”إن كنت تريد حقًا إنهاء الاستعمار، عليك تجاوز النقد الثقافي واستطلاع الرؤى البنيوية العميقة التي يطرحها سمير أمين“[1]

لم تصب صواريخ المقاومة أهدافا عسكرية فحسب، بل يبدو أنها قد رجّت أركان الوعي العربي في ذاته فوجّهته لذاته. انتشرت حملات المقاطعة الاقتصادية – في بعدها الشعبي اليومي – تطبيقا وتثقيفا وتثخينا وانقلبت مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي بؤرا للتمحيص والاستقصاء حول أصول مُلّاك الشركات وعلاقاتهم. ولكن طول الأمد يسدّ الأفق إن لم تتطور ردّة الفعل السلبية إلى فعل سيادي.

كنا قد تطرقنا في مقال سابق إلى أهمية المقاطعة وتاريخها الذي رافق حروب التحرير الوطني ومازال يُسند القضية الفلسطينية ثم تساءلنا حول مآلاتها فخلصنا إلى ضرورة تطعيمها بسياسات سيادية تلتحم مع المطالب الشعبية وتفكّ الارتباط بالبضائع المخضبة بالدماء.

ارتأينا في البداية تحديد موضوع هذا الخيار السياسي بالإجابة عن سؤال ”فك الارتباط بماذا؟“. فناقشنا في المقال السابق خصائص النظام العالمي المعاصر قبل أن نتبيّن موقع البلاد التونسية صلبه ومسار انخراطها خضمه. في هذا المقال، نغوص في المفهوم فنضعه في سياقه التاريخي وما أفضى لتأليفه قبل أن نفكك عناصره.

النظام الاقتصادي الدولي الجديد: السياق التاريخي لتشكل المفهوم

مثّلت موجات استقلال دول العالم الثالث إثر الحرب العالمية الثانية وحروب التحرير الوطني نقطة تحول في تاريخ الفكر السياسي العالمي. حيث أنّ الدول المستقلّة حديثا قد أصبحت ذات رأي بين أمم استأثرت بقرار إدارة الشأن العالمي حتى تناحرت خلال النصف الأول من القرن العشرين. وضعت الحرب أوزارها فتشكلت أقطاب ثلاثة: أما أقوام الشرق فقد بنوا دولا انبثقت من ثورات اشتراكية فأفرزت اتحاد سوفياتات وجمهوريات ديمقراطية شعبية بينما انبرت أمم الغرب تجمع شتاتها إثر تمزقها بحرب عالمية في دارها ودحر تحرّري من مستعمراتها. فانطلق الجنوب يبني دوله ويحوز مقاعده بين الأمم.

ساهمت حروب الاستقلال في توطيد الروابط بين بلدان العالم الثالث نظرا للاشتراك في المصير المتمثّل في تقلد زمام الأمور بعيدا عن تجاذبات المعسكرين الشرقي والغربي الذين انخرطا في حرب باردة الوطيس. استُهِلَّ التفكير في التحالف والتكتّل منذ ‘مؤتمر باندونغ’ الذي انعقد في إندونيسيا سنة 1955 فأفرز قرارات معادية للإستعمار ومساندة للتحرّر الوطني. خلال هذا المؤتمر التاريخي، ألقى الزعيم الهندي ‘جواهر لال نهرو’ خطابا تطرّق فيه إلى مفهوم ”عدم الانحياز“ الذي ينادي ببناء هوية مستقلّة لدول العالم الثالث ترسّخ دورا إيجابيا فعّالا صلب النقاشات والقرارات الأممية.

