على الساعة العاشرة صباحًا، كانت بعض سيّارات الأجرة رابضةً في ساحة القصبة فيما كان عدد من المحتجّين يحتمون من أشعّة الشمس ويتشاورون فيما بينهم بين مواصلة الاحتجاج في القصبة أو التوجّه لساحة باردو حيث مجلس نواب الشعب، أو التنقل مباشرة إلى وزارة التنمية. لم تكن أعدادهم كبيرة، لكنّهم كانوا لا يخفون غضبهم واستياءهم من عدم تكفّل الحكومات المتتالية بتسوية وضعياتهم المهنيّة وتطبيق اتّفاق 20 أكتوبر 2020. هذا التحرّك الّذي خاضه عمّال الحضائر كان يهمّ الفئة الأقلّ من 45 سنة.
وعود الاتفاقية
الهدف من اتّفاق 20 أكتوبر بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، الذي تبنّى ملفّ عمال الحضائر، هو تسوية وضعية قرابة 31 ألف عون من عملة الحضائر الجهوية وعمال الحضائر الفلاحيّة. يقسّم هذا الاتفاق عمّال الحضائر إلى ثلاثة شرائح، تشمل الشريحة الأولى من ”سنّهم أقل من 45 سنة في حين يهم العنوان الثاني ما فوق 45 سنة إلى حدود 55 سنة أما العنوان الثالث فيخص ما فوق 55 سنة“، وفق بلاغ رئاسة الحكومة.
يضبط هذا الاتفاق كيفيّة تسوية وضعيّة عمّال الحضائر وتقسيمهم إلى شرائح حسب السنّ. فمن بلغ عمرهم ستّين سنة يتمتّعون بمنحة تعادل منحة العائلات المعوزة المقدّرة بـ200 دينار، فيما تتمتّع الفئة بين 45 و55 سنة بصكّ مغادرة قيمته 20 ألف دينار مع مواصلة العمل في الحضائر إلى غاية فيفري 2021. أمّا من هم دون سنّ الخامسة والأربعين فهم مخيَّرون بين الخروج مقابل صكّ مغادرة، أو الانتداب على دفعات طبقًا لقانون الوظيفة العمومية، وذلك على مدى خمس سنوات في دفعات سنوية. الحضائر هي آلية تستعملها الدولة لامتصاص الغضب والتشغيل وإعطاء مسكنات، وهي تشمل مختلف فئات الشعب التونسي ممّن لم يكملوا تعليمهم وممّن تحصّلوا على شهادات جامعيّة.
”عمال الحضائر موجودون في كلّ المؤسسات والمنشآت مثل القباضات المالية والإدارات البلدية والوزارات“، يقول صبري بن سليمان عضو مجمع تنسيقيات عمال الحضائر الأقل من 45 سنة لنواة، ويضيف: ”نحن نطالب بحدّ أدنى من الكرامة. أعمارنا ضاعت في أروقة رئاسة الحكومة. عمال الحضائر يتقاضون 400 دينار شهريّا، لا يتمتّعون بالتغطية الاجتماعية، والمرأة ليس لها الحق في عطلة أمومة. اشتغلنا ضمن هذه الآلية طيلة 13 سنة، وبعد سنوات من النضال أتى اتفاق 20 أكتوبر بين الاتحاد والحكومة لتسوية وضعيتنا على خمس دفعات بداية من 2020 إلى حدود 2025 ولكن الحكومة لم تنته إلى حدود هذه الفترة من تسوية وضعية الدفعة الأولى.“
إلى جانب اتفاق 20 أكتوبر، ألزمت الحكومة نفسها بزيادة عامة في الأجور لفائدة أعوان الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية بمقتضى أمر صادر في 08 نوفمبر 2022، بالإضافة إلى اتّفاقية 06 فيفري 2021 التي تلتزم بتطبيق الاتفاقيات الاجتماعية السابقة، انسجامًا مع مبدأ استمرارية الدّولة. ”من المفروض أن يتمّ تفعيل الزيادة في الأجر الأدنى ولكن إلى الآن لم تُصرف هذه الزيادات“، يوضّح عضو تنسيقيّة عمل الحضائر الأقل من 45 سنة، مضيفًا أنّ رئاسة الحكومة برمجت زيادات في المنح المسداة لعمال الحضائر في 07 نوفمبر الجاري، فيما تعهّد المكلّف بالملفات الاجتماعيّة برئاسة الحكومة بالاجتماع بعمال الحضائر خلال هذا الأسبوع، وذلك إثر لقائه مع أحد المديرين العامّين بوزارة التنمية.
