بقلم المختار اليحياوي

من لم تصادفه هذه العبارة في الأيام الأخيرة في تونس بمعناها الدارج كما بمعناها الفصيح، بمعناها المباشر كما بمعناها المجازي، في حوارات البيوت و الشارع و المناسبات العامة كما على صفحات الجرائد و الأنترنات. لا حديث هذه السنة إلا على الحرقة بفتح الحاء أو بضمها، إلا على من حرق و من احترق، حرقة تعكس تلضي الأجساد وهي تندل عرقا من شدة قسوة الطقس و ارتفاع درجة حرارته كما هي حرقة تعبر وجع الضمير و الوجدان أمام ما تردت إليه الأحوال في كل مجال و تعكس فزعا متزايدا من المستقبل و ما يمكن أن يخبئه من غوائل الأيام.

ولكن الحرقة أو الحرقان بالمعنى الدارج تعنى في لغة المهمشين ذلك الحل الأقصى الذي لم يطله الكثيرون من الشباب التونسي المهمش المضطهد المحتقر في البيت كما في المجتمع حيث لم يتسع مجال بلاده لاستيعابه فأصبح يعني الفشل مجسدا في كل ما تحمله العبارة من خيبة المقهورين و أسى المنبوذين. هذا الشباب البائس العاطل الذي احترق مستقبله قبل أن تلده أمه ووجد نفسه في وطن لا يتسع لأحلامه، بل أنه لا يضمن حتى مجرد مقومات كرامته حتى أصبح منتهى أحلامه الفرار و التخلي عن هذا الوطن الذي لم يقم له أي اعتبار و البحث بأي وسيلة كانت حتى بالمغامرة بإلقاء نفسه في البحر على قوارب مهترئة لم تعد تصلح حتى للصيد الشاطئي. و حتى تكون الرحلة بلا عودة يقومون بحرق أوراق هويتهم و كل ما من شأنه أن ينسبهم لبلدهم حتى لا تقع إعادتهم إليه قسرا لو كتب لهم الوصول إلى الشاطئ الآخر بعد رحلتهم .

أمام تفاقم هذه الظاهرة لم يجد “الحاكم” – بمعنى السلطة في قاموس المهمشين- سوى الحل الردعي بتشديد العقاب و مجابهة هؤلاء الممحوقين بعظيم الويل و الثبور حتى أصبح جزاء جريمة اجتياز الحدود خلسة التي كانت تقتضي عقابا بنصف شهر سجن على أقصى تقدير تصل عقوبتها إلى 20 سنه كما شددت الحراسة على السواحل و الحدود و كان كل ذلك صفقة رابحة لاستجداء المساعدات و غنم المليارات من دول الضفة الشمالية لتضييق الخناق على الضفة الجنوبية. و لكن النتيجة لم تبدل من الأمر شيئا سوى أنها زادت من تفاقم التكاليف التي تطالب بها عصابات التهريب المنضم و أصبح “للحاكم” فيها نصيب.

الحرقة التي كانت حكرا على من وجدوا أنفسهم بلا نصيب في هكذا وطن تحولت مؤخرا إلى تطلع قل من لا يراوده من خيرة الإطارات و أنجب النوابغ من تلاميذ المدارس و طلبة الجامعات بل أن من تسنح له فرصة الخروج من البلاد أصبح لا يعود إليها ويفضل المجازفة بإعادة بناء حياته خارجها على المراهنة على المستقبل داخلها. لقد تفاقمت هذه الظاهرة مؤخرا إلى حد جعل “الحاكم” يوقف إرسال البعثات و التربصات بالخارج كما حصل بالنسبة لخريجي الإنجليزية أو ما حدث مؤخرا لبعثة المهندسين الفلاحيين التي لم يعد منها سوى بعض البنات. و رغم أن الوجه البارز للظاهرة يبدو مريعا فإن الوضع الحقيقي أشد خطورة ذلك أنها مثل جزيرة الثلج لا يمثل الجزء الظاهر منا سوى نزر بسيط من حقيقة حجمها المغمور.

