وكما كان متوقعا لم ينتظر قيس سعيد الضوء الأخضر من مونبليزير لاختيار الشخصية الأقدر على تشكيل الحكومة، مثلما جرت عليه العادة منذ 2011 الى الآن، كما لم يأخذ بعين الاعتبار اقتراحات بقية الأحزاب.

بلا ضوء أخضر من النهضة

الحقيقة أن المتابع الجيد لما يجري داخل الساحة السياسية في تونس، لا يمكنه أن يتفاجأ بقرار رئيس الجمهورية كسر قاعدة نيل الرضا المسبق من مونبليزير. فالعلاقة بين قرطاج ومونبليزير وأساسا بين الرئيس سعيّد وراشد الغنوشي لم تشهد مثل حالة التوتر والقطيعة التي تعيشها اليوم. وعلى غير العادة لم تلتق الرئاسات الثلاث في حفل عيد الجمهورية تحت قبة البرلمان مثلما جرت العادة كل سنة. على العكس، توجه قيس سعيد الى مقبرة الجلاز لقراءة الفاتحة على روحي شكري بلعيد ومحمد البراهمي، في رسالة واضحة إلى حركة النهضة المتّهمة بالضلوع في عملية اغتيال الزعيمين الوطنيين، خاصة بعد الاتهامات التي وجهت إلى راشد الغنوشي والجهاز السري للحركة. وقبل ذلك استقبل رئيس الجمهورية عائلة الشهيد البراهمي ووعد بإيلاء القضية الأهمية التي تستحقها. وكلها رسائل لا تروق لحركة النهضة ولا لراشد الغنوشي الذي قضّى يوم عيد الجمهورية وحيدا ومعزولا واكتفى بتدشين شارع يحمل اسم الراحل الباجي قايد السبسي في سياق رسالة مقابل رسالة.

كل هذه الرسائل غير الوديّة المتبادلة، وما سبقها من رسائل تهديد تحدّث فيها قيس سعيّد عن  وجود آليات قانونية ودستوريّة متاحة لضبط النظام، شبهها بالـ”الصواريخ على منصات الاطلاق”، كلها تؤكد على أن النهضة ستكون مبعدة من الحكومة القادمة، أو على الأقل لن تكون صاحبة القول الفصل فيها.

وفي خضم البحث عن الشخصيّة الأقدر لقيادة الحكومة، تجاهل سعيّد رسائل الغنوشي وأساسا حديثه على أن البلاد تحتاج إلى شخصية اقتصادية محنكة ولها تجربة، وليس شخصية قانونية، وذلك بعد أن انحصر خيار الرئيس بين ثلاث شخصيات كلّها مختصة في القانون ولا تحظى بمباركة النهضة وهي وزير العدل الأسبق محمد صالح بن عيسى ووزير الداخلية الحالي هشام المشيشي ووزير الدفاع الحالي عماد الحزقي.

بلا دعم اللوبيات المالية والجهوية

ويتميز الأشخاص الثلاثة بكونهم مستقلين عن كل الأحزاب السياسية وعن كل اللوبيات المالية والعائلية والجهوية ويتمتعون بقدر مهم من المصداقية ونظافة اليد. ولكن لماذا رجّح الرئيس كفّة المشيشي؟ يبدو أن قيس سعيد أراد كسر كل القواعد السابقة في تكليف رئيس الحكومة، رغم الحاجة لنيل ثقة البرلمان بكل ما يحتويه من موازين قوى ومصالح. القاعدة الأولى التي كسرها التعيين هو اقتراح رئيس حكومة من خارج الأحزاب المؤلفة للحكومة المستقيلة، فضلا عن كونه لا ينتمي ولم يسبق له أن انتمى إلى أي حزب حسب ما هو متوفر من معلومات. وبالتالي فهو غير مدعوم من أي حزب داخل البرلمان أو خارجه، وفي ذلك رسالة بالقطع مع حالة التجاذب والخصام والصراع التي تعيشها الأحزاب السياسية وخاصة تحت قبة البرلمان، والتي تثير يوما بعد آخر سخط المواطنين واستيائهم وحنقهم على الحياة السياسية.

القاعدة الثانية التي كُسِرت هي تكليف شخصية لا تتمتع بدعم لوبيات المال أو ما يسمى بالعائلات الكبرى، وكذلك الجهات التي طالما كانت تنظر للحكم باعتباره حقّا مكتسبا، بل على العكس فرئيس الحكومة المكلف ينحدر من جهة الشمال الغربي، (ولاية جندوبة) وهي تعتبر سابقة في تاريخ البلاد. وهي رسالة أخرى إلى التونسيين هذه المرة بأن السلطة ليست حكرا على عائلات أو جهات بعينها، وفيها رد الاعتبار لدور التعليم والتحصيل العلمي للنفاذ إلى مراكز القرار أو ما يسمى بالمصعد الاجتماعي.

ربّما ما رجّح كفة المشيشي عن بقية الأسماء هو انتماؤه الى جهاز مهم في الدولة وهو الجهاز الإداري. فالمشيشي هو رجل إدارة بامتياز سواء من ناحية تكوينه (خريج المدرسة العليا للإدارة) أو من خلال المهام التي تقلّدها في وزارات المرأة والنقل والشؤون الاجتماعية والصحة، كما كان خبيرا مدققا في اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، وآخر المهام التي كلّف بها كانت وزيرا للداخلية.

ماذا عن سجله في حقوق الإنسان؟

وإذا كان كل ما تقدّم يصب في صالح هشام المشيشي باعتباره الشخصية الأقدر المكلفة بتشكيل الحكومة، إلا إنه لا يجب أن ننسى أن مرور رئيس الحكومة المكلف على رأس وزارة الداخلية، وبالرغم من النجاحات التي تركها على مستوى مقاومة الإرهاب والجريمة، إلا أن وزارته ارتكبت أخطاء جسيمة في علاقة بملف حقوق الانسان. فتحت مسؤوليته تم فض الاعتصام السلمي والحراك الاجتماعي في الكامور بالقوة المفرطة، كما تم خلال ادارته الاعتداء على حرمة مسكن المحامي عبد الناصر العويني دون حكم قضائي، وخلال عهدته في وزارة الداخلية وقع الاعتداء بالعنف على المعتصمين الأساتذة النواب مما أدّى إلى إجهاض أستاذة نائبة معتصمة.
والسؤال الآن هل سيحصل رئيس الحكومة المكلفة على ثقة أكثر من 109 نائبا في البرلمان، وهو لا يحظى من البداية بدعم حركة النهضة و”ذيلها” ائتلاف الكرامة، وربّما أيضا حليفهما قلب تونس؟ يبدو أن مصير المشيشي وحكومته التي لم تتشكل بعد سيكون رهين نتيجة المبارزة بين سعيد والغنوشي، والتي بدأت منذ فشل حكومة الجمني المقترحة من حركة النهضة واستعادة المبادرة من القصر وتعيين حكومة الرئيس الأولى التي قادها إلياس الفخفاخ.
مبارزة بدأت بالتلميح وبرسائل جد مشفّرة كان يوجهها ساكن قرطاج إلى ساكن باردو لتتحول فيما بعد إلى رسائل واضحة وتهديد صريح من الرئيس لزعيم حركة النهضة الذي وجّه له اتهامات خطيرة تتعلق بالمس من السيادة الوطنية وبأمن واستقرار البلاد، والوعيد بمواجهة ذلك بوسائل أخطر وإن كانت دستورية وسلمية إلا أنها ك”الصواريخ على منصات إطلاقها”.