بسمة الهمامي تشتغل على آلية الحضائر منذ 2004 وتعمل قيّمة عامّة في أحد المعاهد بمنطقة حفّوز من ولاية القيروان. تقول لنواة إنّ التلاميذ الّذين زاولوا تعليمهم أصبحوا الآن أساتذة وهي ما تزال إلى الآن تشتغل دون زيادة ودون تسوية، وتتقاضى شهريّا 400 دينار. ”كيف يمكن لهذا المبلغ أن يعيل أربعة أطفال؟ لم يعد لي ما أخسره وأنا مستعدّة لمزيد التضحية، وكنت سآتي إلى العاصمة سيرًا على القدمَين“، تضيف بسمة.
غياب المعطيات الرسمية
الحضائر هي إحدى آليات التشغيل الهش، بدأ العمل بها منذ الاستقلال لتطويق البطالة وتوظيف اليد العاملة. عادةً ما تُحيل الحضيرة على العمل الفلاحي والبستنة، أو حضائر البناء ومشاريع البنية التحتيّة، وهي بذلك تنقسم إلى حضائر فلاحية وأخرى جهوية. تطوّرت الحضائر بتطوّر الزّمن وتفاقم أزمة البطالة وتحوّلت من آليّة وقتيّة للتشغيل إلى حلّ دائم استطاع أن يستقطب إلى حدود سنة 2017 ما يناهز 85 ألف عاملا وعاملة، منهم 70% يعملون ضمن الحضائر الجهوية و30% في الحضائر الفلاحية، وفق ما ذكره وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق محمّد الطرابلسي في جلسة عامّة بالبرلمان.
فيما تحدّث ممثلو رئاسة الحكومة ووزارات الشؤون الاجتماعية والمالية والتنمية والاستثمار والتعاون الدولي خلال جلسة استماع بالبرلمان سنة 2020، عن ارتفاع عدد عمال الحضائر من 21944 سنة 2010 إلى أكثر من 77 ألف في 2011 بفعل تنامي المطلبية الاجتماعية خلال تلك الفترة، مضيفين أنّ هذا العدد تراجع منذ 2012 ليبلغ 47288 سنة 2020 بفعل توقف الانتداب وشطب كل من ثبت تمتعه بدخل مهما كان نوعه، بينما يذكر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في دراسة تعود إلى سنة 2016 أن العدد الجملي لعملة الحضائر ارتفع من 62876 عامل سنة 2010 إلى أكثر من 125000 عامل سنة 2011. وتقول الدراسة إنّ هذا العدد تقلّص نسبيا ليستقر في حدود حوالي 100 ألف عامل سنة 2014.
سعت نواة إلى الحصول على العدد الفعلي لعمّال الحضائر وكتلة أجورهم المحمولة على الدّولة عبر إرسال مطلب نفاذ إلى المعلومة، ولكنّ الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل أفادتنا في ردّها أنّها لا تملك هذه المعطيات، ممّا يحول دون رسم صورة واضحة عن هذه الآلية وغيرها من آليات التشغيل الهشّ، مثل الآلية 16 و20 وشركات البيئة والبستنة، وما يمكن أن تمثّله من عبء على ميزانيّة الدّولة.
صار خيار الحكومات إمضاء الاتفاقيات مع الطّرف الاجتماعي لإسكات المحتجين ما يشبه العادة والتقليد، ثم ترحّل الملفّات إلى الحكومة التي ستأتي من بعدها لتتحمّل الأعباء المالية لهذه الإجراءات في حال تطبيقها، أو المسؤولية الأخلاقية في حال عدم الالتزام بها. في حين تخوض حكومة قيس سعيّد حاليّا حملة لتطهير الإدارة، يبدو أنّ آلية الحضائر ستكون مشمولة بها، لكنّ صبري بن سليمان عن تنسيقية عمال الحضائر يقول إنّه لا يخشى ما سيتمخّض عنه هذا الإجراء، الّذي قد ينصفهم ويساعدهم على تحقيق مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية.
iThere are no comments
Add yours