برصيد يقدر بحوالي 107 مليون شجرة متوزعة على قرابة 2 مليون هكتار، تتربّع الزياتين على عرش الفلاحة في تونس. 75 في المئة من هذه الزياتين في ذروة سنوات الإنتاج في حين تتوزع البقية بين غراسات جديدة (18 في المئة) وأشجار متهرّمة (7 في المئة).

تحتلّ الزيتونة قرابة 40 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة وأكثر من 80 في المئة من الأراضي المخصّصة للأشجار المثمرة. تونس الثانية عالميا -بعد اسبانيا- من حيث المساحة المخصصة لغراسة الزياتين في العالم، لكنّها الأولى في مجال الزيتون البيولوجي بمساحة تتجاوز 250 ألف هكتارا، تضمّ احدى أكبر غابات الزيتون في العالم (هنشير الشعال/ صفاقس، حوالي 400 ألف شجرة زيتون).

أكثر من 300 ألف مستغلّة فلاحية مخصصة بشكل كامل أو جزئي لغراسة الزياتين، وهي متوزعة كالآتي: 32 في المئة في الشمال و46 في المئة في الوسط و22 في المئة في الجنوب. وتوفر قطاعات انتاج الزيتون وزيت الزيتون أكثر من 50 مليون يوم عمل سنويا.

خلال الموسم الفلاحي 2021 – 2022 حلّت تونس ثالثة في ترتيب أكبر منتجي زيت الزيتون في العالم ب7،7 بالمئة من مجمل الانتاج العالمي، واستطاعت أن تحتل المرتبة الثانية في ترتيب أكبر الدول المصدرة خلف العملاق الاسباني وقبل بقية المنافسين الكبار في جنوب أوروبا كإيطاليا واليونان والبرتغال. وقدّرت عائدات التصدير في الموسم الفلاحي 2022- 2023 بأكثر من 950 مليون دولار أي حوالي 3 مليار دينار تونسي. في 2022 بلغت نسبة مساهمة زيت الزيتون في الصادرات الفلاحية لتونس 41،5 في المئة، وأكثر من 4 في المئة من جملة الصادرات.

نوفمبر 2023، افتتاح موسم جني الزيتون من ولاية سيدي بوزيد – وزارة الفلاحة

كل هذه الأرقام تؤكد ان السائل الأصفر يمثّل أحد ركائز الاقتصاد التونسي، لكنّ هذه المكانة لها ضريبة ولا يجب أن يحجب صفاء الزيت حقائقا وأرقاما أخرى أقلّ لمعانا.

طفرات

على الرغم من أنّ الزياتين استوطنت أرض تونس منذ آلاف السنين، فإنّ عددها إلى حدّ أواخر القرن 17 لم يكن يتجاوز بضع مئات الآلاف، ولم يكن زيتها سلعة تجارية، بل منتجا مخصصا للاستهلاك العائلي. حصلت الطفرة الأولى خلال القرن 18، خاصة في منطقة الساحل، التي تضاعف عدد أشجار الزيتون فيها عشر مرات في غضون قرن ونصف، ليتطوّر الرقم من 300 ألف أواخر القرن 17 إلى أكثر من ثلاثة ملايين في بداية القرن 19. في تلك الفترة بدأ زيت الزيتون يكتسب تدريجيا قيمة سوقيّة أثارت أطماع حكّام البلاد وأعيانها إضافة إلى التجار والقناصل الأوروبيين (الايطاليين بالأخصّ)، خاصة بعد فرض القوى الأوروبية منع القرصنة البحرية التي كان جزء من أرباحها يذهب لحكاّم ممالك وإمارات شمال أفريقيا.

موكب إعلان عهد الأمان من قبل محمّد باي يوم 10 سبتمبر 1857، ويكيبيديا.

