أصبحت الصفحة الرسمية لوزارة الثقافة والمحافظة على التراث، شأنها شأن كل الوزارات، النافذة الوحيدة التي تطل منها الوزيرة حياة قطاط التي تولت منصبها منذ 11 أكتوبر 2021. تعج الصفحة بمنشورات لأنشطة الوزيرة وصورها تارة في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب وتارة أخرى خلال حفل اختتام شهر التراث، تتخللها بلاغات تهنئة لمخرجين تألقوا في مهرجانات إقليمية. في المقابل يشتكي المنتمون إلى قطاع الثقافة من الأسوار التي شيّدتها وزيرة الثقافة منذ تقلدها المنصب، حتى أن البعض وصفها ب”عدم الكفاءة“، إضافة إلى فشلها في معالجة حزمة من الملفات المتشابكة في مجالات مختلفة مثل الإنتاج السينمائي والبنية التحتية وتركة ثرية من الآثار والمعالم التاريخية المهملة.

سطوة وزارة الداخلية على المجال الثقافي

قادت وزيرة الثقافة حياة قطاط قطاعات ثقافية متعددة إلى مطبّات كثيرة منذ تولّيها منصبها، لتؤجّج بذلك غضبا عارما لدى المنتمين إلى تلك القطاعات، كان آخرها ما حصل خلال معرض تونس الدولي للكتاب من سحب عدد من الكتب ومنعها من العرض، وصولا إلى التزام الصمت إزاء رفض ولاية بن عروس تنظيم عرض الموسيقى الإلكترونية بمسرح أوذنة الأثري يوم 13 ماي، رغم حصوله على ترخيص من الوزارة وبيع تذاكر الحفل وقدوم فنانين أجانب لتقديم العرض الموسيقي.

في الواقع لم تكن تلك المناسبة الوحيدة التي أضحت فيها وزارة الثقافة رهينة اعتباطية وزارة الداخلية. فقد سبق أن منع واليا تونس وسوسة عرض فيلم الصور المتحركة ”Light year“ في دور السينما التابعة للولايتين في شهر جوان الماضي، وذلك بحجة وجود مشاهد ”مثلية“، وكان والي سوسة قد قال في تصريح إعلامي إن قرار المنع قد تم اتخاذه بالتشاور مع وزارة الثقافة.

علاوةً على وزارة الداخلية، بسطت مؤسسات أخرى من السلطة التنفيذية نفوذها على المجال الثقافي في ظل سلبيّة تصل حدّ التواطؤ من وزارة الثقافة. في شهر نوفمبر الماضي، سُحب فيديو من عرض الفنانة التشكيلية مريم بودربالة خلال القمة الفرنكوفونية بجربة بتعلة تلميحه لجسد امرأة عارية. وأفادت الفنانة التشكيلية بأنها لا تعلم إن كان قرار المنع صادرا عن وزارة الثقافة أو عن لجنة تنظيم القمة. وفي الحالتين، لم تتدخل الوزارة ولم تقدم تفسيرا.

في الشهر ذاته، كانت الوزيرة قد أجّجت الجدل بعد إعلانها عن تنظيم أيام قرطاج السينمائية كل عامين. قرار سبقه لقاء في اليوم ذاته مع الرئيس قيس سعيد، حيث جاء في بلاغ للرئاسة إن ”أيام قرطاج السينمائية شابتها ممارسات حادت بها عن الأهداف التي أنشأت من أجلها“. وكانت قطاط قد وصفت السجاد الأحمر، خلال تصريح للقناة الوطنية الأولى، بأنه ”بدعة تم العمل بها منذ 2009، لكنها حادت عن طريقها“. ويبدو أن السيدة الوزيرة تناست أنها كانت مستشارة وزيرة الثقافة والمحافظة على التراث، خلال السنتين الأخيرتين من حكم بن علي.

محرقة الكتب لمواجهة عقوبات الوزيرة

واجه شعراء تونسيون في شهر أفريل الماضي ما أسموه ”الفساد المالي والإداري بوزارة الثقافة“ بحملة تتمثّل في حرق كتبهم تحت شعار ”أحرق كتبي قبل أن أحرق نفسي“، ونشروا صورهم وهم يهمون بإشعال النار في كتبهم. وكتب الشاعر صابر عبسي على صفحته في موقع فايسبوك: ”سنضرب لكم أمثالا دقيقة: أن السيدة وزيرة الشؤون الثقافية مورطة في شبهات فساد وإهدار للمال العام من خلال ابرام عقود إسداء خدمات بمبالغ جزافية مع مقربين إليها ومحسوبين عليها. وقد رفعت ضدها قضايا في هذا الغرض“.

