فاز بودربالة في الانتخابات التشريعية الأخيرة وصعد إلى رئاسة مجلس نواب الشعب بعد أن نافس النائب عن مبادرة ”لينتصر الشعب“ عبد السلام الدحماني، وهي المبادرة نفسها التي ترشح باسمها بودربالة في الانتخابات الأخيرة. حتى أن محسن النابتي أحد أعضاء تلك المبادرة وصف منافسة بودربالة لمرشح ”لينتصر الشعب“ بـ”الغدر“، متهما إياه بالاصطفاف مع علي الحفصي وفوزي اللومي القياديين السابقين في حزب نداء تونس.

مر إبراهيم بودربالة بمحطتين يمكن أن تثبتا ما يردده زملاؤه السابقون في المحاماة، من خصومه وأصدقائه، وهو أن رئيس مجلس النواب الحالي لا يمكنه أبدا أن يقف في مواجهة أي نظام بأي لون سياسي كان، سواءً في مرحلة الاستبداد زمن بورقيبة وبن علي أو بعد 2011.

المحطة الأولى: الركوب في العربات المجرورة

سنة 1976، تحصل إبراهيم بودربالة على الإجازة في الحقوق، بعد عام واحد بدأ بامتهان المحاماة. كان ذلك قبل سنة من أحداث 28 جانفي 1978، خلال أشرس مواجهة بين الاتحاد العام التونسي للشغل ونظام بورقيبة. لم يُعرف لبودربالة أي نشاط سياسي أو نقابي داخل الجامعة، حسب محامين مطلعين على مسيرته، حاورهم موقع نواة، وخيّر أغلبهم التحفظ عن كشف هويتهم. فيما رفض عميدان سابقان وهما عامر المحرزي ومحمد الفاضل محفوظ الحديث مع نواة بسبب ما أسموه بتقاليد العمادة في عدم الخوض في مسائل تهمّ العمداء. غير أن توجهه السياسي كان قريبا من الفكر القومي في تلك الفترة. يقول العياشي الهمامي لنواة : ”خلال فترة بورقيبة وبن علي لم يكن بودربالة محاميا مناضلا في الصفوف الأولى، رغم أنه كان ضمن محامين قدموا نيابات للنقابيين المعتقلين سنة 1978 بعد الإضراب العام زمن حكم بورقيبة“.

لم يكن إبراهيم بودربالة ضمن محامي الصفوف الأولى الذين واجهوا نظام بورقيبة في بداية الثمانينات. إلاّ أن بروز اسمه كان بعد أن ترأس جمعية المحامين الشبان سنة 1983، وذلك بعدما يسميه محامون كثيرون بالانقلاب على المكتب الشرعي الذي كان يترأسه المحامي الراحل فاضل الغدامسي، المنتخب من قبل المكتب التنفيذي وفق نظام الجمعية القديم. كان الوضع السياسي خانقا، ما دفع الجمعية إلى إصدار بيانات مدينة لذلك الانغلاق، أمر لم يعجب بعض أعضاء المكتب التنفيذي للجمعية الذين أبعدوا الغدامسي عن الرئاسة لينتخب بودربالة مكانه بعد أن كان أمينا عاما للجمعية، حسب ما رواه محامون لنواة.

طيلة فترة حكم بورقيبة، لم ينخرط بودربالة في أي حزب سياسي حسب محامين عاشوا تلك الفترة. لكن بعد سنة من استيلاء بن علي على السلطة، خاض بودربالة أول تجربة سياسية له، حيث كان من مؤسسي الحزب الديمقراطي الوحدوي، وهو حزب قومي معارض يوصف بالحزب الكرتوني. يقول المحامي العياشي الهمامي لنواة: ”كان إبراهيم بودربالة منتميا لحزب الاتحاد الديمقراطي الوحدوي سنة 1988، وكان ضمن مؤسسي الحزب الذي ترأسه عبد الرحمان التليلي عضو اللجنة المركزية للتجمع الدستوري الديمقراطي والذي خرج من الحزب الحاكم ليتحصل على رخصة حزب معارض في ظرف وجيز“. ويضيف الهمامي: ”جمع ذلك الحزب بعض من يميلون إلى الفكر القومي أمثال بودربالة، وهم على كل حال ليسوا من القوميين الصادقين لأن الحزب كان حزبا معارضا كرتونيا“. وهو ما يؤكده المحامي منذر الشارني لنواة حيث يقول: ”كان بودربالة من مؤسسي حزب الاتحاد الديمقراطي الوحدوي صحبة عبد الرحمان التليلي ومجموعة أخرى من القوميين وتحصلوا على ترخيص من السلطة في بداية حكم بن علي ثم انسحب من الحزب“.

