يُجرّم مرسوم الأحزاب في فصله 19 كلّ تمويل مباشر وغير مباشر نقدي أو عيني صادر عن جهة أجنبية. ويترتّب عن ارتكاب هذه المخالفة وفقا للفصل 28 من المرسوم ذاته تعليق نشاط الحزب السياسي في مرحلة أولى لمدّة لا تزيد عن 30 يوما، وفي مرحلة لاحقة يتمّ حلّ الحزب المعني بالتمويل الأجنبي بطلب من رئيس الحكومة.
كما يمنع القانون الانتخابي بموجب فصله الثمانين تمويل الحملة بمصادر أجنبية بما فيها الحكومات والأفراد والذوات المعنوية. ويُقصد بالتمويل الأجنبي على معنى هذا الفصل المال الذي يتخذ شكل هبة أو هدية أو منحة نقدية أو عينية أو دعائية مصدرها أجنبي وفق التشريع الجبائي، مهما كانت جنسية المموّل. ويفقد أعضاء القائمة المتمتّعة بالتمويل الأجنبي عضويتهم بمجلس نواب الشعب إذا ثبت ذلك لمحكمة المحاسبات. ويُحرم كل من تمّت إدانته بالحصول على تمويل أجنبي لحملته الانتخابية من أعضاء قائمات أو مترشّحين من الترشّح في الانتخابات التشريعية والرئاسية الموالية، طبقا للفصل 163 من القانون الانتخابي.
انتخابات جزئيّة أم إعادة توزيع المقاعد؟
يتحدّث الفصل 34 من القانون الانتخابي عن حالات الشّغور النّهائي في مجلس نوّاب الشّعب، والنّاتجة إمّا عن الوفاة، أو العجز التامّ، أو الاستقالة، أو فقدان العضوية إمّا بموجب حكم قضائي أو بموجب أحكام الفصلين 98 و163 من هذا القانون. ويتعلّق الفصل 98 بالعقوبات الناتجة عن عدم إيداع القائمات الماليّة في الآجال، وعن تجاوز سقف الإنفاق الانتخابي، فيما يتحدّث الفصل 163 عن إسقاط العضويّة في البرلمان على خلفيّة التمتّع بالتمويل الأجنبي. ويترتّب عن الشّغور النّهائي تنظيم انتخابات تشريعيّة جزئيّة. فهل يمكن للقائمات المُمثَّلة في مجلس نوّاب الشعب تقديم قائمات لخوض الانتخابات التشريعية الجزئية؟ “القانون لا يمنع أيّ قائمة من الترشّح للانتخابات الجزئيّة، ما عدا الأحزاب الّتي يتمّ حلّها بمقتضى مرسوم الأحزاب على خلفيّة تمتّعها بالتمويل الأجنبي“، يتحدّث أستاذ القانون العامّ والرئيس السابق للهيئة العليا المستقلة للإنتخابات شفيق صرصار لنواة.
في تقريرها العام حول نتائج مر اقبة تمويل الحملات الانتخابية للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها والانتخابات التشريعية لسنة 2019، رصدت محكمة المحاسبات عددا من المخالفات تتعلّق بالخصوص بحزب قلب تونس وحركة النهضة و عيش تونسي. حيث أبرم نبيل القروي عقدا مع شركة الضغط “ديكنز اند ماسون” Dickens & Mason، بقيمة 2.85 مليون دينار (تقرير محكمة المحاسبات، الصفحة 27). كما تلقّت جمعيّة “خليل تونس” الّتي يترأّسها نبيل القروي تمويلات مجهولة المصدر بلغت ما يناهز 56 ألف دينار سنة 2018 و20 ألف دينار في 2019 (تقرير محكمة المحاسبات، الصفحة 30). ولاحظت المحكمة في تقريرها أنّ سوء حوكمة الجمعيّات وغياب الشفافية والرقابة الماليّة على تمويلاتها والتحويلات التي تتلقّاها من شأنه أن يخلق تداخلا بين العمل الجمعيّاتي والعمل الحزبي.
