مدخل مركز إيواء المهاجرين بمدنين

استطعنا الوصول إلى إثنين من القاطنين في مركز إيواء المهاجرين بمدنين، ليجمعنا وإيّاهم موعد في أحد المقاهي. بعد برهة من الوقت، أطلّ علينا بيار (إسم مستعار)، ذلك الكهل الأربعينيّ بقامته الطويلة والنحيفة. تتبعه مريم (إسم مستعار)، التّي صدمتنا بنحافتها الشديدة وضآلة قامتها، وهي التّي لا يتجاوز وزنها 20 كغ رغم بلوغها 18 ربيعا. جلسا قبالتنا بملابسهما الرثّة التّي لا تقيهما من تقلّبات الطقس، ليبدأ حديث مطوّل بيننا، لم يقتصر على مشكلة المركز فحسب، بل لننطلق منذ بداية المأساة؛ من أريتريا، بلدهم الأمّ.

من إريتريا إلى ليبيا: من الحرب إلى الجحيم

دفع بيار 3800 دولار ومريم 4000 دولار للوسيط السوداني الذي كان من المفترض أن يوصلهم إلى ليبيا ومنها إلى أوروبا. لكن الرحلة معه انتهت في الجنوب الليبي. في مدينة باراك (700 كم جنوب العاصمة طرابلس)، حيث قام الوسيط السوداني ببيع بيار إلى ميليشيات ليبية.

يقول لنا الليبيون، لقد إشتريناكم ب 1000 دولار، و عليكم دفع الضعف من أجل إطلاق سراحكم. يقومون بتعذيبنا، خاصّة بالكهرباء، والضغط على عائلتنا من أجل إرسال المال إليهم. وكثيرون قضوا نحبهم هناك

يضيف بيار

لم تنجو مريم، رغم صغر سنها حينها، وهي التّي لم تتجاوز بعدُ 14 سنة، ولم تشفع لها نحافة جسمها، لدى أطماع شبكات الإتجار بالبشر. فقد بيعت في مدينة الكفرة (1360 كم جنوب شرق طرابلس) لوسيط أول مكثت عنده لمدة 10 أشهر، ثم قام ببيعها مع أكثر من 700 مهاجر إلى ميليشيا في مدينة شوارف. هناك اضطرت لدفع 3000 دولار لتتمكن من عبور البحر نحو إيطاليا.

من مكان يبعد ساعتين عن بني الوليد (180 كم جنوب غرب طرابلس)، إنطلق بنا قارب مطاطي يحمل قرابة 300 شخص نحو إيطاليا. بعد 10 ساعات في البحر، اعترضنا قارب يحمل العلم الإيطالي و منعنا من التقدم إلى حين قدوم القوات الليبية وإعادتنا إلى ليبيا. تم سجننا لمدة أسبوع، قبل أن يقوموا ببيعنا إلى ميليشيا في مدينة شوارف.

روت مريم هذه الأحداث متكتمة عن فظاعات عاشتها وتعجز عن سردها.

قضى بيار سنة و 7 أشهر في ليبيا، عذب فيها عديد المرات و بيع مرتين، تعرض فيها إلى محاولة قتل و3 عمليات إختطاف وسُجن أكثر من 5 مرات كما دفع قرابة 5500 دولار. أما مريم فقد قضت سنتان و3 أشهر، أغلبها في سجون الميليشيات، بيعت خلالها 4 مرات. و دفعت أكثر من 8000 دولار. لم يكن أمامهم من خيار إلا الخروج من الجحيم الليبي. ولم يبقى الأمل إلا في تونس.

تونس: الأمل المعطوب

وصل بيار ومريم مدينة بن قردان سيراً على الأقدام. كانا يتوهمان أن زمن الشقاء قد ولى. وأن الجحيم الذي عاشاه أصبح شيئا من الماضي. لكن الواقع كان مختلفاً. في المركز الحدودي بالذهيبة، منعت قوّات الأمن التونسيّة اللاجئين من الدخول، إلا بعد اتصالهما بالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التي تدخلت لدى السلطات التونسية، و من ثمّ ألحقوا بمركز إيواء اللاجئين بمدنين.

