صورة لمالك الخميري

وعلى الرّغم من استماتة راشد الغنّوشي رئيس حركة النهضة في الدفاع عن إشراك حزب قلب تونس في الحكومة الجديدة، إلّا أن مساعيه باءت بالفشل، وحُكم على قلب تونس وزعيمه نبيل القروي الالتحاق بعبير موسي في المعارضة رغم أنفه.

خيارات الفخفاخ وحسابات الغنّوشي

خيار إبعاد قلب تونس من الحكم سيبعثر حسابات راشد الغنّوشي، وهو الذي صعد إلى رئاسة مجلس النواب بفضل القروي وحزبه، سيجعل” الشيخ” في موقع ضعف وسيهدّد عرشه في البرلمان مع كل أزمة سياسية، وهو الذي يواجه نقدا لاذعا من الجميع بما في ذلك داخل حزبه، حركة النهضة، وهي حسابات ستجعل حزام الفخفاخ هشّا.

يبدو أن الحزام الحقيقي الذي سيدعم الفخفاخ في نيل الثقة سيكون حزام الخوف، الخوف على مواقع يصعب استرجاعها إذا ضاعت، وعدا كتلة الدستوري الحر التي عبّرت صراحة أنها لن تصوّت مع منح الثقة لحكومة إلياس الفخفاخ وقلب تونس المبعد رغم أنفه من المشاورات، فإن بقية الأحزاب تتجه كليا او جزئيا لدعم الحكومة الجديدة مهما كانت تركيبتها ومهما كان برنامجها. بيّنت أحداث مراحل تشكيل حكومة السيد الحبيب الجملي، التي تم إسقاطها، كما بيّنت كواليس التصويت على عدم منحها الثقة في البرلمان،  أن الحزبين الحاصلين على المرتبة الأولى والثانية في الانتخابات الأخيرة هما اقل الأحزاب تماسكا.

كل ذلك يجعل من سيناريو إعادة الانتخابات التشريعية كابوسا حقيقييا لعديد الكتل والأحزاب وحتى الأعضاء المستقلّون في المجلس، النتيجة إذن هي الاعتقاد لدى غالبية النواب أن إطلاق النار على حكومة الفخفاخ ليس في النهاية سوى عملية انتحار، أو على الأقل ارتماء في المجهول. نيل الثقة ليست المشكلة الأبرز ولا الوحيدة التي تواجه الحكومة القادمة، فهناك مشاكل أخرى تهدد بنسفها في عمر الزهور، فالتحدّيات الاقتصادية والتوتّرات الاجتماعية في مناخ من عدم الاستقرار السياسي هي المشكلات الحقيقية التي يجب أن يضعها الفخفاخ في الاعتبار.

نشوة السياسة وكابوس الاقتصاد

تؤكّد أرقام المعهد الوطني للإحصاء حول الأداء الاقتصادي لتونس خلال سنة 2019 أن الوضع لايزال صعبا للغاية،على الرغم من بعض علامات الاستقرارعلى مستوى التضخم وسعرالصرف وعجز الميزانية. فعلى الرّغم من  التحسّن النسبي خلال سنتي 2017 و 2018 حيث ارتفعت نسبة النمو بشكل طفيف لكن ملحوظ اذ بلغ 2,1 بالمائة واعتبر كمؤشّر على بداية تعافي، فإن هذه النسبة سرعان ما عادت إلى التراجع والانكماش حيث لم تتجاوز 1,1 بالمائة في النصف الأول من سنة 2019 و1,2 في الربع الثاني من العام نفسه. ويُرجع خبراء الاقتصاد أسباب هذا التراجع إلى عدّة عوامل من ضمنها عدم الاستقرار السياسي وأجواء الحملات الانتخابية والصراع إلى درجة معارك كسر العظام بين الأحزاب السياسية داخل الحكم وخارجه. كما أن التوتّرات بين الحكومة والأطراف الاجتماعية لا سيّما الاتحاد العام التونسي للشغل، ألقت بظلالها على الازمة التي تمر بها البلاد، ذلك أن عدم التوافق بين الحكومة والأطراف الاجتماعية لم يسمح بتحديد سياسة وطنية متّفق عليها بين الجميع لإجراء الإصلاحات الضرورية التي تسمح بإنعاش الاقتصاد التونسي وإخراجه من حالة التردي وبالتالي تحسّن مستوى عيش التونسيين.