يقول بعض المحامين المقربين من بودربالة إن تجربته مع الحزب الديمقراطي الوحدوي لم تدم إلا فترة قصيرة، إذ تمّ طرده من الحزب بسبب منهج حياته الخاصة، ليبتعد بعدها نهائيا عن التحزب.

زمن بن علي: الانحناء حتى مرور العاصفة

تدرج إبراهيم بودربالة في مهنة المحاماة منذ العام 1989 حين أصبح عضوا في الهيئة الوطنية للمحامين، فاز في انتخابات رئاسة فرع الهيئة بتونس سنة 1992 وأُعيد انتخابه سنة 1995 لعهدة أخرى انتهت عام 1998. منذ ذلك العام، واظب على الترشح لمنصب عميد المحامين لمدة 21 عاما، حتى فاز بذلك المنصب بعد ثماني محاولات، بصعوده على رأس الهيئة سنة 2019 خلفًا لعامر المحرزي.

في بداية الألفينات، بلغت سطوة نظام بن علي ذروتها في ملاحقة المعارضين، وكانت قضية حمة الهمامي ورفاقه قد شغلت الحقوقيين في تونس وخارجها. فقد اختُطف الهمامي ورفاقه من بهو المحكمة في فيفري 2002، يوم قرروا الخروج من السرية ومواجهة التهم التي أعدها النظام لهم. سرعان ما تشكلت لجنة دفاع تضم أكثر من مائتي محام، ونُسب لبودربالة أنه كان ضمن هذه اللجنة. يقول حمّة الهمامي لنواة: ”قدّم إبراهيم بودربالة إعلاما بالنيابة للدفاع عني ولكنه لم يرافع أبدا في قضيتي أو في قضية راضية النصراوي. لم تكن له طيلة مسيرته مواقف شجاعة ولم يكن محاميا له مبادئ قوية“.

سنة 2002، تعرض محامون إلى الاعتداء والتضييق على خلفية قضية حمة الهمامي الناطق باسم حزب العمال المحظور آنذاك، ويُجمع محامون تواصلت نواة معهم ممن عايشوا تلك الفترة أن بودربالة كسر إضراب المحامين الذي أقرته الهيئة الوطنية للمحامين برئاسة البشير الصيد حينها. يقول احد المحامين الذين حاورتهم نواة: ”سنة   2002 تم الاعتداء على مجموعة من المحامين على خلفية محاكمة حمة الهمامي وتقرر الإضراب، لكن إبراهيم بودربالة كسر ذلك الإضراب بحضوره جلسة في محكمة بن عروس ومراسلته عددا كبيرا من المحامين من أجل حثهم على رفض الإضراب بتعلة أنه إضراب سياسي وليس مهنيا“. ويؤكد منذر الشارني حياد بودربالة تجاه القضايا ذات البعد الحقوقي خلال حكم بن علي ويقول : ”كان إبراهيم بودربالة غالبا ما يعارض إصدار بيانات تنتقد السلطة في قضايا الحريات، ولا يخفى على أحد أنه لم يعتبر تلك القضايا ذات أولوية لدى المحامين“.

