مظاهرات “مواطنون ضد الإنقلاب”. شارع الحبيب بورقيبة، 19 سبتمبر 2021. صورة لطارق العبيدي

انطلقت جملة المحاكمات العسكرية بعد 25 جويلية وشملت في البداية عددا من النواب على غرار النائب ياسين العياري الذي يواجه أحكاما بالسجن بتهم الثلب والتهجم على المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى نواب من كتلة ائتلاف الكرامة منهم سيف الدين مخلوف وعبد اللطيف العلوي ومحمّد العفاس على خلفية قضية حادثة مطار تونس قرطاج في 15 مارس 2021. ولم تتوقف الاجراءات الاستثنائية عند هذا الحد بل اتُخذت إجراءات منع من السفر وإخضاع للاستشارة الحدودية s17 لعدد من القضاة والمسؤولين ورجال الأعمال وحتى أبناء قيادات حزبية وسياسية.

محاكمات مدنيين أمام القضاء العسكري

استجابت رئاسة الجمهورية بشكل متأخر لجملة الانتقادات الّتي وُجّهت إليها، حيث أصدرت بلاغا في 17 سبتمبر جاء فيه أن رئيس الجمهورية قيس سعيد “أسدى تعليماته بأن لا يتم منع أي شخص من السفر إلا إذا كان موضوع بطاقة جلب أو إيداع بالسجن أو تفتيش، على أن يتم ذلك في كنف الاحترام الكامل للقانون والحفاظ على كرامة الجميع ومراعاة التزامات المسافرين بالخارج”.

ومثلت محاولة قوات الشرطة دخول مبنى المحكمة الابتدائية يوم 4 سبتمبر 2021 لإلقاء القبض على المحامي مهدي زقروبة إثر صدور بطاقة إيداع ضدّه من قبل قاضي التحقيق العسكري في قضية المطار، نقطة تحول في هذا المسار أثارت غضب الهياكل المهنيّة للمحامين وعلى رأسها الهيئة الوطنية للمحامين وجمعية المحامين الشبان، رغم أنهم كانوا من بين الأطراف المؤيدة للتدابير الإستثنائية، ممّا أدى إلى تراجع قوات الأمن واستدعاء المتّهم للمثول أمام قاضي التحقيق العسكري والذي أصدر بدوره بطاقة إيداع في حقه قبل أن يتم الافراج عنه الأربعاء 15 سبتمبر.

وكانت الهيئة الوطنية للمحامين قد أعلنت بتاريخ 4 سبتمبر 2021 في بيان لها رفضها إحالة المحامين والمدنيين على القضاء العسكري باعتبار أن ذلك يتنافى مع شروط المحاكمة العادلة، حيث قالت الهيئة إن

إصدار أمر بالسجن بحق محام قبل أخذ إفادته والدفاع عنه خرق للقانون، ومسّ بقرينة البراءة وحق الدفاع.

مسؤولية الأغلبية البرلمانية

من جهة أخرى، جدير بالذكر أن أكثر الأطراف السياسية -وعلى رأسها حركة النهضة التي كانت حاضرة بقوة في البرلمان طيلة عشر سنوات- التي ترفع صوتها عاليا اليوم ضد المحاكمات العسكرية للمدنيين، كانت أمام فرص كثيرة لتنقيح القوانين التي تسمح بإحالة المدنيين أمام القضاء العسكري انسجاما مع الفصل 110 من الدستور الّذي ينصّ على تخصّص المحاكم العسكرية في الجرائم العسكرية دون سواها، على أن يضبط القانون اختصاصها وتركيبتها والإجراءات المُتّبعة أمامها، وهو ما لم يتمّ الشّروع فيه إلى الآن. وفي هذا الإطار، تقدّمت الكتلة الديمقراطية خلال المدّة النيابية الأولى (2014-2019) بمبادرة تشريعية تتعلق بتنقيح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية لملاءمتها مع الدستور الجديد بما يجعل القضاء العسكري يختص بالنظر في الجرائم العسكرية المرتكبة من قبل عسكريين في انتظار وضع مجلة جديدة للعدالة العسكرية. ولكنّ مكتب مجلس البرلمان المُجمّدة نشاطاته قد أصدر قرارا بتاريخ 12 ديسمبر 2019 يقضي بسحب هذه المبادرة إلى جانب عدد من مقترحات القوانين التي تقدّم بها نوّاب غير مُمثَّلين في البرلمان الحالي، وذلك “لانتفاء جهة المبادرة”، حسب نصّ القرار.