كل هذه الأسباب ستجعل من نشوة الانتصار بالنسبة لحكومة الفخفاخ في معركة نيل الثقة محدودة، حيث سرعان ما تنقشع لذّة الانتصار مع أولى اللحظات التي تبدأ فيها الحكومة الجديدة تفحّص الواقع وحجم الملفات والمشاكل، هذا من جهة. على صعيد آخر فإن الائتلاف الحكومي المرتقب يستند الى توجّهات سياسية وايديولوجية مختلفة، وبالتالي الى رؤى مختلفة للمسألة الاقتصادية والاجتماعية، فحركة النهضة ذات التوجّه الليبرالي والتماهي التام مع سياسة المانحين الدوليين وأساسا صندوق النقد الدولي غير توجهات التيار الديمقراطي أو حركة الشعب. الأمر الذي سيجعل التوافق على برنامج اقتصادي واجتماعي مسألة جدّ صعبة. نظريّا، ستحوز حكومة الفخفاخ على أكبر دعم سياسي مقارنة بكل حكومات ما بعد الثورة، فإضافة إلى دعم الرّئيس باعتباره هو من كلّف رئيس الحكومة، وهو من أعطى المرجعية السياسية للحكومة المرتقبة، من المنتظر أن تنال الحكومة الجديدة الدّعم الصريح من خلال المشاركة الفعلية لأهم الكتل البرلمانية (ما لايقل عن أربعة أحزاب وائتلافات)، لكن من الناحية العملية من الصعب جدا أن تتفق كل هذه الأطياف ذات المرجعيات المختلفة والمتنافرة أحيانا على السياسات الإصلاحية الضرورية التي سيحتاجها رئيس الحكومة الجديد.

من يتحمّل أوجاع الإصلاح؟

تجمع كل الدراسات الاقتصادية وكذلك توصيات الدوائر المالية العالمية التي يرتبط بها الاقتصاد التونسي على ضرورة إجراء إصلاحات عاجلة في أربعة ملفّات على الأقل:

أوّلا:سياسة إصلاح جبائي تضع حدا للتهرّب الضريبي، وتتّجه أكثر نحو العدالة الجبائية. والعمل على معالجة المديونية ومواجهة زيادة النفقات العمومية التي لم تعد قابلة للاستمرار.

ثانيا: مواجهة ارتفاع نسب البطالة، التي بلغت نسبة 15,3 بالمائة في الثلاثي الأول من سنة  2019وهو ما خلق مناخ  من انعدام الأمان، مع تصاعد وتيرة الفساد، وهو ما يستلزم حربا حقيقية، غير مجزّأة ولا انتقائية تستثمر فيها الدولة في مكافحة الفساد.

ثالثا: سياسة إصلاحية بالنسبة للمؤسسات العمومية ورؤية مشتركة بين كل الشركاء حول إصلاح المالية العمومية وتحسين مناخ الأعمال.

رابعا: التخفيف من العجز الطاقي ورسم سياسة داعمة للقطاعات الرئيسية والإستراتيجية في الاقتصاد التونسي ووضع حد لتراجع إنتاج الفوسفات والنفط والغاز.

مواجهة هذه الملفات تحتاج إلى حزام سياسي قوي حول الحكومة وقبل ذلك رؤية مشتركة لمختلف الأحزاب والكتل التي ستصوّت لمنح الثقة للفخفاخ وحكومته، في ظل واقع يتميّز بالتشتت والمزايدة السياسية. ولكن هل ستلتزم التشكيلات السياسية التي ستدعم حكومة الفخفاخ بالإصلاحات المطلوبة وتتحمّل، معه، الكلفة السياسية لهذه الإصلاحات؟