لكن الرئيس سعيّد حدّد موقفه سلفا من مبادرة الاتحاد للحوار على أساس تصحيح مسار الثورة التي تم، حسب رأيه، الانحراف بها عن مسارها الحقيقي الذي حدده الشعب منذ عشر سنوات. فما الذي أراد رئيس الجمهورية إيصاله تحديدا، هل هو الرفض المنمّق والديبلوماسي لمبادرة الاتحاد، أم السّطو على المبادرة والسير بها إلى مسار مختلف تماما؟ وما معنى تصحيح مسار الثورة، هل هو رفض لكامل المنظومة التي حكمت البلاد منذ 2011 أم أن سعيّد يقصد المنظومة الحزبية التي حكمت تونس طيلة هذه الفترة وحان الوقت للتخلّص منها وإيجاد بدائل لها؟

مبادرة للإصلاح

لم تكن مبادرة اتحاد الشغل الوحيدة المقترحة للخروج بالبلاد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فقبلها كانت هنالك مبادرات أخرى من ضمنها مبادرة التيار الديمقراطي، وبعدها كانت مبادرات لمنظمات المجتمع المدني، على غرار مبادرة الهيئة الوطنية للمحامين. وكل المبادرات حددت بدقّة ما يجب فعله أي ما تحتاجه البلاد في هذا الوضع المتأزّم، والذي زاد تأزّما مع تواصل جائحة كورونا. وحددت كذلك المسارات التي يجب أن تكون محل نقاش ومفاوضات وحوار وطني نذكر من بينها:

– المسار الاقتصادي: وذلك من خلال فتح حوار مؤسس لمنوال تنموي بديل، باعتبار أن المنوال القديم هو الذي أوصل البلاد إلى هذه الوضعية المتردّية والتي تسببت في تدهور وضعية المالية العمومية وتفشي الفساد والاحتكار والتهرّب الضريبي، ويتولى هذا الحوار تقييم الوضعية الاقتصادية وتحديد الفرص والمخاطر وإصلاح المؤسسات العمومية بدءا بالإصلاح الجبائي، والهدف هو الاتفاق على منوال تنموي يكرّس العدالة الاجتماعية والجبائية وينهض بواقع الاقتصاد الوطني.

– المسار الاجتماعي: وهو لا ينفصل عن المسار الاقتصادي، باعتبار أن هدفه هو تحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن قبل ذلك اتخاذ إجراءات عاجلة لفائدة الفئات الهشة التي تضررت كثيرا من جائحة كورونا، وأيضا لنزع فتيل الاحتقان الاجتماعي الذي يزداد يوما بعد آخر بسبب ارتفاع الأسعار وتراجع المقدرة الشرائية وارتفاع معدّلات البطالة.

– المسار السياسي: ويتمثل في مراجعة قوانين الأحزاب والجمعيات، ومراجعة القانون الانتخابي وتحييد المرفق القضائي وإحداث المحكمة الدستورية، إلى جانب تقييم أداء الهيئات الدستورية واستكمال تركيزها. وقد اقترحت مبادرة اتحاد الشغل فيما يتعلّق بالنظام السياسي، الانطلاق في حوار مجتمعي حوله يتواصل خارج روزنامة الحوار ولا يتقيّد بسقفه الزمني ويمكن أن تكون مخرجاته اللاحقة إطار التفكير في تعديل النظام السياسي أو تغييره.

الملاحظ أن كل مبادرات الحوار الوطني، بما في ذلك مبادرة اتحاد الشغل، كانت ترمي غالى الإصلاح من داخل المنظومة التي انبثقت عن دستور 2014، أي الالتزام بالعملية الديمقراطية مع مزيد ترشيدها من خلال مراجعة قوانين الأحزاب والجمعيات لمكافحة الفساد والتمويل المشبوه والشفافية، وكذلك القانون الانتخابي من اجل أن تكون الانتخابات القادمة أكثر نزاهة وشفافية، هذا إلى جانب تحويز العملية الديمقراطية ودعمها بالآليات الضرورية لا سيما المحكمة الدستورية وإصلاح المرفق القضائي وكذلك الهيئات الدستورية. ولا يخفى على أحد أن عملية الإصلاح الشاملة هذه لا يمكن أن تتم إلا من خلال التزام من كل الطيف السياسي، وخاصة الأحزاب الممثلة في البرلمان والتي ستجتمع على كل التوافقات المفترضة وتقدمها في شكل مشاريع قوانين أو مشاريع تنقيح قوانين قائمة، لذلك القاعدة الأساسية لهذا الحوار هي الأحزاب والإئتلافات السياسية.

تصحيح مسار الثورة

لكن ما يطرحه رئيس الجمهورية مختلف تماما عما اقترحته المنظمات وبعض الأحزاب من حوار، فالرّئيس يبدو أنه غير مقتنع بالمنظومة الحزبية القائمة، فبالنسبة إليه هي سبب البلاء والأزمة، وهو في مقابل ذلك يدعو إلى حوار “لتصحيح مسار الثورة التي تم الانحراف بها عن مسارها الحقيقي الذي حدده الشعب منذ عشر سنوات ألا وهو الشغل والحرية والكرامة الوطنية”. إذن الهدف ليس إصلاح سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، والوسيلة ليست تجميع الأطراف السياسية بمختلف تلويناتها وإقناعها من خلال الحوار على الالتزام بحزمة من الإصلاحات على المدى القريب والمتوسط وتنفيذها في آجال محدّدة. وإنّما الهدف هو تصحيح مسار الثورة (ما قبل الدستور) ربّما بإلغاء الدستور وحل الأحزاب وما شابهها من الإجراءات الاستثنائية. أما وسيلة هذا الحوار فهو “تشريك ممثلين عن الشباب من كل جهات الجمهورية وفق معايير يتم تحديدها لاحقا“.

ربّما يحتاج قيس سعيّد لمزيد توضيح ما يعنيه بتصحيح مسار الثورة ، فالأمر فيه كثير من الغموض، فلا أحد غير قيس سعيّد يعرف كيف يمكن تصحيح مسار الثورة، هل هو تصحيح من داخل المنظومة (الديمقراطية) وهو مجبر في هذه الحالة على التعامل مع الأحزاب القائمة، أو من خارج المنظومة الديمقراطية التي تفترض التداول السلمي على السلطة من خلال الانتخابات العامة، والتي تلتزم بالدستور. وإذا كان سعيّد يتجه إلى محاورة الشباب في الجهات كبديل عن الأحزاب، فماهي مقاييس اختيار هؤلاء الشباب، هل هم ممثلو التنسيقيات التي ساندته في الانتخابات الرئاسية، أم ممثلو أحزاب ومنظمات المجتمع المدني؟ وبالنسبة للنتائج التي سيتوصل إليها هؤلاء الشباب لتصحيح مسار الثورة كيف يمكن تطبيقها، وبأية آلية من خلال انتخابات جديدة أو عبر إجراءات استثنائية؟

في انتظار أن تتوضّح الوجهة الجديدة التي سيسلكها في حواره مع الشباب، تكون بقية المبادرات ومن ضمنها مبادرة اتحاد الشغل قد وضعت على الرف، ويكون الرئيس بذلك قد استأثر بملف الحوار الوطني، ووجّهه بعيدا عن توقعات الجميع.