في المقابل، واجهت وزيرة الثقافة حملة الانتقادات هذه بعقوبات وصلت حد رفع دعاوى قضائية. ففي شهر مارس الماضي، تم إيقاف ناصر بن عمارة كاتب عام النقابة الأساسية لأعوان وزارة الثقافة، ونادر السماري عضو النقابة، بعد شكوى تقدمت بها الوزيرة بتهمة الثلب، أياما قليلة إثر وقفة احتجاجية نفذها أعوان الوزارة. بعد الإفراج عنه، قررت وزيرة الثقافة إحالة بن عمارة على مجلس التأديب صحبة ثلاثة موظفين آخرين في الوزارة، انتقدوا سياسة حياة قطاط. وكانت وزيرة الثقافة قد اتخذت عقوبات تأديبية أخرى تتمثل في نقلة ثلاثة موظفين آخرين من ضمنهم الشاعرة أمامة الزاير وصابر عبسي.

السينما، قطاع منكوب

خلال احتفال تونس بمئوية السينما التونسية، صرّحت قطاط أن وزارة الشؤون الثقافية ”تحرص على إشعاع السينما بتونس ودعم صنّاعها لتكون السينما محركا اقتصاديا“. غير أن صناع الأفلام يعتبرون أن وزيرة الثقافة لم تنفذ أي مطلب من مطالبهم. في هذا السياق، يقول المنتج عماد مرزوق في تصريح لنواة، إن وزيرة الثقافة لم تطورّ أي شيء منذ قدومها على رأس الوزارة ولم تسع إلى الاستجابة لمطالب منتجي السينما بإصلاح القوانين أو بتنظيم تراخيص التصوير. رأي يشاطره فيه رمسيس محفوظ رئيس الغرفة النقابية الوطنية لمنتجي السينما والسمعي البصري، حيث يقول لنواة :”لم أقابل وزيرا للثقافة بحجم ضعف وعدم كفاءة الوزيرة الحالية ومستشاريها. قطاع السينما تسيّره قوانين تعود للعام 1960، وأحدثها يرجع إلى سنة 2001. لدينا مقترحات عملية لتطوير صناعة السينما في تونس حتى تكون فاعلا ثقافيا واقتصاديا، غير أن الوزيرة سدّت كل منافذ الحوار“.

ينتقد رمسيس محفوظ ما وصفه بسلبية الوزيرة تجاه منتجي السينما ملخصا المطالب في مناقشة ميزانية الدعم وتطوير تراخيص التصوير وإرساء قانون للفنانين العرضيّين ومناقشة استراتيجية لاستقطاب تصوير الأفلام الأجنبية في تونس. يقول محفوظ لنواة : ”حين تسلمت الوزيرة الحالية منصبها خفّضت من ميزانية الدعم  لتصبح 4 مليون دينار“.

يضيف رمسيس محفوظ؛ ”على الوزيرة الحالية ومدير ديوانها ومستشاريها أن يستوعبوا أن آجال إسناد تراخيص التصوير تعطل عملنا. المشكل أن الوزيرة وفريقها يعملون بطرق بدائية جدا. هناك مشروع جاهز لإنشاء شباك تذاكر موحد يمكن أن يقيم عمليا إقبال الجمهور على هذا الفيلم أو ذاك لكن لا نعلم مصيره إلى حد الآن. تحدثت الوزيرة عن تطوير القطاع فهل تعلم أنه لا توجد سوى 20 قاعة سينما جميعها متركزة في تونس الكبرى وهل فكرت في استغلال 256 دار ثقافة بعد استصلاحها. شخصيا لا أعتقد ذلك لذا عليها أن تستقيل هي وفريقها“.

في شهر مارس الماضي، أعلن المشرفون على قاعتي سينما ”أميلكار“ و”سيني جميل“ إغلاقهما وسط انتقادات لسياسة وزارة الثقافة بعد التخلي عن صندوق الاستثمار المخصص لقاعات السينما. قاعات تعيش أزمة غير مسبوقة عمّقتها الإجراءات الصحية التي اتخذتها تونس خلال انتشار وباء كورونا. الحبيب بلهادي مؤسس قاعة الريو، انتقد في تدوينة ما أسماه سياسة عقابية اتخذتها وزيرة الثقافة ضدّ القاعة وحرمانها من احتضان عروض ”أيام قرطاج الكوريغرافية“ في منتصف شهر جوان. وقال بلهادي في تدوينته إن وزارة الثقافة اتخذت قرار إقصاء القاعة المذكورة بسبب مواقفه من سياستها والتي وصلت حد التتبع القضائي.

