لم يكن قرار منع الصحافة من حضور اجتماعات اللجان مستبعدًا، خاصّة وأنّ الجلسة الافتتاحية للبرلمان في 11 مارس منعت الصحافة الخاصّة والأجنبيّة المعتمدة في تونس من دخول البرلمان وتأمين التغطية، بتعلّة ”تجنّب الفوضى“ داخل البرلمان و”تشويه صورة المجلس“، ويبدو أنّ الحجّة ذاتها تتكرّر لتعليل هذا الإجراء.

أُقحم قرار منع الصحفيين من حضور اجتماعات اللجان داخل البرلمان في البلاغ الصادر عن مكتب المجلس يوم 15 جوان الجاري، الّذي تحدّث عن روزنامة العمل البرلماني الروتيني، ليتمّ التطرّق فيما بعد إلى العلاقة مع أجهزة الإعلام ومواكبتها لأشغال اللجان. وورد في البلاغ أنّ ”الإعلاميين مرحب بهم للعمل في الفضاءات الخاصة بهم في رحاب المجلس“، وأنّ ”كل اللجان تصدر بلاغات صحفية في نهاية اجتماعاتها تنشر بصفة فورية“، ما يعني ضمنيّا أنّه لا حاجة لحضور الصحفيين خلال اجتماعات اللجان طالما أنّ المعلومة الرسمية يوفّرها البرلمان دون سواه.

”حماية“ النواب من الصحافة؟

”هذا القرار اتّخذناه بالإجماع داخل مكتب المجلس لمزيد تنظيم العمل البرلماني“، تقول سيرين مرابط، عضو مكتب مجلس نواب الشعب مكلّفة بالإعلام والاتصال في تصريح لنواة، مؤكّدة في الوقت ذاته أهميّة مواكبة وسائل الإعلام لنشاط البرلمان ”نحن لا نتداول أمورًا سريّة في اجتماعات اللجان ولسنا ضدّ حضور الصحفيين لتغطية أعمال المجلس، ولكن في الفضاء المخصّص لهم وهو فضاء ملائم جدّا لأداء عملهم“.

تقول مرابط إنّ هذا القرار هو نتيجة لحادثة جدّت في إحدى اللجان، حيث حضرت صحفيّة دون أن تقدّم نفسها، في ظلّ عدم وجود شارة توضّح هويّتها. ”صحيح أنّ المبدأ هو علنيّة حضور الجلسات على معنى الفصل 60 من النظام الداخلي، ولكنّ الفصل 140 ينظّم إجراءات الدخول بالنسبة إلى الصحافة المحليّة والأجنبيّة. قد تمتدّ بعض اجتماعات اللجان إلى خمس ساعات، وهو ما قد يجعل النواب في حالة استرخاء ويجدون حرجًا في حضور الصحافة“، توضّح النائبة.

وينصّ الفصل 140 من النظام الداخلي على أنّ مجلس نواب الشعب يعمل ”في تعاون وشراكة استراتيجية مع الإعلام لنقل المعلومة البرلمانية للمواطن ومختلف متابعي الشأن البرلماني بما يضمن الحق في الإعلام وفي النفاذ الى المعلومة“، ما يعني أنّ قرار مكتب المجلس يخرق النظام الداخلي الّذي صوّت عليه النوّاب قُبيل أشهر من قرار مكتب المجلس.

انقلاب على النظام الداخلي

وتبعًا لذلك، أصدرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بيانًا في 16 جوان، أشارت فيه إلى ”التفاف مكتب المجلس على أحكام النظام الداخلي“، الّذي ينصّ في فصله الستّين على مبدأ علنيّة الجلسات، مع إمكانية انعقادها سريّة بعد التصويت على ذلك بأغلبية الثلثين، وهو مبدأ كان معمولا به في النظام الداخلي السابق. النقابة أدانت في بيانها ”الانحراف الخطير لقرارات مكتب مجلس نواب الشعب نحو الحد من حرية العمل الصحفي ونسف مبادئ الشفافية وحق المواطنين في الحصول على المعلومات من مختلف مصادرها حول مداولات اللجان وأشغالها وما له من أثر على تعديل ومناقشة مشاريع القوانين المعروضة لدى اللجان البرلمانية“.

من جانبه، يقول إبراهيم بودربالة رئيس مجلس نواب الشعب في مداخلة هاتفية على إذاعة ديوان أف أم يوم 18 جوان إنّ قرار منع الصحفيين من حضور اجتماعات اللجان كان باقتراح من أعضاء اللجان. أمر نفاه النائب بلال المشري عضو لجنة الفلاحة في البرلمان، الذي فند في تدوينة على حسابه الشخصي تداول النواب منع الصحفيين من حضور اجتماعات اللجان، مؤكّدًا أنّ التعلات التي قدمها بودربالة لا أساس لها من الصحة، موضحا أنّ ”ما قام به رئيس المجلس من منع للصحفيين بقرار شخصي منه هو خرق واضح للنظام الداخلي“.