لم يعرف عن إبراهيم بودربالة وقوفه في الصفوف الأولى للدفاع عن الحريات أو عن المعتقلين المعارضين لحكم بن علي. يقول أحد أصدقاء بودربالة لنواة: ”إبراهيم شخص طيب وهو صديقي لكنه لم يكن في يوم من الأيام مناضلا ضد السلطة، بل العكس فهو غالبا ما يميل إلى موقف أقرب إلى السلطة. لا يمكن القول إنّه خان زملاءه أو قضايا الحقوق والحريات وحقيقة أستغرب كيف تفاجأ البعض من اصطفافه الآن إلى جانب السلطة لأنه كان دائما يميل إلى أي سلطة قائمة. هو لم يدافع عن بعض المعتقلين خلال حكم بن علي إلا لسبب وحيد وهو الصداقة التي تجمعه ببعضهم، ولم يكن لأسباب مبدئية في الدفاع عن الحقوق والحريات“. وهو رأي يوافقه المحامي منذر الشارني الذي يقول : ”إبراهيم بودربالة كان قريبا دائما من السلطة في فترة حكم بن علي، وفي قطاع المحاماة كان قريبا من العميد الأسبق عبد الرحمان الباهي الذي صعد على رأس العمادة بدعم من محامين محسوبين على التجمع الدستوري الديمقراطي، وكان يطمح إلى خلافة الباهي في العمادة حين راهن على دعم المحامين التجمعيين. لكنهم في المقابل لم يراهنوا عليه“.

يتفق أغلب المحامين الذين حاورتهم نواة على أن رئيس مجلس النواب الحالي غالبا ما يتخذ مواقف وصفوها بالمعوّمة، خلال المحطات السياسية الكبرى التي عاشتها تونس خاصة خلال حكم بن علي، حتى أنه لم يكن ضمن المحامين الذين دافعوا عن المعتقلين خلال انتفاضة الحوض المنجم سنة 2008، وهو العام ذاته الذي بدأ فيه بودربالة بالتدريس في المعهد الأعلى للمحاماة. يقول القاضي المتقاعد والمحامي أحمد صواب في تصريح لنواة: ”تجمعني ببودربالة صداقة خاصة، لكن ذلك لا يمنعني من القول إنه لم يكن مقاوما في صفوف المحاماة ولا مناضلا في الصفوف الأولى أو حتى الثانية“. ويصفه المحامي منذر الشارني بأنه ينتمي إلى ما يعرف في صفوف المحامين ب”التيار المهني“ الذي يتجنب انتقاد السلطة في علاقة بقضايا الحقوق والحريات.

بعد 2011: الزحف نحو الكراسي

في مارس 2011، تأسست الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وكان إبراهيم بودربالة عضوا في تركيبتها وهي أولى محطات الانتقال الديمقراطي بعد الثورة. حسب قائمة أعضاء الهيئة بموقع رئاسة الحكومة، كان اسم بودربالة مُدرجًا ضمن الشخصيات الوطنية، لا ممثلا عن الهيئة الوطنية للمحامين. واستغرب أعضاء سابقون في الهيئة عضويته بل شككوا فيها. يقول عبد الرحمان الهذيلي أحد أعضائها السابقين إن بودربالة لم يكن حاضرا في أي من جلسات الهيئة، وهو ما أكّده عضو سابق آخر في تصريح لنواة.

تحققت أمنية إبراهيم بودربالة سنة 2019، بعد أن ظلت معلقة طيلة عقدين من الزمن، بانتخابه رئيسا لهيئة المحامين خلفا لعامر المحرزي. يقول بودربالة في حوار لمجلة ليدرز بعد فوزه بمنصب عميد المحامين : ”في المرّة الثامنة اقتنع قومي بجدارتي بالعمادة والحمد للّه وهي علامة لعودة الوعي لدى زملائي فأنا لم أتخلّ يوما عن مبادئي التي ظللت مؤمنا بها ولا عن قيم المهنة السامية ونأيت بنفـسي عن كل صراع حزبي“، غير أن جمعا هاما من المحامين يشككون في استقلاليته بإرجاع صعوده إلى وقوف المحامين المقربين من النهضة إلى جانبه، خلال منافسته لبوبكر بن ثابت على منصب رئاسة الهيئة.

يقول زميل لبودربالة كان حاضرا يوم الانتخابات في تصريح لنواة: ”خلال ذلك اليوم كان مسنودا بالأستاذين نور الدين البحيري وسعيدة العكرمي. كان من مصلحة الإسلاميين في ذلك الوقت صعود بودربالة على حساب بن ثابت، لأنهم يعرفون طبيعة الرجل جيدا، فهو لا يتصادم أبدا مع السلطة“. ويضيف محام آخر: “استفاد بودربالة من سنوات تدريسه في المعهد الأعلى للمحاماة“.

