المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

عندما انتشرت أخبار العمليتين الإرهابيتين وتزامنها مع تناقل إشاعة وفاة الباجي القايد السبيسي اثر نقله بصفة مستعجلة إلى المستشفى العسكري، ألمت حالة فزع بالجميع. في ردود الفعل المتأزمة على منصات التواصل الإجتماعي، كان هناك تعبير فج عن حالة من الإحتقان و الإنفجار. ما حصل خلال ذلك الخميس هو تجل واضح لفكرة الخلاص. عندما تكون الأعصاب مشدودة لفترة طويلة، تكون فكرة الكارثة أكثر تقبلا، أو هكذا ما رأه العديدون مؤخرا. في كل مرة يحدث شيء ما، تكون ردود الأفعال القدرية هي ذاتها، فأصبحت المبالغة والرثاء أساسي الخطاب السياسي العام. هذا التعاطي المكبل مع الأزمات يطرح امامنا مسألتين مهمتين: الأولى هو إنه، رغم تاريخنا الطويل مع الأزمات، خاصة بعد الثورة، مازال تعاطينا مع الكارثة سياسية كانت أو أمنية أو صحية، يتسم بالبدائية والتخبط. والثانية هي الضرورة الملحة لرؤية وتعاط مختلفين مع المصيبة على كونها هي الأساس وليست الاسثناء.

الخميس 27 جوان وذروة التخبط

بعد العمليتن الإرهابيتين بالعاصمة و التي أودت بحياة عون الأمن مهدي الزمالي وجرح ثمانية شرطيين آخرين عندما فجر ارهابيين أنفسهم في مناطق مكتظة بالحضور الأمني كشارع شارل ديغول، على بعد أمتار من سفارة فرنسا وفي قلب شارع الحبيب بورقيبة، و أمام مقر الوحدة المختصة لمكافحة الارهاب، تجلت بوضوح حالة اللاإستعداد والتخبط التي تعودنا على رؤيتها في كل مرة يكون فيه إعتداء إرهابي على امنيين أو مواطنين. هي دائما نفس المراحل تتكرر بشكل شبه آلي: حالة ذهول كاملة لدى الجميع، يليها انتشار الإشاعات بشكل كبير كما قيل حول حدوث عملية إرهابية ثالثة في سوسة، ثم نرى بعدها غيابا كاملا لأي فعل اتصالي واضح كفيل بتبديد هذه الإشاعات وإعطاء المعلومة الكافية و الشافية للصحفيين والعامة. بدل ذلك يسعى الأمن التونسي للتقليل مما حدث دون إعطاء تفاصيل .في الآن نفسه، يكثر الحديث عن حرفية قوات الأمن وتعاطف المواطنين معهم. لتنتهي كل هذه الجوقة المعتادة بتبني وسائل الإعلام التقليدية للبيان الصحفي لوزارة الداخلية. هناك نوع من التخبط الممزوج بالتعنت الواضح في التعامل مع الأحداث لم يتغير منذ زمن الدكتاتور السابق.

غير أن مالم يدركه الأمنيون أو لا يرغبون في القبول به هو أننا في زمن المعلومة السريعة. خلال دقائق من حدوث عملية شارل ديغول، انتشرت فيديوهات كثيرة على تويتر وغيره كما يحدث دائما فيتحول المواطن العادي إلى صحفي هاو في طرق تبليغ المعلومة والصورة بشكل كامل وواف. أمام هذا الواقع الجديد (على البعض) في تونس، يصبح إصرار وزارة الداخلية و قنواتها داخل وسائل الإعلام الرسمية والتقليدية على التخلي عن مهمتها في تبليغ الخبر بشكل شفاف و حيني خطرا فادحا لأنه في كل مرة تطرح إشكالية سذاجة التعامل مع الرأي العام وفي الآن نفسه تخلق ارض خصبة لإنتشار أكثر الاشاعات هستيرية كاشاعة تورط أمني في التخطيط والمساعدة في القيام بالعمليتين الارهابيتين. قد يسرع “مصدر أمني” فيما بعد بتكذيب ماقيل غير أن كلنا نعلم بأن أي إشاعة لها عمر أطول من أي تكذيب مقتضب و ركيك اللغة.

معضلة التواصل الإعلامي الجاد بلغت ذروتها اثر انتشار إشاعة وفاة الرئيس التونسي. غياب أي تأكيد أو نفي للخبر من قبل جهات رسمية ولساعات طويلة (بما يعتبره العديدون دهرا في سياق الاتصال السياسي) قابله بذالة أن خبر التكذيب الوحيد يأتي من مستشار الرئيس الخاص، فراس قفراش، عن طريق تويت مقتضب: “الرجاء عدم الإنسياق وراء الاشاعات.. حالة الرئيس مستقرة دعواتكم بالشفاء”. لما نقط الإختصار بعد كلمة “الإشاعات” خاصة وأن الجميع يعرف أن تأكيدات كثيرة حول وفاة السبسي أتت من القصر الرئاسي نفسه ومن يحوم حوله؟

السؤال الذي ضل يطرح نفسه خلال الخميس الفارط وبعده: هل هناك بروتوكول متفق عليه داخل المؤسسة الأمنية أو الرئاسية أثناء وقوع كارثة أو طارئ سياسي خطير؟ وإن وجد، لماذا لا يقع تفعيله بشكل سلس؟ لما هناك هذا الإنطباع السيء في كل مرة بأن الجميع يكتشف كيف يتعامل مع حوادث الإرهاب أو الأزمات السياسية للمرة الأولى على الإطلاق؟ التدخلات الإعلامية لسعيدة قراش، الناطقة بإسم الرئاسة التونسية،  التي مزجت التهديد بنظرية المؤامرة، في تأكيدها على أن “ترويج إشاعة وفاة رئيس الجمهورية استهداف للأمن القومي التونسي” – و إلتزام التكتم التام حول صحة الرئيس السبسي (قبل نشر صورته يوم الإثنين) مما جعل العديدين يطلقون حملة “من حقنا نعرفوا”. من جهة أخرى، ما رأيته في مطار تونس قرطاج إثرعودتي من سفرة داخلية أكد لي مرة أخرى بأن الفزع والتخبط اصبحا طريقة عمل في تونس. حالة المطار المزرية كانت تعطي الإنطباع الكريه بأن تونس تعيش حرب أهلية وليست حالة عدم إستقرار ظرفي ووجيز.