السيطرة على تجارة زيت الزيتون كانت من بين العوامل التي جعلت القناصل الأوروبيين يضغطون على باي تونس لتمكين مواطنيهم من حريّة تملّك العقّارات وممارسة كل الأنشطة التجارية والمساواة مع التونسيين في مسائل القضاء والجباية والرسوم الجمركية، الخ. وهو ضغط أعطى أكله مع إصدار محمد باي لنص ”عهد الأمان“ سنة 1857.  هذه الوثيقة التي كانت بمثابة دستور صغير اعتبرت أوّل نصّ يضمن للتونسيّين حقوقا أساسيّة تتعلّق بالأمن على أرواحهم وأملاكهم وأعراضهم. لكنّ الأوروبيّين كانوا المستفيد الأكبر من هذا النصّ القانوني الذي منحهم جملة من الحقوق والامتيازات سهّلت سيطرتهم أواسط القرن 19 على اقتصاد المملكة التونسية -التي كانت تغرق في الديون والعجز التجاري- بشكل مهّد لفرض”الكوميسيون المالي“ الأوروبي في 1869 ثمّ ”اتفاقية الحماية“ مع المحتّل الفرنسي في 1881. دخول الزياتين التونسية في دورة الاستغلال الرأسمالي شكّل الطفرة الثانية، اذ أسهم في تزايد عددها بشكل كبير لتصل إلى حوالي 11 مليون شجرة سنة 1891، تحتّل قرابة 275 ألف هكتارا من الأراضي الزراعية. قام نمط الفلاحة العصرية/الاستعمارية الذي سيفرضه تدريجيّا المحتلّ الفرنسي على المكننة واستعمال الأدوية والأسمدة المصنّعة من جهة، وتقسيم البلاد إلى أربعة أقاليم فلاحية أحاديّة الإنتاج تقريبا: حبوب في الشمال الغربي، كروم وحمضيات في الشمال الشرقي، زياتين في الوسط الشرقي، وتمور في الجنوب. وفي إطار سعي الفرنسيين إلى تحجيم المنافس الإيطالي اقتصاديا، دعموا غراسات الزياتين وفتحوا السوق الفرنسية أمام زيت الزيتون التونسي بمنحه امتيازات جمركية حتّى يخفّفوا من سيطرة الايطاليين على تجارة الزيت في تونس ويقلّلوا من حجم صادرات زيت الزيتون الإيطالي إلى فرنسا. هذه السياسات الفلاحية خلقت الطفرة الثالثة، فعند استقلال تونس في 1956 كانت المساحة المخصّصة لغراسات الزيتون قد بلغت 750 ألف هكتارا، وبلغ عدد الزياتين حوالي 30 مليون شجرة.

بعد الاستقلال، راهنت الدولة الوطنية الناشئة على زيت الزيتون كسلعة تصديرية ذات قيمة مضافة عالية تمكّنها من تخفيف العجز في الميزان التجاري واحتياطي العملات الصعبة. ومن هذا المنطلق كثّفت غراسات الزيتون في ”معاقلها“ التاريخية وحتى في مناطق أخرى لزيادة الانتاج، فصنعت طفرة رابعة بوصول عدد الزياتين إلى حوالي 60 مليون شجرة مقسمة على مساحة تتجاوز 1،4 مليون هكتار. استمرّ عدد أشجار الزيتون في الارتفاع بنسق تختلف سرعته من عشرية إلى أخرى حتى تجاوز في أواسط العشرية الأولى من القرن الحالي ال70 مليونا خُصّصت لها مساحة تقدّر ب1،7 مليون هكتار. وتعيش تونس منذ حوالي 20 عاما طفرة خامسة هي الأكبر والأسرع في تاريخها، ولا يبدو انها ستنتهي قريبا، ففي سنة 2022 قدّرت المعطيات الرسمية عدد الزياتين بأكثر من 100 مليون شجرة موزعة على حوالي 2 مليون هكتار.

