“لا وجود لتغييرات جوهرية في النسخة المعدّلة من مشروع قانون الصلح الجزائي”، يقول المحامي والقاضي الإداري السابق أحمد صواب لنواة، إذ شملت التعديلات المقترحة لمرسوم الصلح الجزائي ثلاثة إجراءات، أوّلا إقرار الصلح الوقتي وتمكين الأشخاص المعنيين بإجراء الصلح من إنجاز مشاريع بقيمة 50% من المبالغ المطالبين بدفعها، ثانيا انتفاء إمكانية الطعن في قرارات مجلس الأمن القومي الذي يبت في ملفات الصلح الجزائي، وثالثًا مراجعة الفصل المتعلّق بمصادرة أملاك المطالب بالصلح وأصوله وفروعه في حال فراره.
استعجال النظر واختزال عمل اللجنة
رئاسة الجمهورية هي الجهة المبادرة بمرسوم الصلح الجزائي وبمقترح تعديله، إلاّ أنّها لم تدافع عن مشروعها أمام اللجنة البرلمانية المختصّة. لجنة اكتفت بالاستماع إلى ممثّلين عن وزارة العدل ورئاسة الحكومة ووزارة المالية في جلسة واحدة يوم 05 جانفي، ثمّ ناقشت الفصول وصوتت عليها قبل المصادقة على تقريرها يوم 11 جانفي، علمًا وأنّ الرئاسة طلبت استعجال النّظر في هذه المبادرة، ما يُفسّر اختصار الآجال في الاستماعات والنقاشات، ما قد يؤثر لاحقا على جودة المادّة القانونية.
رغم أنّ مشروع الصلح الجزائي يمسّ عددًا من الحقوق والحريات كالتنقل والملكية والتقاضي، التي يجب أن تتخذ شكل قوانين أساسية يُصادق عليها بالأغلبية المطلقة داخل البرلمان، إلاّ أنّ اللجنة البرلمانية وضعته ضمن القوانين العاديّة التي تتطلب فقط أغلبية الثلث للموافقة عليها، والحال أنّ الدستور ضبط مجالات تطبيق القوانين العاديّة، التي تخصّ حصريّا إحداث المؤسسات والمنشآت العمومية ومنح الجنسية.
كما أغفلت اللجنة أن تستمع إلى عدد من الأطراف التي قد يكون رأيها مؤثرا في مسار النقاشات والتصويت، مثل محكمة المحاسبات والمجلس الأعلى المؤقت للقضاء. “هو برلمان الرئيس، وكان يشبه غرفة تسجيل رئاسة الجمهورية، ولكنّه الآن أصبح بمثابة ديوان رئيس الجمهورية”، يؤكّد أحمد صواب.
الصلح الوقتي: حل لتبسيط الإجراءات
طلب استعجال النظر في مشاريع القوانين يعكس الأولويات التشريعية لصاحب المبادرة قيس سعيد، وإيمانه المطلق بنجاعة الصلح الجزائي لاستدرار المال وملء خزائن الدولة. إذ تقترح النسخة المعدّلة من مشروع القانون صيغًا مختلفة للصلح، إمّا من خلال إجراء صلح نهائي بتوفير المبلغ دفعةً واحدة أو إبرام صلح وقتي من خلال دفع الأموال على أقساط، حيث يقوم طالب الصلح بدفع نسبة 50% من المبالغ المستوجبة واستكمال القيمة المتبقية بعد ثلاثة أشهر، أو دفع 50% من الأموال مع الالتزام بإنجاز مشاريع بقيمة الأموال المطالب بدفعها. “أدرجنا صيغة جديدة للصلح الوقتي بالتمديد في فترة الإمهال من ثلاثة إلى ستة أشهر وإدخال نقطة ثالثة تخصّ الصلح الوقتي عبر تأمين نصف المبلغ وتخصيص النصف الثاني لإنجاز مشاريع في المنطقة التي يختارها مجلس الأمن القومي”، يقول ياسر قراري رئيس لجنة التشريع العام لنواة.
من جهته، يرى أحمد صواب أنّ التمديد في الآجال أمر جيّد، لكنّ الأمر يتطلّب وقتًا أطول قد يصل إلى سنة أو سنتَين لأنّ المسألة تتعلّق بتصفية الممتلكات والمنقولات والأصول، مع الأخذ في الاعتبار عدد الملفّات التي ستنظر فيها لجنة الصلح الجزائي والارتفاع المنتظر لعدد المنخرطين في هذا المسار.
مجلس الأمن القومي: قاضي الصلح الجزائي
كما تقترح نسخة الرئيس من مرسوم الصلح الجزائي وجوب رفع ملفّ الصلح الجزائي إلى رئيس الدولة، الذي يعرضه في مرحلة لاحقة على أنظار مجلس الأمن القومي للتثبّت من جوانبه التقنية والقانونية والمالية. اجراء يُضعف عمل اللجنة ويسلبها سلطتها التقريرية لتصبح من ضمن الهياكل الخاضعة لرئاسة الجمهورية، نظرًا لأنّ مجلس الأمن القومي يترأسه رئيس الدولة، وتنعقد اجتماعاته بدعوة منه وفق الأمر الحكومي عدد 70 لسنة 2017. يتعهّد مجلس الأمن القومي قانونًا بالنظر في السياسات العامة والاستراتيجيات الوطنية في مختلف المجالات المتعلقة بالأمن القومي، والخيارات الاستراتيجية في مجال الاستعلامات إضافة إلى الاستراتيجية الوطنية لمكافحة التطرف والإرهاب. فما مكانة الصلح الجزائي مقارنة بهذه الاختصاصات الحصرية؟ وكيف يمكن اعتباره شُعبة من شُعب الأمن القومي؟ “مجلس الأمن القومي أصبح هو القاضي”، يقول أحمد صواب، على اعتبار أنّ الفصل 26 من مشروع القانون منحه صلاحية البت في مشروع الصلح بالإقرار أو بالرفض أو الترفيع في المبالغ المالية الواجب دفعها. كما أقرّت الفقرة الأخيرة من الفصل أنّ قرار مجلس الأمن القومي لا يمكن الطعن فيه بما في ذلك دعوى تجاوز السلطة. وهو أمر يضرب حقّ التقاضي المكفول بدستور 2022.