الأزمة كأساس وليس اسثناء

هذا التخبط والتعنت الذي نجده لدى أكثر المؤسسات تأثيرا على الشأن التونسي – الأمن و الرئاسة – يعكس بدرجة كبيرة الاعتقاد الخاطئ داخل القائمين عليها بأن الأزمات هي شيء ظرفي يجب التعامل معه في حينها ولا يتطلب إستراتجية طويلة المدى. قد يكون هناك تفسيرات أخرى لكن عندما نرى بأن السبسي ومن حوله إختار أن يجعل المحكمة الدستورية مسألة ثانوية خلال فترة رئاسته في حين أن وضعية صحته المتدهورة أصبحت خبرا يتواتر أسبوعيا وعندما يمدد في حالة الطوارئ لشهر أو شهرين للمرة الخمسين فإنه يجب الجزم بأن هناك إستخفاف بالعقول وتهاون في التعامل مع فرضية أن الأزمة في تونس هي الأساس وليس الاستثناء.

هذا ليس بخطاب عدمي ولكن الإعتقاد الراسخ بأن ما يسمى بالحضارة الإنسانية إنما هو مجموعة قوانين وأنظمة استجدت لمحاولة السيطرة على الأزمة في جميع تجلياتها. في كتاب هام لزيجمونت بومان وكارلو بوردوني بعنوان “حالة الأزمة”، يعرف كلا المؤلفين مفهوم “الأزمة” كحالة شك دائمة ويستبعدان فكرة بأنها حالة حديثة بل على العكس يرى كلاهما  – خاصة بومان صاحب مصطلح “الحداثة السائلة” وبأن الأشياء تتحول تدريجيا للأسوء- بأن الأزمة هي أساس الحضارة الإنسانية وقديمة قدم الإغريق (من منظور أوروبي). في كثير من تدخلات بومان، هناك الكثير من التقاطعات المباشرة مع الواقع التونسي فهو يرى مثلا بأنه أصبح صعبا الخروج من حالة التخبط و التسويف والبلادة والمراوغة لأن هناك تفكيك عميق لثنائية السلطة والسياسة فأصبحت الدولة بيروقراطية عمياء تتخبط دائما في مشاكلها الداخلية إلى ما نهاية أمام تسلط رأس المال النيوليبرالي. كذلك هاجس النظام، الذي مثلا نراه يستعمل بكثرة في خطاب المؤسسات الأمنية و الرئاسية في تونس، هو في الأصل هاجس التغلب على ما هو كارثي ومستعصي بشكل أنتج نتائج عكسية أكثر خطورة كالهولوكست -كما يرى بومان- أو الجمود السياسي و الإحتقان الإجتماعي المزمنين في تونس بعد الثورة و المنذرة بإنفجار قادم.

هناك ضرورة ملحة في تغيير طريقة تعاطينا مع الأزمات. لا يمكن للمؤسسة الأمنية والرئاسية أن تظل في حالة التخبط التي تجلت للجميع خلال وبعد أحداث الخميس 27 جوان. لأن القادم أسوء .لنقلها بصراحة: الحوادث الإرهابية ستكون من هنا فصاعدا حدثا أسبوعيا لأن كما استنتجه الجميع فإن هناك إتجاه لدى الجماعات الإرهابية للإعتماد على ذئاب منفردة لأنها لا تحتاج للدعم لوجستي أو تخطيط مسبق كبيرين. مايهمنا هنا أنه مهما كانت الإعتمادات المالية المخصصة لمكافحة الإرهاب ومهما كان درجة التنظيم والتنسيق داخل الفرق الأمنية فإنها غير قادرة على التصدي لكافة الهجمات الفردية والسريعة- خاصة وأن الذئاب الجديدة  تتسم عادة بصغر السن ومستوى تعليمي متقدم. ماحدث في حي الإنطلاقة وفي أماكن عديدة حول العالم كلبنان ونيو زيلندا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية كلها أمثلة مهمة لهذا الواقع الجديد في الحرب ضد الإرهاب والعنف السياسي بصفة عامة .لنقلها بصراحة مرة ثانية لمن هم في الخلف: لا أعتقد بأن السبسي قادر أن يظل رئيسا للجمهورية الثانية إلى فترة الإنتخابات التشريعية. عندما نقرأ بأن الرئيس التسعيني قد نقل أكثر من مرة وعلى جناح السرعة خلال النصف الثاني من شهر جوان الفارط، هي أشياء لا تنذر بخير. نستطيع أن نتنفس الصعداء الآن ولكن مالذي يمكن أن يحدث المرة القادمة إذا توفي السبسي؟ لا أحد يعرف وتلك هي المشكلة.

إنه صيف كل الحرائق، ولكن مايجعله أكثر خطورة هو عدم القدرة الواضحة لدى الأمنيين والبيروقراطيين على تحسين وتنظيم الفعل الإتصالي والوقائي أمام الأزمات الكثيرة التي نجابهها. في الأثناء، ستظل للاشاعات ونظريات المؤامرة حيز عظيم في الشأن العام التونسي.