في الليلة الفاصلة بين 18 و19 سبتمبر، بثّت القناة الوطنية فيديو اجتماع الرئيس قيس سعيد برئيس الحكومة ووزيري الداخلية والعدل، اجتماع تحدّث فيه الرئيس طيلة ما يقارب خمسين دقيقة كاملة. كان للتلفزة الوطنية نصيب من ذلك الحديث حيث انتقد قيس سعيد سياسة التلفزة الوطنية في تناول المضامين الإعلامية وقال ساخرا إنّ هناك تركيزًا في الحديث عن مشاكل الكراس المدعم في الوقت الذي لم تبث فيها التلفزة التونسية الحملات التي تقوم بها القوات المسلحة لما سمّاه ”تطهير“ مدينة صفاقس من المهاجرين غير النظامين.
سرعان ما ناقض الرئيس قيس سعيد في حديثه نفسه قبل الاسترسال في انتقاد سياسة تحرير القناة الوطنية وذلك حين قال إنه لا يريد المدح مستشهدا بقول عمر بن الخطاب ”رحم الله من أهداني عيوبي“. هذا التدخّل في المضامين الإعلامية ليس الأوّل، ولن يكون الأخير في ظلّ تسلّل التعليمات لغرف الأخبار وتخييم شبح الرقابة على وسائل الإعلام خاصّة العمومية منها.
الرقابة على وجدان الصحفي
لا تخفى ظلال الرئاسة في خلفيات غرف الأخبار والبرامج السياسية في التلفزة الوطنية وفي بقية وسائل الإعلام الحكومي إجمالا، حيث تجمع شهادات بعض الصحفيين من وكالة تونس إفريقيا للأنباء وجريدة الصحافة والإذاعة الوطنية، وثقها مرصد توثيق الانتهاكات الواقعة على الصحفيين في النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، على رقابة تمارسها الإدارة في تلك المحامل الإعلامية قبل النشر والبث. نواة تحصلت بدورها على شهادات بعض الصحفيين، خيروا التحفظ على هوياتهم خشية تعرضهم للعقاب من قبل مؤسساتهم. شهادات تؤكد تعرض محتويات صحفية في بعض وسائل الإعلام الحكومي إلى ما يعرف بالصنصرة.
يقول أحد الصحفيين العاملين بصحيفة لاباراس الحكومية في تصريح لنواة إن الجريدة شهدت عمليَّتَيْ صنصرة لمقالين كتبهما صحفي يعمل هناك، بقرار من المدير العام للجريدة. مُنع المقال الأول التي تعرض لاعتقال الصحفي زياد الهاني من النّشر في جوان الماضي، وبررت الإدارة ذلك المنع بتضمين كاتب المقال موقفه الذاتي حين كتب إن تونس هي البلد الوحيد الذي يعاقب بالسجن كل من يعبر عن رأيه. أما المقال الثاني فقد كان تغطية لندوة صحفية لحزب التيار الديمقراطي في أواخر أوت الماضي. رغم أن رئيس التحرير كلف الصحفي المذكور بتغطية تلك الندوة، إلا أنه تم التراجع عن نشر الخبر وكان تبرير ذلك أن عنوان ”التيار يندد بمسرحيات الرئيس“، غير مناسب.
تحامل على الهجرة والمعارضة
لم تكن صحيفة لاباراس المؤسسة الإعلامية الحكومية الوحيدة التي تعرض صحفيون فيها إلى الرقابة، حيث تجمع أغلب الشهادات التي قدمها صحفيون إلى وحدة رصد الانتهاكات الواقعة على الصحفيين بالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين على أن مقالات صحفي وكالة تونس إفريقيا للأنباء أصبحت تحت مجهر الإدارة، ففي أفريل الماضي، حُذفت برقية تضمنت بيانا للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية انتقد سياسة تونس مع الاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة غير النظامية. بيان وصف تونس بحارس الضفة الجنوبية للمتوسط. من ثمّ أمر المدير العام للوكالة بسحب البيان رافضا الوصف المذكور، وسحب حق الدخول للموقع من كاتبة البرقية رغم أنها تحمل صفة رئيس تحرير مساعد.