الوفرة في زمن ”الندرة“

على الرغم من سنوات الجفاف الثلاث المتتالية وما يشكّله ذلك من خطر على مردوديّة القطاع الفلاحي، فإنّ قطاع زيت الزيتون -عكس ما يعتقده الكثيرون- لم يتأثّر كثيرا، بل أنّ الأرقام المتوقّعة لحملة 2023 – 2024 تفوق صابة 2022 – 2023 التي كانت في حدود 180 ألف طن. فحسب تقديرات الديوان الوطني للزيت يُنتظر أن تكون حصيلة الموسم الحالي من زيتون الزيت ما بين 1050000 و1100000 طن تعطي بعد عمليات العصر والتصفية والمعالجة حوالي 210 و220 ألف طن من الزيت وهو رقم قريب جدا من متوسّط الإنتاج في السنوات السابقة للجفاف. هذه الزيادة في الإنتاج – مقارنة بالموسم الفائت – لا يمكن تفسيرها فقط بالأمطار المتأخرة التي تهاطلت في شهري ماي وجوان 2023 بل بالاعتماد المتزايد على انتاج غراسات الزيتون المرويّة مقابل تراجع دور الإنتاج ”البعلي“.  حسب تقديرات وزارة الفلاحة فإن 55 بالمئة من محصول الموسم الحالي سيتأتى من غراسات الزيتون المرويّة. علما وأنّ أكثر من 90 بالمئة من المساحات المغروسة زيتونا في تونس هي بعليّة بالأساس. ولا يبدو هذا التعويل على الإنتاج المروي فجئي أو ظرفي. منذ ربع قرن، تحديدا في الموسم  الفلاحي 1998 – 1999، لم تكن مساحة غراسات الزيتون السقويّة تتجاوز 35 ألف هكتار، مقسّمة ما بين 11 ألف هكتارا من الأراضي الدولية و25 ألف هكتارا من المستغلاّت الفلاحية المملوكة للخوّاص. أما اليوم، فهي في حدود 100 ألف هكتار مرشّحة للتوسّع في السنوات القادمة. وتطمح وزارة الفلاحة إلى زيادة حجم المساحات السقوية ليبلغ 150000 ألف هكتار في أفق 2030، وتبرّر هذا المسعى بالرغبة في زيادة الإنتاج إلى حدود 2600000 طن من زيت الزيتون سنويّا وضمان استقراره على الرغم من التقلّبات المناخية ممّا يمكّن تونس من الترفيع في حجم الصادرات والحفاظ على موقعها في ترتيب كبار المصدرين.

التعويل المتزايد على غراسات الزيتون المروي يظهر في تغيّر خارطة الإنتاج. إذ يتوقّع أن تحتل ولاية سيدي بوزيد المرتبة الأولى وطنيا قبل ولاية صفاقس في الموسم الفلاحي الجاري، وأن يصبح إقليم الوسط الغربي (أساسا سيدي بوزيد والقيروان) المنتج الأكبر لزيت الزيتون بحوالي 35 بالمئة من مجمل الإنتاج الوطني، متفوّقا بذلك على منطقتي الساحل والجنوب. علما وأنّ ولايتي سيدي بوزيد والقيروان تضمان لوحدهما 50 بالمئة من غراسات الزيتون المروي: 30 ألف هكتار و20 ألف هكتار. ولاية قفصة – وهي من الأكثر الولايات التي تعاني من الاجهاد المائي- أصبحت هي الأخرى قطبا للغراسات السقوية ب21 ألف هكتارا (مقابل 10 الاف هكتار فقط في ولاية صفاقس). تشهد هذه الولايات الثلاث استثمارات ضخمة في قطاع زيتون الزيت في العشرية الأخيرة. وهنا نتساءل من هم هؤلاء المستثمرون الجدد؟  وهل ستستفيد غالبية سكّان هذه الولايات أم أنّ نصيبها سيقتصر على المزيد من العطش والاستغلال؟  التركيز المتزايد على السقوي قد يوسّع الهوّة أكثر بين صغار الفلاحين المنتجين محدودي الإمكانيات المادية وكبار الملاكين/ المنتجين ممن لديهم فائض مالي و/أو وصول سهل إلى القروض البنكية يمكنّهم من تركيز شبكات ريّ عصريّة وتكثيف الإنتاج.

