقعت ضحية مؤامرة لافتكاك منزلي بعد أن دفعت كل ما أملكه من مال واكتشفت أن أغلب من وقعوا على وثيقة الهبة هم أقارب المحرزي زوج شقيقة ليلى بن علي الذي يملك مبنى محاذيا لمنزلي المعروف بدار ابن أبي ضياف، وقد يكون استخدم نفوذه في فترة حكم بن علي لتعطيل تسجيل المنزل والحصول على شهادة ملكية دون تبرير قانوني”.
بين الإجابات المقتضبة التي تحصلت عليها “نواة” من الإدارتين المعنيتين بالنزاع، وبين قصة يوسف فرحات الذي ظل قرابة عشرين عاما ينتظر ترخيصا لترميم منزله دفعه إلى التعبير عن استعداده للتنازل عن المنزل مقابل تعويضه بمنزل آخر بالقيمة ذاتها، يواجه منزل ابن أبي ضياف نهم لصوص الرخام والآثار من جهة ولامبالاة الدولة بحفظ المعالم التاريخية الآيلة للسقوط، وهو مصير مشابه تواجهه عشرات البنايات المهمة والمناطق الأثرية التي تخلت الدولة عن دورها في حفظها من التهاوي أو التلف.