2011 : كسر الطوق عن شارع الحبيب بورقيبة

gameover_mani14jan_640

ساحة محمّد علي، الباساج، لافييات وغيرها من ساحات وشوارع العاصمة كانت مسرحا لسنوات مضت للتحرّكات الاحتجاجيّة ضدّ نظام بن عليّ، لكنّ شارع الحبيب بورقيبة ظلّ حتّى تاريخ 14 جانفي 2011 منطقة محرّمة على المتظاهرين. منذ ساعات الصباح الأولى، بدء بالإضراب العام الذّي أعلنه الاتحاد العام التونسيّ للشغل مرورا إلى سلسلة الاشتباكات المتواصلة في أحزمة الفقر في العاصمة في واد الليل والجديدة والكرم وحي التضامن.

الوضع الهادئ في شارع الحبيب بورقيبة لم يستمرّ طويلا، فبعد أن اقتصر التجمّع أمام وزارة الداخليّة على بضع أفراد من الحقوقيّين والمحامين على غرار راضية النصراوي وريم الحمروني والصحفي أيمن الرزقي، بدأ شارع الحبيب بورقيبة يستقبل تباعا الموجات البشريّة من المحتجّين القادمين من ساحة محمدّ علي على الساعة العاشرة صباحا ليليهم الأطباء ويلتحق المحامون من شارع باب بنات قبل أن ينتصف النهار. سقط الطوق عن شارع الحبيب بورقيبة وتحوّل إلى قبلة جميع المتظاهرين من مختلف أحياء العاصمة. مشهد لم تعرفه تونس، وحشود هائلة اختلفت مشاربها وماضيها ومستوياتها العلمية والاجتماعيّة، توحدّت لساعات تحت شعار أوحد يدعو لإسقاط النظام ويرفض جميع الأطروحات الإصلاحيّة.

الثانية بعد الزوال تقريبا، بدأت عمليات طرد المحتجّين وإبعادهم عن شارع الحبيب بورقيبة الذّي أدار جميع الرقاب والعدسات إليه، لكنّ الاشتباكات والمواجهات تواصلت في الشوارع والأزقة المحيطة به حتّى بعد اعلان حظر التجوّل. مع غروب شمس ذلك اليوم، عاد الهدوء ليخيّم على الشارع الذّي تحرّر لساعات، فقط صوت المحامي عبد الناصر العويني اخترق اسماع الجميع وردّده صدى الساحة المقفرة معلنا هروب بن عليّ.

  2012: نتائج الانتخابات تلقي بضلالها على شارع الحبيب بورقيبة

ennahdha_fille

نتائج انتخابات أكتوبر 2011 التي أوصلت حركة النهضة إلى الحكم بأغلبيّة مريحة في المجلس الوطني التأسيسيّ بدت واضحة في الاحتفالات التي انتظمت في شارع الحبيب بورقيبة بمناسبة الذكرى الثانية للثورة.

الحضور الشعبي كان لافتا في شارع الحبيب بورقيبة الذّي تحوّل إلى رمز للثورة، ولكن تلك الحشود لم تكن موحدّة كما كانت منذ عام، بل انقسم الشارع إلى ما يشبه المربّعات الحزبيّة، فتمّت محاصصة الشارع كما سبق واقتسمت السلطة بين ترويكا حاكمة وأحزاب معارضة. الموقع الأبرز احتله الحكّام الجدد، حيث كان التجمّع الأكبر لأنصار أحزاب الترويكا أمام المسرح البلدي. أعلام ليبيا والسعوديّة وقطر ورايات حزب النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتّل وحتّى حزب التحرير كانت حاضرة بقوة لتترجم الواقع السياسيّ الجديد. أما الشعارات فكانت تعبّر عن سياسة الحكومة أو بالأحرى نواياها السياسيّة، من دعوات لإقامة الخلافة الاسلاميّة، وترتيل للآيات القرآنيّة ووعود بتحرير الأقصى وتغنّي بشهداء الحزب أو الحركة دون غيرهم.

غير بعيد، وأمام وزارة الداخليّة التونسيّة رُفعت شعارات أخرى تطالب بالاستحقاقات الاجتماعية على غرار التشغيل والتنمية الجهوية، وتذكّر بحقوق الشهداء والجرحى وضرورة استكمال تحقيق أهداف الثورة. أما العلم الأكثر حضورا فكان العلم الفلسطيني، في حين تعالت الهتافات المندّدة بارتماء حركة النهضة في الحضن القطري وزيارة أمير قطر إلى تونس في الذكرى الأولى للثورة.