انبثقت عن هذا المؤتمر تاليا ‘حركة عدم الانحياز’ التي التأم اجتماعها الرسمي الأول في العاصمة الصربية بلغراد سنة 1961 بمشاركة 29 دولة فرسّخت مبادئ التحرّر الوطني ومناهضة الاستعمار- قديمه وجديده – والنأي عن التجاذبات العسكرية المتكتلة في أحلاف متعددة الأطراف (الناتو ووارسو وقتها). انخرطت دول عدم الانحياز في مسارات الأمم المتحدة فتوسّعت تحالفاتها بين بقية دول العالم الثالث فتمّ الإعلان عن تأسيس ‘مجموعة 77’ في الاجتماع الدولي الأول للحكومات الأعضاء في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) سنة 1964 وذلك من أجل توفير إطار للدول النامية كي تدافع عن مصالحها الاقتصادية عبر التفاوض المشترك. وانتظم أول اجتماع رسمي للمجموعة في الجزائر العاصمة سنة 1967 فتم إنشاء هيكلها التنظيمي.

 أفريل 1955 مؤتمر باندونغ اندونيسيا، جواهر لال نهرو من الهند وكوامي نكروما من غانا وجمال عبد الناصر من مصر وسوكارنو من إندونيسيا وتيتو من يوغوسلافيا – أرشيف باندونغ

ولّد هذا المخاض الجيوسياسي دعوات جديّة لإحداث ‘نظام اقتصادي دولي جديد’ تمّت مناقشته واقتراحه خلال المؤتمر الرابع لحركة عدم الانحياز سنة 1973 قبل أن يتم تبينه صلب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) ثم يُدرج في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد 3201 المؤرخ في 1 ماي 1974.

نبعت مقاصد النظام الاقتصادي الدولي الجديد من يقين قيادات دول العالم الثالث بأنّ الاستعمار السياسي الذي تمّ دحره خلال حروب التحرّر قد تم استبداله فقط باستعمار اقتصادي تحميه قوانين التجارة العالمية القائمة بالفعل صلب نظام اقتصادي منبثق من اتفاقيات بريتون وودز والاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (GATT) التي تم وضعها في غياب دول كانت ما تزال ترزح تحت نير الاستعمار.

شخّص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المتعلق بالنظام الاقتصادي الدولي الجديد مشاكل الاقتصاد العالمي بوسع الهوّة بين الدول النامية والدول المتقدمة. إذ يقطن الأولى 70% من سكان العالم في حين يتحصلّون على 30% فقط من إيرادات الاقتصاد العالمي. من جهة أخرى، عرّت أزمة النظام العالمي التي اندلعت في بداية سبعينات القرن الماضي هشاشة اقتصاد دول العالم الثالث المرتبط بشدّة بالاقتصاد العالمي والمتأثر بعمق بأزماته.

أدرجت مجموعة 77 مطالبها في القرار 3201 والمتمثّلة في حقّ الدول النامية في سيادتها على مواردها الطبيعية وحقّها في تأميم مؤسساتها الاقتصادية ومراقبة أنشطة الشركات متعددة الجنسيات التي تشتغل على أرضها. تضمّن القرار أيضا تعهدات بالتعاون الدولي من أجل تنمية بلدان العالم الثالث والعمل على تساوي أسعار واردات الدول النامية وأسعار صادراتها المتأتية من الدول المتقدمة.

أما برنامج العمل فقد شجّع على تمويل مشاريع التصنيع في العالم الثالث عبر مساعدات الدول المتقدمة ومساهمات المؤسسات المالية العالمية كما تم التركيز على أهمية تحفيز المنتجين في الدول المتقدمة على تصدير بضائعهم نحو العالم الثالث.

تشي النقطتان الأخيرتان بمسارات التفاوض داخل الأمم المتحدة. تمثّل المساواة بين أسعار الواردات والصادرات نقطة رئيسية في مفهوم ‘التبادل اللامتكافئ’ (الذي تطرقنا له في المقال السابق) والذي يتحقّق عند تساوي معدلات الربح على الصعيد العالمي من خلال المبادلات التجارية الدولية من جهة وتفاوت أجور العمل من بلد إلى بلد من جهة أخرى. تغاضى قرار الأمم المتحدّة على ذكر الأجور.