وذهب المشري في تفاعله مع هذا القرار حد التنبيه على من يحن إلى الجلسات المغلقة، لتمرير مصالح اللوبيات، بعدم الزج باسمه وزملائه في ذلك. معتبرا التبريرات المقدمة أراجيفا يعتمدها رئيس البرلمان لمغالطة الرأي العام.

سوابق خجولة للبرلمان السابق

”كانت هناك محاولات لمنع الصحافيين من دخول المجلس، لكن ليس بوتيرة متسارعة، وذلك أواخر 2013 وبداية 2014 عندما تمت محاولة منع الصحفيين من دخول الطابق السفلي، وقد تمّ إسقاط هذا القرار في غضون ساعات بعد احتجاج الصحافيين وتنفيذ تحرك أمام قاعة الجلسات العامة ليتم إعادة الأمور إلى نصابها“، يقول الصحفي سرحان الشيخاوي، الذي كان يواكب أعمال البرلمان منذ المجلس الوطني التأسيسي، مذكّرًا ببعض الإجراءات لتقييد تحرّك الصحفيّين داخل أروقة المجلس لدى حضور وفود أو رؤساء دول أجنبيّة، مثل حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 1 فيفري 2018.

كما كان حضور منظمة البوصلة لتأمين البث المباشر خلال مناقشة مشروع قانون المصالحة في المجالَين الاقتصادي والمالي في جويلية 2016 داخل لجنة التشريع العامّ غير مرحَّب به، حتّى أنّ عددًا من النوّاب في ذلك الوقت قالوا ”نحن لسنا تلاميذ حتّى يراقبنا الجميع ويشهد مداولاتنا“. وتمّ منع أحد أعضاء منظّمة أنا يقظ من تسجيل مداخلات النوّاب خلال مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2017، بالإضافة إلى تحفّظ النواب على حضور اجتماعات ”التوافقات“، التي كانت مغلقة تمامًا، ولكنّ أعضاء الجمعيات والصحفيين واكبوا الاجتماعات ونقلوا المداولات التي كانت تجري، حتّى أصبح بعض النواب يطالب بالبثّ المباشر ليكونوا على بيّنة من النقاشات التي تدور حول مشاريع القوانين ومقترحات التعديل. وكانت المقاربة التشاركية والانفتاح والشفافية هي ورقة الضغط التي تواجه بها الصحافة والجمعيات الآلة السياسية الراغبة في التعتيم والانغلاق.

عهد برلماني جديد على أنقاض الذاكرة الجماعية

منذ اتخاذ التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021، اختفى أرشيف المؤسسة البرلمانية (محاضر جلسات ومداولات وقائمات حضور) من الموقع الرسمي لمجلس نواب الشعب، وكأنّ هناك رغبة في إعدام جزء من الذاكرة الوطنية ونسف مرحلة الانتقال الديمقراطي. حاولنا الاتصال بالمسؤول عن التشريع في الإدارة البرلمانية ولكنّنا لم نحصل على إجابة. تمّ إحداث موقع جديد للبرلمان اكتفى بتنزيل الوثائق والأنشطة المتعلقة بالدورة النيابية الحالية، وكأنّ تاريخ المؤسسة البرلمانية بدأ في 2023. تقول المسؤولة عن الإدارة الالكترونية في البرلمان إنّ إدراج المعلومات في الموقع سيتمّ تدريجيًّا، ولكن في ظلّ غياب إجابة رسمية تظلّ كل الاحتمالات مفتوحة، خصوصًا وأنّ المؤسسة البرلمانية والسياق السياسي ككلّ ماضيان في الانغلاق وسدّ المنافذ أمام طالبي المعلومة، وأنّ الإجابة عن هذا السؤال ليست تقنية وإنّما سياسيّة.

من ناحية أخرى، ألغت القناة الرسمية لمجلس نواب الشعب على يوتيوب كلّ التسجيلات المتعلّقة بالمدّتَين النيابيتَين السابقتَين، وأبقت فقط على مداولات البرلمان الجديد، فيما تمّ الحفاظ على القناة الثانية لمجلس نواب الشعب، التي تدرج كلّ مداخلات النواب دون تحديد طبيعتها وتاريخها وموضوع التدخل.

لم يكن حضور الإعلام والمنظّمات المختصة في مراقبة الشأن البرلماني عنصرا معرقلا لسير عمل المجلس، بل كان عاملاً مساعدًا في اهتمام المواطنين بالشأن العامّ من خلال إبراز الخلافات والنقاشات التي تحصل داخل اللجان قبل المرور إلى الجلسة العامّة. الخوف من تشويه صورة المجلس يعود إلى سلوك النوّاب أنفسهم ولا دخل للصحافة فيه، وهو تعلّة لحجب المعلومة وخوف غير مبرَّر من التغطية الحينيّة التي لا تطال الحياة الخاصّة للنوّاب، وإنّما تؤمّن نشر معلومة جادّة ومسؤولة حول المسارات التشريعية والرقابية والانتخابية داخل المؤسسة البرلمانية.