وعلى أهميّة صادرات زيت الزيتون في تعديل ميزان المبادلات التجارية ودعم احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، فإنّ التوسّع في المساحات السقوية لدعم انتاج يوجّه بأكمله للخارج – في وقت تعرف فيه البلاد فصلا من الجفاف المتواصل وتطبّق فيه السلطات إجراءات تقنين استغلال الماء حتى للاستعمالات الأساسية والحيوية كالشرب والنظافة والطبخ – يعدّ توجهّا غير منطقي. تعاني البلاد لا فقط من نقص الموارد المائية، بل من استنزافها بشكل غير مسؤول من قبل كبار الفاعلين في القطاع الفلاحي. أكثر من 80 بالمئة من موارد البلاد المائية تذهب لقطاع الفلاحة، وجزء هام جدّا من هذه الفلاحة موجّه للتصدير، والرابح الأكبر من هذا الاجهاد المائي هم أصحاب المستغلات الفلاحية الكبرى وكبار التجار والمصدرين. ”تصدير“ الماء خدمة لمصالح فلاحة الاستثمار والأعمال هو اعتداء على ملك عام مشترك بين كل التونسيين وظلم للأجيال القادمة.

كيف حُرم التونسيون من زيتهم؟

في أكتوبر 2017، أثارت تصريحات وزير الفلاحة الأسبق، سمير الطيب، موجة من الانتقادات والسخرية، عندما أكّد أنّ السوق التونسية لا يمكن أن تستوعب أكثر من 30 ألف طن من زيت الزيتون سنويا، وأنّ التونسي لا يستهلك زيت الزيتون بكثرة ولا يدخل ضمن عاداته الغذائية ولا يستعمله في الطبخ بل يفضل عليه أصنافا أخرى من الزيوت. ويبدو أنّ كلام الوزير آنذاك كان ينبع من قراءة لأرقام واحصائيات لا عن معرفة بالمجتمع التونسي وثقافته الغذائية الغنيّة والمتعدّدة والمختلفة حسب المناطق وحتى الطبقات الاجتماعية. كما اكتفى بتقديم معطيات جديدة دون شرح للسياق. في الواقع، لم يعد معدل استهلاك التونسي من زيت الزيتون يتجاوز 3 أو 4 كيلوغرامات سنويا في العشرية الأخيرة. وهو معدّل منخفض كثيرا مقارنة بمعدّلات بقية كبار المنتجين مثل إيطاليا أو اسبانيا واليونان، حيث يكون الاستهلاك في حدود 10 كيلوغرامات سنويا وحتى أكثر. في الحقيقة هذا ”الاقبال الضعيف“ على زيت الزيتون في تونس لا علاقة له لا بالثقافة ولا بالذوق الشخصي ولا الاعتبارات الصحية، بل هو نتيجة منطقية لسياسات اقتصادية رسمية ولمنطق السوق. بدأ ارتباط زيت الزيتون التونسي بالتصدير والأسواق العالمية منذ قرابة القرنين، لكنه وصل في نصف القرن الفائت إلى مستويات غير مسبوقة. حيث أنّ حوالي 80 بالمئة من انتاج زيت الزيتون معدّ للتصدير، وأحيانا أكثر. تتبنّى الدولة التونسية منذ السبعينيات معادلة واضحة: تصدير أكثر ما يمكن من زيت الزيتون وتقليص الاستهلاك المحلي منه، في المقابل استيراد كميات ضخمة من الزيوت النباتية المستوردة. يرتكز ”منطق“ هذه المعادلة على الاستفادة من الفرق بين فاتورة صادرات زيت الزيتون وواردات الزيت النباتي. في سنة 2022 مثلا، بلغت مداخيل تصدير زيت الزيتون 2501،4 مليون دينار في حين بلغت تكلفة واردات الزيوت النباتية 1397،9 مليون دينار، حسب أرقام المرصد الوطني للفلاحة. الانطباع الأول يقول أنّ معادلة الدولة ”رابحة” فالفارق بين الفاتورتين أكثر من مليار دينار، لكن لو عمّقنا النظر لفهمنا مدى تعويلنا على الأسواق الخارجية في الاتجاهين، دون أن ننسى الفارق الكبير في الجودة والقيمة الغذائية والتأثير الصحي بين زيت الزيتون وأغلب الزيوت النباتية المستوردة.