التراث المنثور هباء

خلال اختتام شهر التراث يوم 18 ماي، رفعت وزارة الثقافة شعار ”تراثنا موروث حضاري ومورد اقتصادي“. وقالت وزيرة الثقافة حياة قطاط إن ”توجهات الوزارة الكبرى تجعل هذا القطاع ضمن المسائل الجوهرية الجديرة بالاهتمام والمتابعة ليكون تثمين ارثنا المادي وغير المادي وإحيائه وإدراجه في الدورة الاقتصادية جهدا يوميا متواصلا على مدار السنة“. تصريح قطاط جاء في ظل انتقادات لتواصل إغلاق متحف باردو، منذ قرابة عامين، رغم أنه يعدّ وجهة سياحية مميزة، إضافة إلى فراغ جزئي في إدارة المعهد الوطني للتراث.

يقول سعدي الدريدي رئيس جمعية قليبية للثقافة والفنون والتراث في تصريح لنواة، إن وزيرة الثقافة لم تكشف عن أي استراتيجية قطاعية. كما أن تعيين كاتب عام المعهد خلفا للمدير المستقيل رغم ترشح أربعة مديرين من أهل الاختصاص لهذا المنصب يثبت غياب سياسة واضحة لها في مجال تثمين الآثار والمعالم التاريخية وحفظها. يضيف الدريدي : ”راسلنا وزيرة الثقافة مرات كثيرة بخصوص وضعية مواقع أثرية مهددة، غير أنها لم تتجاوب معنا، وهو أمر غريب لأنها ابنة معهد التراث ومن المفترض أنها مطّلعة أكثر من غيرها على الوضعية الكارثية. للأسف اسم وزيرة الثقافة اقترن بالإقالات فحسب، بعضها يمثل ضررا كبيرا لقطاع التراث، وأقصد بذلك إقالة محافظة مستشارة في موقع كركوان الأثري المصنف ضمن تراث اليونيسكو، منذ أكثر من شهرين، والتي تم تعويضها بتقني لا بباحث“.

ينتقد السعدي الدريدي تغافل الوزارة عن تجاوزات في المواقع الأثرية، ويقول إن باحثا في المقبرة البونية بالمنصورة قام بإنجاز بحث في الموقع المذكور دون الحصول على ترخيص من المعهد الوطني للتراث. وكان تقرير محكمة المحاسبات للعام 2022 قد ذكر أن ”برمجة الحفريات لا تستند إلى منهجية واضحة وأن الاعتمادات المرصودة لمشاريع الحفريات تتم بطريقة جزافية دون الاستناد إلى مشاريع فعلية وأن الحفريات لا تودع بمخازن المواقع الأثرية ولا يتم تسجيلها أو جردها“. يضيف الدريدي، الوزارة لا تحسن التعامل مع ملف المواقع الأثرية رغم علم الوزيرة أن عدد المواقع المسجلة الفعلية لا يتجاوز الألف موقع، 75 بالمائة منها محمي منذ الاستقلال.

تواصل وزيرة الثقافة حياة قطاط منهج سابقيها من الوزراء في قبول فتات من ميزانية الدولة لا يتجاوز 0.75 بالمائة، تذهب أكثر من 70 بالمائة منها لتغطية نفقات التسيير. في المقابل انتهجت الوزيرة طريقا أكثر تصلبا تجاه كل الفاعلين في القطاع الثقافي دون ان تكشف عن خططها لتنفيذ الخطوط العامة التي تردّدها في كل المناسبات الثقافية.

سعت نواة لطرح هذه المحاور على السيدة الوزيرة، وتواصلنا مع مكتبها الاتصالي الذي طلب بعضا من الوقت لاطلاع الوزيرة على تساؤلاتنا، انتظرنا أكثر من 10 أيام دون تفاعل يُذكر. مؤشر آخر على عدم كفاءة فريق عمل الوزيرة و تشبّثها بمقاربة اعتادت على تطبيقها منذ كانت مستشارة لدى وزير ثقافة بن علي.