أما النقطة الثانية فهي تمهّد لترسيخ التبعية المالية من خلال إغراق دول العالم الثالث بالديون من خلال المساعدات والمساهمات وإغراق أسواقها بالسلع الأجنبية التي تقوّض مشاريعها التصنيعية أو توجّهها إلى التصدير.

على صعيد يتجاوز نص القرار، علت انتقادات هيكلية لهذا المسار. نذكر من أهمها المؤاخذات التي عبّر عنها عالم الاقتصاد ‘سمير أمين’ قبل أن يُبلور مفهوم ”فك الارتباط“ الذي يتناوله هذا المقال. نشر أمين نصا سنة 1977 بعنوان ”الاعتماد على الذات والنظام الاقتصادي الدولي الجديد“[2] وضح فيه بأن مبدأ ”الميزات المقارنة“ الذي تنبني عليه العلاقات التجارية الدولية منذ قرون لا يستقيم صلب تقسيم عالمي للعمل تعوزه العدالة. فدول مركز رأس المال تحتكر إنتاج وسائل الإنتاج من آلات ومعارف تكنولوجية وتلقي لدول العالم الثالث بفتات المشاريع التصنيعية التي تتخصص في إنتاج سلع رخيصة موجهة للتصدير.

وعليه، يطرح أمين بعض البدائل السياسية الداعية إلى الاعتماد على الذات والتعاون المتبادل بين دول العالم الثالث من خلال التحكم في أدفاق تصدير المواد الأولية الخام وعبر تبادل التكنولوجيا بينها والعمل على تطويرها من أجل إخضاع دول المركز لتقسيم عالمي للعمل أكثر عدالة.

مثلت هذه المنطلقات مداخل لتجذير مفهوم ”فك الارتباط“ الذي ألّفه سمير أمين في كتاب صدر بالفرنسية سنة 1986 بعنوان ”فك الارتباط: من أجل الخروج من النظام العالمي“[3].

فك الارتباط

أشرنا في المقال السابق إلى أن سمير أمين ينتمي إلى مدرسة فكرية اهتمّت منذ النصف الثاني من القرن العشرين بمسائل التنمية وانعدامها في السياق المعاصر. خلصت أفكار هذه المدرسة إلى كون أنّ التنمية والتخلّف وجهان لعملة واحدة: النظام الرأسمالي العالمي. وأن فكرة ”لحاق“ الدول المتأخرة بالدول المتقدمة من خلال استنساخ تجارب الأخيرة والانخراط في النظام العالمي ليست إلا وَهْما إن لم تؤدّ للخراب. وبما أن سبب التخلّف لا يمكن أن يكون حلاّ للتنمية، فإنّ فكّ الارتباط واجب لتجاوز معضلة بناء دول العالم الثالث.

سمير أمين ( 1931- 2018 ) ومؤلفه فك الارتباط من اجل الخروج من النظام العالمي 1986

لا يعني فك الارتباط تلك النظرة السطحية للانعزال عن العالم والانغلاق على الذات والاستغناء عن كل تبادل خارجي. يقدّم أمين تعريفا بسيطا للمفهوم يتلخّص في ”رفض إخضاع استراتيجيا التنمية الوطنية لإكراهات العولمة“. بلغة أخرى: ”تطويع العلاقات الخارجية لسلطة الخيارات الداخلية“. ثم يفصّل مسار فكّ الارتباط بإضافة شرطيْن أساسيين أولهما انخراط السلطة السياسية الحاكمة في إرساء إصلاحات اجتماعية ذات اتجاه مساواتي. نفهم من ذلك أن مسار فكّ الارتباط محكوم بتوفير الحاضنة الشعبية التي تتملّك وسائل إنتاجها، فتقف سدّا منيعا أمام محاولات إجهاضه. أمّا الشرط الثاني فيتمثّل في القدرة المحليّة على استنباط التكنولوجيا وامتصاصها لتعزيز استقلالية القرارات التنموية. يوضح أمين بأنّ تطوّر هذه التكنولوجيا المحليّة محكوم بتغيرات أيديولوجية عميقة في المجتمع تتجاوز الأساليب التعليمية البسيطة.