ما بين سنة 1990 و2020 تضاعف الطلب العالمي على زيت الزيتون – من 1،5 إلى 3،2 مليون طن – مما فتح شهية المنتجين والمصدرين التونسيين -في القطاعين العام والخص – أكثر فأكثر، وكان هذا على حساب المستهلك التونسي. لنبسّط الصورة أكثر؛ سنقارن بين سعر بيع كيلوغرام زيت الزيتون في السوق التونسية ما بين 1993 و2023 مع ربط المقارنة بالأجور والمقدرة الشرائية.  في سنة 1993 كان الأجر الأدنى المضمون في حدود 132،9 دينارا (نظام 48 ساعة) وسعر كيلوغرام الزيت ما بين 1،8 و2 دينار تونسي، أما في سنة 2023 فقد بلغت قيمة الأجر الأدنى 459،2 دينارا وتراوح سعر لتر زيت الزيتون بين 14 و22 دينارا، وهذا يعني انه في غضون 30 عاما تضاعف الأجر الأدنى قرابة ثلاث مرات ونصف في حين تراجعت قدرته الشرائية من 60-70 كيلوغراما إلى حوالي 20 – 30 كيلوغراما. بمثل هذه الأرقام يصبح من الأسهل فهم أسباب ارتفاع معدل استهلاك الفرد من الزيوت النباتية من حوالي 6 كغ في سبعينات القرن الفائت إلى أكثر من 18 كغ في سنة 2015، مقابل تراجع استهلاكه من زيت الزيتون خلال نفس الفترة من حوالي 8 كغ للفرد الواحد إلى أقل من 4 كغ. وهذا ما يفسّر كيف أصبح التونسي يشتري لترا او اثنين من زيت الزيتون كل فترة بعد أن كان لا يقتني أقّل من ”بيدون بوخمسة“ (5 كيلوغرامات) أو ”ديقة“ (10 كيلوغرامات)، وكيف تخلى جزء هام من التونسيين عن عادة تخزين ”عولة“ من الزيت، وكيف صارت العائلات تكتفي ببضع مئات الغرامات من زيتون الطاولة بعد ان كانت تشتري منه صيعان للتمليح والتصبير.

مشاتل زيتون بمركز اكثار الزياتين بمنطقة بجاوة – الديوان الوطني للزيت

من الغريب، بل من المهين، في بلد يعدّ من أكبر منتجي زيت الزيتون ومصدريه أن يتوجّه المواطنون لشراء لتر أو لترين من الزيت في قارورة بلاستيكية كانت مخصصة لتعبئة المياه المعدنية أو المشروبات الغازية، دون أن تتوفر له معلومات عن صنف الزيت ودرجة حموضته ومنطقة الانتاج والقيمة الغذائية، الخ. ومن الغريب أيضا انه يضطر إلى دفع ما يعادل 6 أو 7 دولارات للحصول على لتر زيت سائب، في حين ان معدل سعر الكيلوغرام من الزيت المعلّب -في قوارير بلورية وعلب معدنية جميلة التصميم تحمل ملصقات تعطي معلومات مفصلة عن المنتوج – الموجه للتصدير لا يتجاوز 5 دولارات.