مواصلةً في إضعاف صلاحيات اللجنة الوطنية للصلح الجزائي ومزيد إفراغها من محتواها، يقترح مشروع التنقيح سحب صلاحية إمضاء ملفّ الصلح منها ليُحال إلى المكلّف العام بنزاعات الدّولة بصفته الجهة المخوّلة قانونًا لإبرام الصلح مع الخصوم في المادّتين الإدارية والمدنيّة، وفق وثيقة شرح أسباب مشروع القانون.
المصادرة: عقوبة مضاعفة؟
تطرح المبادرة التشريعية في فصلها 37 جديد تشديد العقوبة على المطالَب بالصلح في صورة عدم الالتزام بالأجل المحدّد أو عدم إتمامه في أي مرحلة من مراحله أوعدم إبرام الصلح النهائي، ليتمّ نقل الأموال بصفة آليّة لفائدة الدّولة، مع مصادرة أملاك طالب الصلح وقرينه وأصوله وفروعه إذا كان في حالة فرار. لم يحدّد هذا النصّ جهة تنفيذ قرار المصادرة وما إذا كانت جهة قضائية أو إدارية، ما سيخلق نزاعات إدارية في تنفيذ الأحكام، خاصّة مع صعوبة تحديد مصدر هذه الأملاك وما إذا كانت مكتسبة بطريقة غير مشروعة أو لا. “لم تعد المصادرة آلية وفق التنقيحات التي أدخلتها اللجنة على مشروع القانون”، يقول رئيس لجنة التشريع العام بالبرلمان لنواة، مضيفًا: “المصادرة تشمل الأملاك التي نقلها المعني بالصلح لفائدة العائلة عن طريق هبة أو بيع أو غير ذلك بغرض التفصي من المسؤولية”. كما اقترح النوّاب توسيع دائرة المشمولين بالمصادرة لتشمل القرين والأصول والفروع والإخوة والأصهار. “الإشكال يُطرح على مستوى عبارة الأصهار التي تشمل عددًا كبيرا من أفراد العائلة، وكان من الأفضل وضع عبارة “الإخوة للقرين” بدلا عنها، يقترح صواب.
من المسائل الجوهرية التي لم يتطرّق إليها مشروع القانون هي مراجعة الآجال الضيقة التي اقترحها المرسوم، مثل أجل سبعة أيام لمدّ اللجنة بالوثائق من الإدارات المختلفة، وأجل أربعة أشهر للبت في ملفّات الصلح. “اللجنة تمثل دائرة جنائية مالية اقتصادية ولا يمكنها أن تقوم بعملها في ظلّ آجال قصيرة”، يؤكّد القاضي الإداري السابق.
عندما وُلدت لجنة الصلح الجزائي بمقتضى المرسوم عدد 13 لسنة 2022 الصادر بتاريخ 20 مارس، كانت تحمل معها أحلام قيس سعيد وآماله في مراكمة الثروة وتحويلها إلى مشاريع تستفيد منها الطبقات المفقّرة والمناطق المهمّشة. لكنّ هذه الأحلام اصطدمت بواقع تعقيد الإجراءات وطولها وصعوبة فرز الأموال المكتسبة بطريقة مخالفة للقانون، إضافة إلى تداخل أطراف مختلفة في هذا الملفّ بين القضائي والإداري والمؤسساتي، وتضخّم عدد المؤسسات المعنيّة بالمصادرة واسترجاع الأموال والأملاك المنهوبة. لذلك تكرّرت زياراته إلى مقرّ اللجنة، مع تذكير أعضاءها بحجم مسؤوليّتهم في استرجاع الأموال التي قال إنّها تبلغ 13 مليار دينار، قبل أن يقيل عددًا منهم ويعيّن آخرين. رغم كل ذلك كانت حصيلة عمل اللجنة دون ما يتمناه الرئيس، ما دفعه إلى تنقيح المرسوم المحدث لها بهدف حصد المال وضخّه في مزاريب الدّولة.
الاستعجال في مثل هذه المبادرات من شأنه أن يؤثّر سلبًا على جودة القوانين الصادرة عن البرلمان، الذي حوصر بآجال ضيّقة لم تمكّنه من الاستماع إلى محكمة المحاسبات أو لجان المصادرة المُحدثة بمراسيم منذ سنة 2011. وانطلاقًا من مداخلات النوّاب في النقاشات العامّة حول مشاريع القوانين، لا يُنتظَر أن تُسجَّل لهم مواقف مناهضة لرؤية الرئيس وسياساته العامّة، ما يعني أنّ التنقيحات التي قد تُقدَّم لن تمسّ من جوهر مشروع القانون، وفي أفضل الحالات، سيتمّ رفضها داخل الجلسة العامّة في صورة تقديمها.
iThere are no comments
Add yours