غياب المحاسبة الحقيقيّة

ورغم كل ما سبق وما رافق المنعرج 80 من جدل وانتقادات ورفض لانتهاك حقوق المواطنين، إلا أن ما عمق هذه الوضعية هو سياسة السكوت والهروب إلى الأمام التي اتبعتها رئاسة الجمهورية عوض الرد عن تساؤلات المواطنين والمنظمات المدنية وتوضيح موقفها من الاجراءات التي انتهكت حقوق الافراد وبعض الفئات. واكتفت الرئاسة ببثّ مقطع فيديو يؤكد فيها الرئيس أنه “لا مجال للمساس بالحقوق والحريات” في عهده، في حين تتواصل الانتهاكات يوميا خاصة في المعابر الحدودية باعتبار إخضاع فئات واسعة لاستشارة حدودية دون أحكام قضائية.

لقد ظهرت الاجراءات المتخذة وكأنها انتقام من المخالفين للرئيس قيس سعيد أكثر مما هي شروع في إجراءات المحاسبة التي تطالب بها القوى الحية في تونس، أي أن الأساس الذي اعتمده قيس سعيد لتفعيل الفصل 80 هو الخطر الداهم الذي يهدد وحدة الدولة والفساد الذي نخر مفاصلها والإفلات من العقاب الذي يتمتع به المجرمون والفاسدون. لكن إلى حد اللحظة لم تنطلق رئاسة الجمهورية في المحاسبة رغم توفر التقارير الرسمية والقضائية لعل أهمها تقرير محكمة المحاسبات بخصوص الجرائم الانتخابية وتقرير التفقدية العام لوزارة العدل الّذي نشرت هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي أجزاءً منه على صفحتها الرسمية بخصوص تجاوزات بعض القضاة في ملفات على غاية من الحساسية كالاغتيالات السياسية والإرهاب والفساد، باستثناء الإيقافات في ملف الفسفاط والتي شملت النائب لطفي علي.

واعتبر عدد من الناشطين والملاحظين وعلى رأسهم القاضي السابق أحمد صواب أنّ رئيس الدّولة فوّت فرصة فتح الملفّات الحقيقيّة وكان حريًّا به قطع العطلة القضائيّة وإصلاح السياسة الجزائيّة للدّولة التي يمكن له اتّخاذها بمقتضى التدابير الاستثنائية، ودعوة القضاء لفتح ملفّات الفساد دون سواها. ولكنّ سعيّد فضّل عدم ترؤّس النيابة العمومية بما لا يُتيح له ممارسة الدعوى العمومية بشأن من تتعلّق بهم شبهات فساد.

هذه الإجراءات المبتورة تطرح تساؤلات حول جديّة الإيقافات، التي لم تطل سوى فيصل التبيني وياسين العياري في قضايا لا علاقة لها بلوبيات الفساد والإرهاب التي خربت الدولة. فهل اتخذ الرئيس خطواته لحماية الدولة وإصلاحها أم للانفراد بالحكم، في ظلّ عدم تعيين رئيس حكومة أو رئيس وزراء لتسيير شؤون البلاد وعدم الإعلان عن رؤيته للمستقبل؟ هي أسئلة قطعا تحتاج إجابات واضحة ومقنعة من الرئاسة التي مازالت تتعامل مع مواطنيها على أنهم قُصَّر ولا يحق لهم معرفة مصير بلادهم.