يبدي قيس سعيّد حرصًا يصل إلى درجة الهوس بمسألة استرجاع الأموال المنهوبة وتقديمها كحلّ سحري لمواجهة الأزمة الاقتصاديّة، عوضًا عن اللجوء إلى الجهات الأجنبيّة المانحة، كان يردّد دائمًا أنّه تقدّم بمقترح لإبرام صلح جزائي لاسترجاع الأموال وتوظيفها في مشاريع لفائدة الشعب منذ 2012. لم يخف سعيد قلقه من عدم تقدّم الملفّات، خلال لقائه بأعضاء اللجنة الوطنية للصلح الجزائي في 16 مارس الجاري، وانتهى به الأمر إلى إنهاء مهامّ رئيس اللجنة يوم 20 مارس.
تسمع جعجعة و لا ترى طحينا
في أكتوبر 2020، أحدث قيس سعيّد لجنة خاصة برئاسة الجمهورية لاسترجاع الأموال المنهوبة الموجودة بالخارج بأمر رئاسي، يترأسها وزير الخارجيّة. عندما سُئل الوزير عن سبب عدم تقدّم اللجنة في مسار استرجاع الأموال، قال إنّ دورها يقتصر على تقويم مختلف الإجراءات المتّخذة لاسترجاع الأموال المنهوبة، فلا يمكنها أن تحلّ محلّ الجهات الحكومية والقضائيّة المشرفة على هذا الملفّ، ممثّلةً في وزارة العدل والمكلّف العامّ بنزاعات الدّولة.
في 19 مارس 2021، قالت رئاسة الجمهورية في بلاغ لها إنّها استرجعت مبلغا بقيمة 3 مليون دينار من البنوك السويسرية، مشيدة بهذا الإنجاز الّذي قالت فيه ”وإذ يبدو هذا المبلغ زهيدا مقارنة بمبالغ أخرى لا تزال في الخارج، فإن استرجاعه يعد دليلا على أن العمل بجد وإخلاص يمكن أن يساهم في استعادة بقية المبالغ“، وكأنّ في ذلك إحالةَ إلى فشل اللجان المحدثة منذ 2011 المتعهدة بملفّ الأموال المنهوبة وتقاعسها عن القيام بمهامّها.
أياما بعد فرض التدابير الاستثنائية، استقبل قيس سعيّد رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة يوم 28 جويلية 2021، مستعرضًا أمامه حصيلة تقرير اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الفساد والرّشوة أو ما يُعرف اختصارًا بـ”تقرير عبد الفتّاح عمر“ قائلا إنّ ”عدد الّذين نهبوا أموال البلاد 460 بناء على هذا التقرير. والمبلغ الذي كان مطلوبًا منهم، والرقم لأحد رؤساء الحكومات السابقين، 13500 مليار، ولديّ قائمة في الأسماء“. وكان هذا اللقاء فرصةً لإعلان الصلح الجزائي مع المتورّطين لإعادة استثمار أموالهم في مشاريع تنمويّة وتجنّب المرور عبر المسار القضائي.
مؤسّسات كثيرة وتنسيق قليل
توصّلت الدّولة التونسية، بمساعدة دوليّة من منظمة الأمم المتحدة والبنك الدّولي عبر مبادرة ”ستار“، إلى تحديد الأموال المودعة بالبنوك في الخارج بقيمة 80 مليون دولار أمريكي (242 مليون دينار تونسي). كما تمكّنت تونس من استرجاع 28.8 مليون دولار أمريكي، أي ما يناهز 87 مليون دينار تونسي، في أفريل 2013، كانت ”مخبّأة في حساب بنكي لبناني“ لفائدة ليلى الطرابلسي. كما تمّ فتح حساب خاصّ في أكتوبر 2011 بمقتضى مرسوم الماليّة لسنة 2012 يسمّى ”صندوق الأموال والممتلكات المصادرة أو المسترجعة لفائدة الدّولة“. وقد بلغت عائدات هذا الصندوق 1827 مليون دينار إلى حدود أكتوبر 2020، ضُخَّ منها 1714 مليون دينار في ميزانية الدولة، أي ما يعادل 94% من جملة المقابيض.
