بقلم خالد الطراولي*

ktraouli@yahoo.fr

كلمات قصيرة ولكنها ثقيلة، أسطر قليلة ولكنها مبطنة بكثير من التساؤلات والوجوم! لقد حمل إلينا الخطاب الأخير للسلطة فوهة لم يكن المواطن التونسي ينتظرها، ولا يتمنى فتحها أو الحديث عنها. إنها قضية الصحوة في مجموعها والحجاب كأحد تعبيراتها، التي تعود من جديد عبر رفض مبدئي لحمله، وربطه مجددا باللباس الطائفي، وكأن عقدا كاملا من الزمن لم يمر، وكأن التاريخ لم يرسم على صفحاته تجربة مثقلة بالمآسي والهموم، وكأن العودة ليست تأكيدا على فشل المعالجة السابقة.

ليس دفاعي عن الصحوة من منطلق سياسي، وكم كتبت في هذا الباب ودعوت إلى الفصل التام بين الصحوة والحركة، فلكل رجاله ونخبه وإطاره وأهدافه ومنهجيته…وإن كانت السياسة دفاعا عن الحرية في أول سلم أخلاقياتها، ولكن خيرت أن لا يقال توظيف لهمّ إنساني واستغلال للصحوة ولعب بالنار!

ليس دفاعي من منطلق ديني، وإن كان يجوز، فهؤلاء إخوتي وأخواتي، جمعتني بهم المقادير في عقيدة واحدة وإيمان واحد وفهم وتأويل واحد…

ليس دفاعي عن الصحوة من منطلق أخلاقي، وإن كان هذا مندوبا، فكيف لي أن لا أكون في صف الحشمة والحياء؟والرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) جعل الحياء شعبة من شعب الإيمان؟…
ليس دفاعي عن الصحوة من منطلق دعوي، فللدعوة رجالها وإطارها وأهدافها، ورحم الله امرئا عرف قدر نفسه وفقه مرحلته ومحيطه…

ليس دفاعي عن الصحوة من منطلق وطني، وإن كان هذا ممدوحا ومشروعا. فكيف لي أن لا أكون إلى جانب المواطن وحقه في المواطنة الكاملة وغير المنقوصة؟

ليس دفاعي عن الصحوة من منطلق إنساني، وإن كان هذا واجبا، فكيف لي إن لا أكون إلى جانب كرامة الإنسان وتكريمه، والشرائع السماوية واللوائح الوضعية تقف إلى جانبه؟

إن منطلقي الوحيد الذي يدفعني إلى رفع يافطة الانتباه دفاعا عن هذه الصحوة وعن إحدى تعبيراتها الساطعة وهو الحجاب… هو الحرية ولا غير الحرية، إنها حرية الاختيار ولا سواها!

إن حرية الملبس وحرية العقيدة وحرية الشعيرة وحرية ارتياد أماكن العبادة كفلتهم المواثيق والقوانين الصائبة والدساتير المصيبة في بلدان الحق والعدل، ولا بد من رفع الصوت بهدوء وقول كلمة حق للتعبير عن انشغالنا من جديد بهذه الحرية المكبوتة، وهذه الحرية المعتقلة…

إن الدفاع عن الصحوة من هذا الباب، باب الحرية والاختيار ليس حكرا على طائفة أو فرد بل هي أخلاق عامة ومواثيق وقيم تتجاوز الانتماء والجنس والرؤى والاختلاف…الصحوة ملك للوطن ولا لغيره… ولقد بحثت عن رجال ديمقراطيين ونساء ديمقراطيات، فلم أجد الكثير، إلا من رحم ربك… لقد فهمنا الديمقراطية والحرية على أنها الشمول وعدم الإقصاء… وفهمها بعض الناس في صفوف المعارضة الحزبية أو خارجها على أنها التجزئة والاحتكار..، فهموها على أنها انتماء، وفهمناها على أنها مواطنة..، فهموها على أنها اضطرار وفهمناها على أنها اختيار..، فهموها على أنها قوم وطائفة وحزب، وفهمناها على أنها وطن وكفى..، فهموها على أنها حقوق المرأة وفهمناها على أنها حقوق الإنسان وكرامته.