يقول محامون تحدث معهم موقع نواة إنه واصل نهجه بتفضيل الهدنة مع السلطة في السنة الأولى من توليه رئاسة الهيئة. يروي أحد المحامين أنّ بودربالة رفض إصدار بيان للتنديد باعتداء أعوان شرطة بالزي المدني على المحامي عبد الناصر العويني واقتحام منزله في جوان 2020، كما رفض اعتصام محامي هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، بالمحكمة الابتدائية بتونس في إطار حملة ”احفظ وإلا حيل“، بتعلة أن التحرك مسيّس.

العميد يتوَّج برئاسة البرلمان

لم يمرّ عامان، حتى تبيّن تراجع إبراهيم بودربالة عما صرح به لموقع ليدرز، حين قال إنه نأى بنفسه عن كل صراع حزبي، فقد أصبح رئيسا للجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وهي إحدى لجان ما يسمى بلجنة ”تأسيس الجمهورية الجديدة“، التي أعلن قيس سعيد عن إحداثها في ماي الماضي. قبل أن يعلن مساندته المطلقة لسعيّد، ظل بودربالة يتحسس مآل موازين القوى بعد تعليق أعمال البرلمان، حتى أنه دعا في حوار له على إذاعة جوهرة أف أم يوم 27 جويلية 2021 إلى حوار بين راشد الغنوشي وقيس سعيد وقال بودربالة في التصريح ذاته: ”سوف نعمل على ألا يطول تعليق البرلمان أكثر من 30 يوما، أعتقد أنه لو يجمع لقاء أو اجتماع بين الأطراف التي لها المشروعية الدستورية لتسيير البلاد وهي المجلس التشريعي ورئيس البلاد، سوف نتجاوز هذا الوضع. أدعو إلى لقاء بين رئيس الدولة وبين رئيس مجلس النواب ويجب أن يعقد هذا اللقاء سريعا لإنقاذ البلاد من هذا الوضع“.

قاد إبراهيم بودربالة وهو على رأس العمادة، المحامين إلى القصر، حين ترأس اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية التي مهّدت لإرساء الدستور الجديد، واتهم المحامون عميدهم بخدمة سعيّد حين مدد لعهدته بشهرين مخالفا الفصل 51 من قانون تنظيم مهنة المحاماة.

لدى حضوره على قناة تونسنا في جويلية الفارط بصفته ممثّلا لإحدى لجان إعداد الدستور الجديد، حذّر بودربالة من عودة البرلمان المنحلّ إلى العمل ومن تولّي راشد الغنوشي رئاسة الجمهورية واستقالة قيس سعيّد من مهامّه في صورة فشل الدستور في نيل أغلبية الأصوات المساندة له. هذا الموقف الذي عبّر عنه العميد السابق للمحامين لم يكن قراءةً سياسيّة، ولكنّه مغالطة تكشف رغبته في استمالة الناخبين والتخويف بعودة النهضة وحلفائها إلى الحكم، وهو أمر يرفضه أغلب التونسيّين.

هذا التقرّب تجذّر أكثر عندما تهرّب رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة من سؤال أحد صحفيّي الجزيرة عن السيناريوهات المحتملة في حال معاينة الشغور الوقتي لمنصب رئاسة الجمهورية، عندما غاب الرئيس عن الأنظار طيلة أحد عشر يوما، إذ كانت إجابته كالتالي: ”أؤكّد لك أنّ رئيس الجمهورية يتمتع بصحة جيدة، وهو قادر على أن يمارس حتى الرياضة يوميا“. وبلغ تطيّر بودربالة من شغور منصب رئاسة الجمهورية وقتيّا إلى حدّ القول: ”هذا الأمر لم يتحقّق بفضل الله“.

بدا إبراهيم بودربالة الشخص المناسب الذي يمكن أن يلتقي مع قيس سعيد فهو قد سبق أن صرح في ديسمبر 2020 أن ”ما حصل يوم 14 جانفي ليس ثورة بل هو حدث استثنائي تبعته محطات إصلاحية لعدة قطاعات”، وهو رأي مطابق لرأي سعيّد بخصوص الثورة. الآن بعد أن فاز في الانتخابات التشريعية وأصبح رئيسا للبرلمان، رفع بودربالة عنه الحرج ولبس رداء السلطة وقال بفخر: ”لا يحرجني أن أكون السند الوحيد لقيس سعيد“.