منذ 2011، تمّ إحداث ثلاث لجان معنيّة بإجراءات تجميد الممتلكات والأموال والتصرف فيها. أولها لجنة المصادرة المحدثة ضمن وزارة أملاك الدّولة والشؤون العقارية، بالمرسوم عدد 13 لسنة 2011. تتولى هذه اللجنة مصادرة الأموال الراجعة للرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وزوجته، إلى جانب 112 اسمًا ملحقًا بالمرسوم. وإلى حدود جوان 2021، بتّت اللجنة في 6343 ملفًّا أفرز 2719 قرار مصادرة لممتلكات الأشخاص المعنيّين بهذا المرسوم، البالغ عددهم 114 شخصًا، إلى جانب نشر 1570 قضيّة لدى المحاكم العدليّة والإدارية، وفق ما ذكره وزير أملاك الدّولة بالنيابة أحمد عظوم خلال جلسة استماع في لجنة الإصلاح الإداري بالبرلمان المنحلّ في 7 جوان 2021.
كما تمّ إحداث ”اللجنة الوطنيّة لاسترجاع الأموال الموجودة بالخارج والمكتسبة بصفة غير شرعيّة“ لدى البنك المركزي بمقتضى المرسوم عدد 15 لسنة 2011. وقد حدّد المرسوم مدّة عمل هذه الهيئة بأربع سنوات، تنتهي بحلول شهر مارس من سنة 2015، تمّ خلالها استرجاع الأموال من البنوك اللبنانية بمساعدة أمميّة.
في جويلية 2011، أُحدثت ”اللجنة الوطنية للتصرّف في الأموال والممتلكات المعنية بالمصادرة أو الاسترجاع لفائدة الدولة“ برئاسة وزير المالية، بمقتضى المرسوم عدد 68 لسنة 2011. تتولّى هذه اللجنة بالخصوص ”التصرّف في محفظة الأوراق الماليّة والحقوق المرتبطة بها والحصص والسّندات والممتلكات العقّاريّة والمنقولة المعنيّة بالمصادرة أو الاسترجاع“. وإلى حدود سنة 2020، أصدرت اللجنة 124 قرارًا متعلّقا بمصادرة صكوك بنكية و93 قرارًا متعلّقا بحسابات بنكيّة و26 قرارًا متعلّقًا بالسيولة النقديّة. وكانت هناك مبادرة تشريعيّة تُناقَش في مجلس وزاري تهدف إلى إحداث وكالة وطنيّة لتوحيد الهياكل المعنيّة بالمصادرة والتصرف والاسترجاع، إلاّ أنّها لم تودع في البرلمان. كما تقدّم عدد من نواب البرلمان المنحلّ بمبادرة تشريعيّة تتعلق بالتصرف في الأموال والممتلكات المصادرة الجارية واسترجاعها لفائدة الدولة.
يبقى تتبّع مآل الأموال المنهوبة واسترجاعها والتصرف فيها، عمليّة معقّدة بسبب تشتت الحسابات البنكية لذوي الشبهة وتفرّعها على دول عدة مثل كندا وسويسرا ولبنان، كما أن اختلاف الأطر القانونية من دولة إلى أخرى وطول إجراءات التقاضي يزيد الأمر تعقيدا،إلا أن كل ذلك لم يشفع للقضية بإبعادها عن دائرة التوظيف السياسي، لتضيع الفرصة تلو الأخرى منذ 2011 مع مختلف الحكومات، للتعامل الناجع مع ملف الأموال المنهوبة إلى أن بدأ الأمر يتحول إلى مطاردة سراب يبتعد كل ما اقتربنا منه.
iThere are no comments
Add yours