كما حُذف يوم 2 جوان الماضي مقال عن إخلاء سراح مسؤولين في الاتحاد الجهوي للفلاحة بجندوبة من قبل المحكمة الابتدائية بجندوبة. تقول خولة شبح، منسقة وحدة رصد وتوثيق الانتهاكات الواقعة على الصحفيين التابعة للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، في تصريح لنواة إن الصحفيين لا يتحصلون على إجابات عن سبب حذف مقالاتهم. بعد قرابة شهر، حُذفت ثلاث مقالات أخرى من موقع الوكالة بعد نشرها، يتناول الخبر الأول قضية فتح أبحاث عدلية لتحديد المسؤوليات على خلفية أعمال عنف استهدفت مهاجرين غير نظاميين في صفاقس. أما الخبر الثاني فنُشر يوم 7 جويلية الماضي في موقع الوكالة في قسم السياسة تضمن دعوة منظمة هيومن رايتس ووتش للسلطات التونسية إلى وقف عمليات طرد المهاجرين الأفارقة، وسُحب الخبر يوم 12 جويلية من الموقع. تكرر حذف المقالات من موقع الوكالة الحكومية يوم 17جويلية الماضي، حيث سُحبت برقية من موقع الوكالة تضمنت تصريحا للمحامي مختار الجماعي قال فيها إن قضية ”أنستالينغو“ هي قضية لتصفية الحسابات السياسية.
تقول إحدى الصحفيات العاملات بوكالة تونس إفريقيا للأنباء، تحفظت على ذكر هويتها، في تصريح لنواة إن صحفيي الوكالة يعيشون رقابة يومية على أعمالهم الصحفية وتضيف:
”وصل الحد إلى طلب رئيس التحرير إرسال برقياتنا إلى مدير التحرير، رغم أنه الحلقة الأخيرة في التحرير قبل النشر. وذلك الإجراء هو نوع من الرقابة القبلية على أعمالنا. أصبح كل صحفيي الوكالة العاملين في كل الأقسام يحسبون كل الخطوات حتى لا تتعرض أعمالهم للرقابة أو الحذف وارتأينا أنه عند تغطية أنشطة المعارضة ألا نُضمن تصريحات معارضين في برقياتنا لأن مصيرها سيكون المنع من النشر أو الحذف، حتى المواضيع الاجتماعية والاقتصادية لم تسلم من الرقابة. وكان آخر إجراء قام به المدير العام لوكالة تونس إفريقيا للأنباء لضمان الرقابة على مقالاتنا هو تكوين هيئة تحرير يرأسها بنفسه ضاربا بذلك مبدأ فصل التحرير عن الإدارة“.
تقول خولة شبح المسؤولة عن وحدة رصد الانتهاكات الواقعة على الصحفيين لنواة إن أغلب المقالات التي حذفت من موقع وكالة تونس إفريقيا للأنباء موضوعها الهجرة غير النظامية، وإن عملية الرقابة والضغط على الصحفيين شملت أيضا صحفيين في الإذاعة الوطنية والتلفزة الوطنية، حيث استُبعدت صحفية بالإذاعة الوطنية من تقديم برنامج ”بلادنا اليوم“ في مارس الماضي وذلك بتعلة تضارب المصالح لأن زوجها سياسي معارض، في حين مثلت الصحفية بالتلفزة الوطنية آمال الشاهد اليوم أمام مجلس التأديب بسبب رسالة وجهتها للمديرة العامة للقناة انتقدت فيها سياسة تحرير المؤسسة.
بدا الرئيس التونسي غير راض عن جهود مديري المؤسسات الإعلامية الحكومية في الرقابة على المضامين الصحفية التي تنتقد سياسته، حيث قال في حديثه أمام رئيس الحكومة ووزيري الداخلية والعدل إنه ”هناك عمل سيتم حتى تكون قنواتنا الوطنية منخرطة في عملية تحرير الوطن“.
محاولة أخرى لوضع اليد على وسائل الإعلام والتواجد الدائم في غرف تحريرها والسيطرة على ضمائر الصحفيين فيها، لم يجد قيس سعيد أي حرج في طرحها والغضب يتطاير من عينيه، لإحياء الإرث التسلطي والرأي الواحد، ورغم أن التلفزة الوطنية كانت من أولى وسائل الإعلام التي انخرطت في الدعاية، إثر استبعاد الأحزاب ووجوه المعارضة من برامجها، فإن الرئيس يطمح للمزيد وكأنه يريد ترأس اجتماعات التحرير بنفسه، أو فرض توجيهات الرئيس المصورة كما كان يفعل بورقيبة مع شعبه الكريم.
iThere are no comments
Add yours