يُذكّر أمين دائما بأنّ فكّ الارتباط لا يعني الانغلاق التام وأنّ التعامل مع التكنولوجيا المستوردة يكون على أساس اليقين بأنّ التكنولوجيا ليست محايدة كما أن الامتناع عن المشاركة في نقاش التيارات العلمية والايديولوجية العالمية ليس إلا عارضا من عوارض ضعف المجتمعات التي تلتجئ إلى النوستالجيا ”الثقافوية“ كحلّ لأزماتها.

على هذا الأساس، لا يرى أمين أنّه من الممكن لبلد لوحده أنّ يفكّ الارتباط بل إنّ تعزيز الوحدة بين دول العالم الثالث تحميها من العزلة والاعتداء. كما أنّ فكّ الارتباط ليس مهمة القيادات السياسية بجلال قدرها فقط بل إنّ من شروط تجذير المسار تعزيز مشاركة الطبقات الشعبية في القرار والعمل.

بلغة الاقتصاد السياسي، يتمثّل فك الارتباط في الاستقلال عن ”قانون القيمة الرأسمالي المُعولم“ الذي يعمق التبادل اللا متكافئ فتنجرّ عنه التنمية اللا متكافئة التي وضّحناها في المقال السابق على الصعيد العالمي وفي المستوى المحلي التونسي.

يقترح أمين منوالا للتنمية الوطنية المتمركزة على الذات يعتمد على القطاع الفلاحي أساسا للتنمية ومراكمة القيمة من أجل القطع مع التبعية الغذائية والتخلّص من تهديد الجوع ومقايضاته من جهة وتوفير القوت للقوى المنتجة التي تعمل على بناء هذا المنوال وحمايته من جهة أخرى. على مستوى آخر، يشدّد أمين على أهمية اعتماد سياسات عادلة في علاقة بتوزيع الدخل بين العمال والفلاحين من أجل خلق سوق داخلية للأغذية والسلع الأساسية. أخيرا، ترمي التنمية الوطنية المتمركزة حول الذات إلى إرساء مشاريع تصنيعيّة تمرّ عبر التنمية الريفية من خلال ضمان إنتاج المدخلات الزراعية (أسمدة، أدوية، معدات…) والمواد الاستهلاكية التي تلبّي الحاجيات الأساسية للسكّان قبل الشروع في تطوير الإنتاج الصناعي الثقيل.

في المجمل، يرى سمير أمين بأنّ الدعوة إلى فك الارتباط ليست إلا نداء من أجل إرساء شكل أقوى من ”عدم الانحياز“.

ختاما

يستوجب فكّ الارتباط إذن التفكير الجديّ في تطويع منوال التنمية المحلي لتلبية الحاجيات الداخلية للسكان وذلك عبر تشريكهم من أجل الاستفادة منه وحمايته وتطويره. كما أنّ التعاون المتبادل مع الدول الأخرى ضروري شريطة أن يكون محكوما بالندّيّة والتقاء المصالح. يحترم مفهوم فكّ الارتباط مراحل بناء الاقتصاد الوطني إذ ينطلق من الموارد المحلية المتوفّرة أساسا في القطاع الفلاحي والقدرات الذاتية المتمثلة في اليد العاملة المنتجة والمبتكرة.

نتناول في المقال القادم إذن مسألة الإصلاح الزراعي في البلاد التونسية التي يمكن الانطلاق منها نحو تحقيق التنمية الوطنية المتمركزة حول الذات.


[1] Ingrid Harvold Kvangraven, Beyond Eurocentrism, Aeon, 15/04/2022.

[2] Samir Amin (1977), Self-Reliance and the New International Economic Order, Monthly Review, Vol. 29 No. 3, July-August 1977, DOI.

[3] Samir Amin (1986), La Déconnexion: Pour sortir du système mondial, La Découverte