دعونا نهمس إلى الصحوة من بعيد، وإلى أخواتنا هناك، إلى هؤلاء المواطنات العاديات، إلى هاته الحرائر، إن خطاب السلطة قد سمح لكن بالسفساري [1] فعليكنّ أن تلبسنه إن كان في ذلك تجنبا في الإضرار بكنّ، ونحن نعلم تناسبه المحدود مع مشاغلكنّ ودراساتكنّ وقلة أريحته مع واقع جديد ومعاصر، ولكن للضرورات أحكامها ولعله مع الزمن يكسب السفساري تناسبا أكثر، وتدخله الموضة ومقص الجمال والحشمة من أطرافه، ورب ضارة نافعة، فهو تمسك بالهوية التونسية التي غالبا ما دخلت مناطق الفلكلور وتقاليد السياحة والفرجة، فادخلن به الجامعات، وتسوّقن به في المغازات والمحلات، وتفسّحن به في الشارع والأماكن العامة، فالسفساري قد صاحب هويتنا وصاحب ماضينا وكان رمز الوقوف والتشبث بمعالمنا وبوطنيتنا، فاجعلنه يصحب حاضركن ومستقبلكن حتى يكون شعارا للحرية وللمواطنة الكريمة ومنهجية السلم والسلام والسلامة.

همسة ثانية ونصيحة من وراء الحدود إلى أصحاب القرار في تونس، لقد كانت هذه الصحوة ومظاهرها وليدة نزعة روحية عبادية خالصة، ولم يشبها أي باعث سياسي أو هدف حزبي، فالحركة الإسلامية السياسية قد غُيبت عن الساحة منذ بداية التسعينات والكل يعلم السبب والكيفية والجور الذي طالها، وما أراد هؤلاء المواطنون إلا التعبير عما يختلج في صدورهم وتدفعه إليه ضمائرهم من امتثال إلى أمر سماوي لا غير، يريدون أن يعيشوا حريتهم ومواطنتهم كاملة دون نقصان ودون توظيف أو استغلال.

إن الملاحقة والتعسير والاستفزاز والإكراه لا يولد سلوكا سليما ولا فكرا صحيحا، ولكن امتعاضا وغصة وغبنا يمكن أن يولد انفجارا وانحرافا، فلا تدفعوا هؤلاء إلى التطرف في أفكارهم والمغالاة في سلوكهم والانحراف في حياتهم نحو مواطن العنف وردات الفعل غير السليمة. فإذا كان الاستئصال والمتابعة والجور قد ولّدوا في الصحوة الأولى منافذ وتنفس، مثلته المنافي والتشريد في بلدان العالم، وساهم في تهدئته بروح حضارية عالية مشروع إسلامي واع، فإن اليوم ليس كالبارحة فالصحوة الثانية ليس لها عقال، لا تحمل لا مرشدا ولا قائدا وهي سهلة الانقياد نحو مواطن الاستغفال وردات الأفعال، فحذاري من السقوط. في أرض كلها أشواك!

خوفي أن يكون وراء هذا النمط من التفكير وهذه المنهجية الخطيرة في مواجهة الصحوة ومظاهرها أيديولوجيات مخفية وأفكار مشبوهة وأفراد ومجموعات وراء الستار، يواصلون حربا لم تضع أوزارها في أعماقهم، وينشدون تحريك الخيوط من بعيد حتى يشفوا غليلا لم ينته…خوفي أن يُشبع بعض المرضى تلهفهم في محاربة الدين والشعائر عبر تقمص كاذب للتقدم والتمدن والتحضر… خوفي أن يكون البعض يريد عودة إلى سنوات الجمر حيث رأى مكانته ودوره يزداد وموقفه يتدعم في الظلام وعلى الصياح والآلام… خوفي أن هناك من يرى مكاسبه وتجارته تعلو مكاسب البلاد واستقرارها وأمن مواطنيها وسلامتهم!!!

هذه كلمات مقتضبة أرمي بها في ساحة أهل الشأن في تونس، وأدفع بها إلى هذه الصحوة حماية لحريتها وتحريرا لمواطنتها، وهي كذلك كلمات بيني وبين ربي في كلمة حق ومساندة لمظلومين ومظلومات، ودفاعا عن الحرية والكرامة، فذلك حديثي وذلك ندائي، فاللهم قد بلغت اللهم فاشهد.

*رئيس اللقاء الاصلاحي الديمقراطي

[1] السفساري لباس تقليدي تونسي محتشم لا يظهر غير الوجه والكفين، لبسته جداتنا ولا يزال، وقد تركته بنات الصحوة وفضّلن عليه الحجاب الشرعي العادي لما في هذا الأخير من تيسير في التحرك والتعامل.