أمّا حركة النّهضة، فقد عاينت المحكمة في تقريرها أنّها تعاقدت في 2014 مع شركة الدعاية والضغط BCW الأمريكية مدّة 4 سنوات بمبلغ قدره 285 ألف دولار أمريكي. وتمّ تجديد هذا العقد من 16 جويلية 2019 إلى 17 ديسمبر من نفس السّنة، بمبلغ قدره 187 ألف دولار أمريكي، وهو ما اعتبرته المحكمة “شبهة تمويل أجنبي” على معنى الفصل 163 من القانون الانتخابي. (تقرير محكمة المحاسبات، الصفحة 43).
وبخصوص قائمة “عيش تونسي”، فقد أفادت محكمة المحاسبات في تقريرها أنّ مرشّحة القائمة عن دائرة بنزرت ألفة الترّاس تعاقدت مع شركة أجنبية “أمريكا تو أفريكا كونسلتينغ” America to Africa Consulting، لمدّة تراوحت بين 7 ماي 2019 إلى غاية موفّى أكتوبر 2019 بمبلغ شهريّ قدره 15 ألف دولار أمريكي (تقرير محكمة المحاسبات، الصفحة 42).
الجرائم الانتخابية بين القضاء الإداري والقضاء الجزائي
وأوضحت أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي لنواة أنّ النوّاب المترشّحين على القائمات المتمتّعة بالتمويل الأجنبي تفقد مباشرة عضويّتها بالبرلمان إثر استيفاء التحقيقات والأبحاث وثبوت الجريمة، حتّى وإن غيّروا الكتلة الّتي ينتمون إليها خلال المدّة النيابيّة. وعليه، فإنّ مقاعد النّهضة وقلب تونس وعيش تونسي في البرلمان مرشّحة للسّقوط، أي أنّ البرلمان يمكن أن يخسر 91 مقعدا، باعتبار النتائج النهائية للانتخابات التشريعية لسنة 2019، والتي أفرزت فوز حركة النهضة بـ52 مقعدا، مقابل 38 لفائدة قلب تونسي ومقعد وحيد لعيش تونسي.
وأفاد أستاذ القانون العامّ شفيق صرصار أنّ لمحكمة المحاسبات إصدار أحكام قضائيّة تقضي بإلغاء مقاعد القائمات المتمتّعة بالتمويل الأجنبي. ولكنّ الوضعيّة الحاليّة الّتي تواجه حزبَيْ النّهضة وقلب تونس بالأساس وكلّ من سيثبت تلقّيه مالا أجنبيّا تُحسم عن طريق القضاء العدلي مُمَثَّلا في المحكمة الابتدائيّة بتونس. ويعتبر في هذا السياق أنّ إجراءات حلّ الأحزاب بمقتضى المرسوم 87 أسرع لأنّها مُحدَّدة زمنيّا. أمّا بالنسبة إلى محكمة المحاسبات فهي إلى الآن لم تحسم القائمات الماليّة المتعلّقة بالانتخابات البلديّة لسنة 2018، وهو ما يقتضي –وفق أستاذ القانون- إصلاح القانون الانتخابي من خلال مراجعة آجال الحسم في المخالفات الانتخابية، والّتي تسقط بالتقادم بعد ثلاث سنوات من الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية، أي بتاريخ 2 أكتوبر 2022. وللتذكير، فإنّ محكمة المحاسبات أصدرت إلى الآن 790 حكما ابتدائيّا فقط من جملة 2047 قائمة ماليّة تتعلّق بالانتخابات البلديّة لسنة 2018، ممّا يعكس حجم العمل الملقى على عاتق هذه المؤسسة القضائيّة وصعوبة فضّ النزاعات الانتخابيّة.
وعليه، فإنّه من الصعب التنبّؤ بمصير البرلمان مع تمديد التدابير الاستثنائية من ناحية، واقتراب موعد العودة البرلمانية في شهر أكتوبر من ناحية أخرى. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ حجم العمل الرقابي لمحكمة المحاسبات على الماليّة العموميّة لمختلف هياكل الدّولة يحول دون إصدار أحكام قضائيّة بخصوص الجرائم الانتخابيّة في آجال معقولة، قبل سقوط الآجال بالتّقادم. كما أنّ تسلّل المال السياسي عبر منافذ عديدة من شأنه أن يُعقّد مسألة التّدقيق في التّمويل، بالإضافة إلى طول الآجال القضائيّة وتعقيد إجراءات التقاضي بين الطّور الابتدائي والاستئنافي والتعقيب.
iThere are no comments
Add yours