فتفاقم الظواهر الإجرامية و اختلال وضع العائلة في المجتمع من خلال ارتفاع نسب الطلاق و بلوغ مؤشر العزوف عن الزواج حدا أصبح يمثل معضلة في عدم تجديد النسيج السكاني إضافة إلى تضخم نسبة الأنشطة الهامشية في كل المجالات حتى طغت على سوق العمل و التي تحولت إلى طريقة للتحرر من “الحاكم” فالمؤجر مثله مثل الأجير أصبحت قنوات العمل الرسمية تعني أساسا بالنسبة له ارتهانا في جرايته و مؤسسته لنهب السلطة تحت مختلف أنواع المسميات حتى ضاقت كل أشكال التحيل الممكنة وأصبحت مسالك الكسب المشروع غير مربحة بعد أن أحيل بلد بأكمله على توسل الوساطات و الوجاهات للتخفيف من شطط الضرائب و الأداءات أن لم يكن البحث عن العمولات و الرشاوي و غيرها من طرق الدخل الجانبية لمجابهة تكاليف الحياة و قد بلغت فواتير التزود بالماء الصالح للشراب و كهرباء الإنارة و غاز الطهي و التدفئة و غيرها من المعاليم التي لا حد لها و لا آخر وسيلة للابتزاز و النهب المنظم لإفقار مجتمع بأسره وهو يشاهد بذخ الطغاة و لا يكاد يجد بما يقتات. شوارعنا عمتها الفوضى و أصبحت أرصفتها تتنازعها مافيات عصابات التهريب لتروج عليها بضائعها القذرة مستغلة شبابا في عمر الورود تماما كمروجي المخدرات يحرسونهم يتلضون كامل النهار و يغنمون من بؤسهم بأبخس الأثمان وهم في كر وفر على مدار اليوم مع المبتزين من الأعوان المرتشين ولكن لا حد مع ذلك للانحطاط و لم يسلم منهم حتى المتاجرة ببؤس الضعفاء و فاقدي السند و ذوي الاحتياجات الخاصة بل تحولت “رعايتهم” إلى أهم عناوين تمجيد “الحاكم” و الثناء على رعايته الموصولة و رفقه بالتعساء مؤسسا بذلك لخطاب قائم على التذلل له و الطمع في صدقاته و مكرماته و أصبحنا نتسول على أعتاب وطن اعتقدنا أن الجيل الذي قبلنا حرره ممن استعمره لكي لا يحكمه أبدا من يقيم عزه على ذلنا.

حتى الواجب الوطني حولوه إلى تجارة فالشاب المتخرج و بمجرد حصوله على أول مورد رزق له مطالب بالتخلي على جرايته مقابل أداء خدمته العسكرية و الحال أنه لو رغب في أن يقع تجنيده لما وجد ثكنة تستوعبه و حتى تتحقق المساواة و يظهر الحاكم حداثته قرروا تجنيد البنات و ابتزازهن في أول سنوات عملهن إلى أن أصبح معدل سن الزاج يقارب الأربعين للشبان و الثلاثين للفتيات فهل بقي بعد هذا من طعم للحياة. و أين العمل نفسه وهل بقي في هذه البلاد من أمل فيه لغير أصحاب الجاه و الوساطات. في كل بقاع الكون أينما تحدثت عن الشباب يفهم أن المقصود من هم دون العشرين أو يزيدون عليها بقليل إلا في هذا الوطن تشوهت لدينا المفاهيم حتى أصبحنا ننعت بالشباب حتى من بلغوا الأربعين.

و الحرقة هنا – برفع الحاء- على استفحال كيد الظالمين في تشتيت جمعنا رغم ما نقابل به يوميا من شواهد عبثهم بمستقبل أبنائنا و براهين سعيهم لمزيد إذلالنا. ما من إدارة أو مؤسسة إلا و قد صنف المشتغلون فيها على أصناف لا علاقة لها بالسلم الإداري و لا بالتفاوت في الشهادات و الكفاءات و لا بالأقدمية أو ألفرق في المأمورية بين أعوان تنفيذ و أعوان تسيير بل بين المخزن الجديد من أصحاب الولاءات الذين لا يتقيدون إلا بتعليمات الذين يمسكون بكل شيء و يخبرون عن كل شيء و ينفذون كل ما تصدر لهم به التوصيات. يتربعون أباطرة بلا رقيب و لا حسيب و يتصرفون في الشأن العام كما يتصرفون في خواص ممتلكاتهم. يأتي مباشرة بعدهم سلك المحظيين و هم يحتلون المكاتب الفارهة و يحملون على بطاقاتهم صفات ما له رنين من المسؤوليات و تخصص لهم سيارات الإدارة ويزودون بالوقود بلا مقابل و أول المستفيدين من الخدمات الإجتماعية مقاسم البناء و الشقق الفاخرة الممولة بالقروض البنكية و أهم ما يشتغلون فيه السفرات إلى الخارج حيث يكونون في مقدمة كل الوفود و البعثات و لكنهم في الواقع لا يقومون بأي عمل لأنهم أبناء الوجهاء يتمعشون من سطوة عائلاتهم و لا هم لهم في الإرتقاء في وضيفهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون من رؤسائهم بل هم الخائفون. أما في حضيض السلم وأسفل درجاته يأتي الموضوعين في ” الفريقو” من كبار المسؤولين إلى صغارهم ممن أحترقت أوراقهم و اندثر أملهم في كسب رضا أسيادهم سواء لعيب ذاتي في مواصفاتهم أو لتلكئهم في التقيد بالتعليمات عندما كانوا من أصحاب المسئوليات تتلخص أيامهم في التردد على عملهم لقراءة الصحف و الدردشة في مكاتبهم مع من هم في مثل أوضاعهم و ما أكثرهم لا يتخلون في شيء و لا يناقشون أمرا لأنهم يعرفون أنهم محروسون و عند أبسط هفوة قد يحرمون حتي من مصدر رزقهم. متقاعدون قبل الأجل و خارج القانون.

هكذا أضحى حالنا بين من يطمح للحرق و من يحترق حسا و معنى و من احترق وابقي في “الفريقو” و بين من ينام و يصحى على هاجس الخوف من الاحتراق… كلنا حرقة على هذا الوطن و لكل منا حرقته و معناها..

المختار اليحياوي – قربة – الأحد 9 جويلية 2006


(*) Ce texte est dédié à mon ami Astrubal de Nawaat