2013: سليانة في شارع الحبيب بورقيبة

2013 seliana

بعد سنتين فقط عاد شعار اسقاط النظام ليتصدّر الهتافات في الاحتفالات بالذكرى الثانية ل14 جانفي. المكان لم يتغيّر، فالجميع توجّه في هذه الذكرى للشارع الرمز، لكن الصورة والمطالب والاحداث فرضت نفسها على المشهد العام.

الحاضر الأبرز هذه المرّة كانت ولاية سليانة التي تعرّضت منذ شهرين من ذلك التاريخ إلى عملية تنكيل وحشيّة بالمحتجين على تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعيّة. ردّ الحكومة حينها كان بإطلاق ما يعرف بخرطوش “الرشّ” على الشباب المتظاهر ممّا أدّى إلى أكثر من ثلاثة مائة إصابة وحالات عمى في أحدى العينين أو كلاهما.

الانقسام كان أوضح هذه المرّة، فتمترس كلّ فريق في مربّعه. أنصار الترويكا كعادتهم احتلوا المساحة المقابلة للمسرح البلدي ليطالبوا بتأديب المعارضة “العلمانيّة” ويحملوها إخفاقات سياسيّيهم. وفي المقابل تمترس جموع الغاضبين من الآداء الحكوميّ ليدعوا مرّة أخرى لإسقاط النظام ومحاسبة الانتهازيّين الجدد وإعادة تصحيح المسار الثوريّ. لم تتدخّل قوّات الأمن رغم الاستفزازات المتبادلة، ومضت الذكرى كسابقتها بعد استعراض قصير للعضلات وأوراق اللعب الجديد

  2014: الدم مرة أخرى يخلط الحسابات

Belaid brahmi

دماء الشهداء كانت الشعار الأبرز الذّي رفعه المتظاهرون في شارع الحبيب بورقيبة منذ ثلاث سنوات عادت من جديد لتكون دافعا أساسيا لتوجيه الحشود الغاضبة نحو هذا الشارع.

هذه المرّة صورتا الشهيدين شكري بلعيد ومحمد الابراهمي الذين أغتيلا تباعا في 6 فيفري 2013 و25 جويليّة 2013، تصدّرتا المشهد. فحكومة الترويكا التي تمت ازاحتها قبل شهرين دفعت غاليا ثمن تعاملها الأمني مع التنظيمات الاسلاميّة المتطرّفة.

الدم لم يغيّر الشعارات فحسب، بل غيّر توزيع الأدوار والمربّعات الحزبيّة في شارع الحبيب بورقيبة. ففي حين حافظت الجبهة الشعبيّة على موقعها المقابل لوزارة الداخليّة وعلى شعاراتها المطالبة باستكمال المسار الثوري واسقاط النظام، والكشف عن قتلة اثنين من أبرز قيادييها، أطلّ حزب نداء تونس ليفتك له حيّزا في “شارع الثورة” كما يسميّه البعض، بعد أن نجح في فرض وجوده على جميع مكوّنات المشهد السياسيّ، ليس كجزء منه فحسب، بل كلاعب رئيسيّ ومراهن حقيقيّ على السلطة التي أجبرت حركة النهضة على التخلّي عنها بعد اعتصام الرحيل والحوار الوطني.

نداء تونس الذّي اختار عبور شارع محمد الخامس، القلب المالي للعاصمة، قبل الوصول إلى شارع الحبيب بورقيبة كان حاضرا بقوّة في ليعلن عن نصر مؤجّل ويستعرض حجمه للعيان. أما حركة النهضة، فبدا حضورها على عكس السنوات السابقة باهتا، بعد أن خسرت الكثير من الأوراق على غرار رابطات حماية الثورة وأنصارها السلفيّين.

2015: إعادة التموقع في المشهد الجديد

2015 Avenue

جاءت الذكرى الرابعة للثورة بعد أسابيع قليلة من انتهاء الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة، لتفرز مشهدا سياسيّا جديدا تصدّره حزب نداء تونس في مجلس النواب ومؤسّسة الرئاسة. هذه المعطيات الجديدة انعكست على احتفالات 14 جانفي لسنة 2015، حيث أعاد الجميع التموقع وتعديل الشعارات استجابة للمرحلة الجديدة.