على الرغم من عدم تزامن تاريخيْ قدوم بيار ومريم إلى تونس، إلا أنّ تعامل السلطات معهم كان متماثلا. “من أرسلكم إلى هنا؟ لا يوجد هنا UNHCR…” بمثل هذه العبارات كان إستقبال أعوان المركز لهم في مدينة مدنين. مع الأيام لم تتغير المعاملات،

لا يأخذون أمراضنا على محمل الجدّ، كما نعني هناك من نقص شديد في الأدوية. أمّا في المشفى، فيكتفون بإعطائنا بعض المسكنات ويقومون بطردنا. ويضيف، حتّى عند الإتصال بالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، لا يأتون إلينا بسرعة. تجاوزت المشاكل المركز لتصل إلى المدينة وسكانها وحتى قوات الأمن، كلهم يتعاملون بعنصرية مع قاطني المركز.

يقول بيار

التونسيون لا يحترموننا، لا يعتبروننا بشراً، الطبيب يطردنا من المستشفى، التاكسي لا يريد أن يقلنا، الأمنيّون يسألوننا دائما في الشارع؛ متى ستغادرون؟ من أرسلكم إلينا؟ لماذا مازلتم هنا؟…

هكذا تحدثت مريم عن واقعهم في مدينة مدنين.

ظروف إقامة لاإنسانية بمركز إيواء المهاجرين بمدنين

إضافةً إلى الاكتظاظ وسوء معاملة أعوان المركز للمهاجرين و اللاجئين و طالبي اللجوء، يعاني هؤلاء من مشاكل أخرى. يقول بيار ” أمرونا بمغادرة المركز، ويقدمون لنا 350 دينار شهرياً، ندفع منها معلوم كراء المنزل ونصرف البقية لقضاء حاجياتنا. سننتفع بهذا المبلغ لمدة 3 أشهر فقط، ونحن الآن في الشهر الثاني. لا أعرف ماذا سنفعل بعد ذلك”. يشتكي اللاجئون بالمركز من سوء تعامل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين معهم ومع وضعياتهم، وخاصةً من التلكؤ في مساعدتهم وحلّ مشاكلهم، مثل بقاء بعضهم لأيام أمام المركز إلى حين التحاقهم به، أو التأخّر في التدخّل حين حاول أحد قاطني المركز الإنتحار.

كان بيار و مريم، منذ ولادتهم، ضحايا ظروف لا دخل لهم فيها، فهم لم يكونوا سببا في حرب تدور منذ عقود، ولا في قصور دولي عن مكافحة شبكات الاتجار بالبشر وفرضت عليهم الذهاب إلى بلد يباع فيه البشر كالحيوانات في الأسواق، ولا الهروب لبلد مازال لا يعترف باللجوء و لا يملك حتى قانون ينظمه إلى حد الأن، و مازال يتعامل الناس فيه بعنصرية مع ذوي البشرة السوداء. و لا اختاروا التعامل مع منظمات دولية تنخرها البيروقراطية والتلكؤ في أداء واجبها. و لا اختاروا أن يتم تعذيبهم و اغتصابهم و سجنهم و لا أن يصبحوا أرقاما في سجل المهاجرين.

لم يختر كلّ من بيار ومريم مسارات حياتهما، بل كانا ضحايا ظروف وضعتهما رغما عنهما في دائرة مغلقة من الهروب المتواصل من الموت. مسار من المعاناة بدأ مبكّرا منذ ولادتهما في بلد تنخره حروب مستمرّة منذ عقود. ليجدا نفسيهما ضحايا السجن والتعذيب والإغتصاب على أيدي عصابات الإتجار بالبشر التّي استعصت على المنظّمات والقوى الدوليّة وحوّلت بلدا بأسره إلى سوق مفتوحة يُباع فيها الإنسان كالحيوانات. أمّا ما ظنّوه أملا وملجأ في تونس، فقد تحوّل إلى كابوس يومي في بلد يمارس أهله العنصريّة ضدّ ذوي البشرة السوداء ونظام ما يزال يرفض الإعتراف بحقّ اللجوء ويأبى وضع قانون ينظّمه ويحفظ كرامة اللاجئين إليه، والذّين ظلّوا بالنسبة للهيئات الدوليّة دائما مجرّد أرقام تزدحم بها سجلاّتهم.