الأسعار المتدنية والتبعية كهوية تجارية

يصف كثيرون زيت الزيتون التونسي بأنه ذهب سائل، لكن للأسف مازال صنّاع السياسات الاقتصادية التونسية يسوّقونه في العالم باعتباره فضة وحتى نحاسا. لا تكاد تخلو أي واحدة من المعارض أو التظاهرات الدوليّة المخصصة لزيت الزيتون من جوائز وتكريمات لزيت الزيتون التونسي البكر الرفيع المعلّب. لكن هذا الصنف من الزيت لا يمثّل إلاّ جزء ضئيلا من الصادرات.  في سنة 2022 بلغت صادرات تونس 208 ألف طنا، ومثلت صادرات زيت الزيتون السائب 87 في المئة من الكمية المصدّرة، والبقية أي 13 في المئة كزيت معلّب.

85،9 في المئة من الكمية المصدرة تعدّ من أجود الأصناف في العالم، أي زيت الزيتون الرفيع البكر. لكن حوالي 90 في المئة من صادرات البكر الرفيع هي على شكل زيت سائب. علما وأنّ متوسط سعر كيلوغرام زيت الزيتون البكر الرفيع السائب عند التصدير كان في حدود 11،34 دينارا أمّا متوسط سعر الكيلوغرام المعلّب من نفس الصنف فقد بلغ 16،79 دينارا.هذه السياسة وإن كانت تعطي لتونس حصة أكبر في السوق العالمية فإنّها تحرمها من تثمين منتوجها وجني أرباح أكثر وبناء هويّة تجارية أكثر تميّزا. وهي تؤبّد نمط الإنتاج وتقسيم العمل في العالم: دولة من ”العالم الثالث“ تصدر خيراتها الخام بأسعار رخيصة إلى دول من ”العالم الأول“ التي تعيد تحويلها وتستأثر بالنصيب الأكبر من الأرباح والقيمة المضافة.  ومن الغريب أنّ الحريفين الرئيسيّين لتونس هما أكبر منافسيها في الإنتاج والتصدير: اسبانيا وإيطاليا. هاذان البلدان استأثرا لوحدهما ب58،8 في المائة من صادرات الزيت التونسي سنة 2022، ممّا يطرح أسئلة حول الوجهة النهائية؛ هل تُستهلك كل هذه الكمية من قبل الايطاليين والاسبانيين أم أنّها تُستخدم لدعم صادراتهما؟ على كل، هناك ارتباط كامل للصادرات التونسية بالسوقين الأوروبية والشمال الأمريكية (الولايات المتحدة وكندا) بنسبة 66 في المئة للأولى و22،4 في المئة للثانية. في حين لم يتجاوز نصيب القارة الأفريقية 6،7 في المئة وآسيا 2،4 في المئة. باختصار، تستهدف تونس حوالي مليار من سكان الأرض (الدول الغربية الثرية) وتهمل حوالي 7 مليارات من المستهلكين المحتملين. هذه التبعية لثلاثة أو أربعة بلدان تحرم تونس من مداخيل إضافية ومن الوصول إلى أسواق جديدة كما انها تفاقم تبعيتها للدول الغربية التي لديها ما يكفي ويزيد للضغط على تونس والتدخّل في سياساتها المالية والاقتصادية.


لا يبدو ان موسم 2023 – 2024 سيختلف عن سابقيه من حيث الهوس بالتصدير والإصرار على حرمان التونسيين من خيرات شجرة غرستها واعتنت بها أجيال متعاقبة من التونسيين. يمكن للدولة التونسية أن تضمن عائدات جيّدة من تصدير زيت الزيتون عبر تثمين منتجاتها واستقطاب أسواق جديدة، لكن مع تخصيص حصة عادلة للسوق المحلية، والحرص على أن لا يظلم التونسيون مرتين: الأولى عبر ترفيع أسعار زيت الزيتون والثانية عبر التوسّع المستمر في المساحات السقوية مع ما يعنيه ذلك من استنزاف للموارد المائية.