مرور العملية الانتخابية بسلام، القى بضلاله على الحضور الشعبي في الاحتفالات بذكرى الثورة، ولكن شارع الحبيب بورقيبة عاد ليشكّل مربعاته الحزبيّة. فالحزب الحاكم الجديد لم يراهن هذه المرة على الحضور في الشارع بشكل مكثّف بعد الوصول إلى الحكم. أما حركة النهضة التي خرجت بأخف الأضرار لتجد نفسها القوة السياسيّة الثانية بفارق بسيط في إحصاء الأصوات، عادت للشارع لتترجم النتيجة باحتفالات غنائيّة ومدحيات للذات في مربّعها التقليديّ أمام المسرح البلدي. أما الجبهة الشعبيّة، فاختارت لنفسها كالعادة التذكير باستحقاقات الثورة والمطالبة بالحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة للفئات المهمشة والمحرومة، إضافة إلى الكشف عن قتلة الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. نقابة الصحفيّين والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وفرع تونس للرابطة التونسية لحقوق الإنسانكانت كانوا حاضرين بقوّة هذه المرّة عبر مشاركتهم في تنظيم اجتماع عام لعائلات شهداء وجرحى الثورة تحت عنوان “لن نستسلم”.

الاتحاد العام التونسي للشغل الذي لعب دورا أساسيّا في إزاحة حركة النهضة منذ سنة 2013، ورعاية الحوار الوطني واستكمال المرحلة الانتقاليّة، نظّم اجتماعه المركزيّ في ساحة محمد عليّ ليعلن عن معاركه القادمة للتحسين ظروف الشغيلة في القطاعين العام والخاصّ وليؤكد على تمسكه بمواصلة العمل على تحقيق أهداف الثورة واستحقاقاتها.

 2016:مطالب الثورة تعود من جديد

2016 Avenue

بعد خمس سنوات، ورغم تتالي الخيبات، والحرب على الإرهاب وتواصل تدهور الوضع الاقتصاديّ وتعالي الأصوات الناقمة على الثورة، لم يفقد لا شارع الحبيب بورقيبة ولا تاريخ 14 جانفي رمزيتهما لدى التونسيّين.

الغائب الأبرز هذه المرّة كان حزب نداء تونس الذّي أعيته الصراعات الداخليّة وفشل الحكومة التي شكّلها في تنفيذ جزء يسير من الوعود الانتخابيّة. اختار قواعد الحزب في الذكرى الخامسة أن ينكفئوا على أنفسهم تاركين الساحة هذه المرّة لروّاده الأوائل. حركة النهضة الحليف الأبرز للحزب الحاكم لم تغب عن هذه المناسبة، وسجّلت حضورها في مربّعها المعهود عبر حفل غنائي رافعة شعاراتها القديمة التي تخلّت عنها منذ سنة 2011. أحزاب المعارضة بدورها لم تترك فضاءها التقليديّ واختارت مواصلة التشبّث بمطالبها الأولى التي لم تتحقّق على مرّ السنوات الماضية رغم تعاقب ستّ حكومات منذ سنة 2011

العائد الجديد لشارع الحبيب بورقيبة فكان حزب التحرير الذّي حاول اثبات وجوده رغم المناخ العام المناهض للحركات الإسلامية المتشدّدة، وليثبت ربّما تمسكه بالعملية الديمقراطيّة والعمل السلمي في تمايز عن نظيراته من التنظيمات الاسلاميّة الجهاديّة.

أما الصوت الأقوى فكان للشباب الذّي خرج من باب الخضراء ليتوجه إلى قلب العاصمة مطالبا بحقّه في التشغيل، ذلك الشعار الأهمّ والابرز الذّي رُفع في وجه بن عليّ وشحذ الهمم لإسقاطه. هؤلاء الشباب الذّين طغى حضورهم وعلا صوتهم في الذكرى الخامسة للثورة سجّلوا تواجدهم في شارع الحبيب بورقيبة بعد ان دخل ثلّة من قدماء اتحاد الطلبة المفروزين أمنيّا اسبوعهم الرابع من إضرابهم عن الطعام طلبا لإنصافهم وتمكينهم من حقّهم في الحياة.

صورة هؤلاء الذّين خرجوا يرفعون الأواني الفارغة ترجمت بوضوح الفرق في الأولويّات بين طبقة سياسيّة غارقة في تصفية الحسابات وبين شباب كان وقود الثورة وقادحها أزيح رغما عنه من المشهد طيلة السنوات الخمس الماضية، ليلجأ مرّة أخرى للشارع الرمز علّه يكسر طوق النسيان والتهميش.