لكنّ توقيت اختيار حلّ المجالس البلديّة، بمقتضى مرسوم صدر في 8 مارس 2023 قبل بضعة أشهر من انتهاء عهدة المجالس البلديّة المُنتخَبة، يدعو إلى التساؤل حول سبب العجَلة في اتّخاذ هذا القرار. ولكنّ المؤكّد أنّ الرئيس يريد إرساء أسس البناء القاعدي الّذي لا يمكن أن يكون في ظلّ بلديّات منتخَبة بمقتضى مجلّة الجماعات المحليّة بناءً على روح دستور 2014. ففلسفة المجالس المحليّة المُنتخَبة والّتي قام قيس سعيّد بحلّها بُنيت على مبدأ التدبير الحرّ والاستقلاليّة الإدارية والماليّة للبلديّات وتوزيع الصلاحيّات بينها وبين السلطة المحليّة، دون اضطلاعها بمهام تشريعية. في حين أنّ هيكلة النّظام القاعدي ليست واضحة، ولا يوجد تنصيص صريح على مبدأ الاستقلالية الإدارية والماليّة للبلديّات أو للمجالس المحليّة الأخرى.
البلديات، عملاق من ورق
منذ اتّخاذ تدابير 25 جويلية 2021، أصبح شبح وحدة الدّولة مهيمنا بشكل يعكس رغبة السّلطة في استعادة نفوذ الرجل الواحد الّذي لا يضع المسؤوليّة في متناول “القُصَّر”. “هناك استعادة للعقل الإداري القديم في التعاطي مع المسألة المحليّة من خلال استرجاع وزارة الداخلية كسلطة إشراف على الشؤون المحليّة”، يقول عبد الرزاق المختار، أستاذ القانون الدستوري في ندوة نظّمتها الجامعة الوطنية للبلديّات التونسية يوم 21 فيفري 2023.
أدرج الأمر 117 لسنة 2021 المتعلّق بالتدابير الاستثنائية في فصله الخامس السلطة المحليّة ضمن التدابير الخاصّة بممارسة السلطة التشريعية، أي في مجال تطبيق القانون وإصدار المراسيم. هذا الإدراج مهّد لتدخّل قيس سعيّد بصفته محتكرًا للسلطتَين التنفيذية -برأسيها- والتشريعية للتدخّل في البلديّات. قرار تأكّد من خلال صدور أمر رئاسي في نوفمبر 2021 تمّ بمقتضاه حذف وزارة الشؤون المحليّة وإلحاق صلاحياتها وهياكلها بوزارة الداخليّة، ما يعني إلغاء توجّه الدّولة في اعتبار هذا الإصلاح كأولويّة واضحة في سياساتها العموميّة.
تعزّز تدخّل السلطة التنفيذيّة في الشأن المحلّي من خلال إعفاء رئيس بلديّة بنزرت بأمر رئاسي صدر في 28 نوفمبر 2022، ” لثبوت ارتكابه لأخطاء جسيمة تنطوي على مخالفة للقانون والإضرار الفادح بالمصلحة العامة”، وفق ما جاء في نصّ الأمر الرئاسي. هذا الإعفاء هو تتويج لعلاقة متوتّرة بين رئيس البلدية والوالي، بدأت منذ أكثر من سنة، حين تقدّم والي بنزرت بمراسلة رسميّة إلى رئيس البلديّة يُطالبه فيها بضرورة وضع عبارة “وزارة الداخلية” في عنوان المراسلة، على اعتبار أنّ الشؤون المحليّة أُلحقت بالداخليّة ولم تعد مُفردة بوزارة خاصّة بها، مذكّرًا بضرورة “احترام التسلسل الإداري في توجيه المراسلات”. تصاعد الخلاف حين رفض رئيس البلديّة كمال بن عمارة “تعليمات” الوالي بتزيين مدخل مدينة بنزرت بمناسبة ذكرى الجلاء استعدادًا لاستقبال رئيس الدّولة. وقد يكون رفض رئيس البلديّة تجميل مدخل المدينة قد تكيّف على أنّه “خطأ جسيم” يستوجب الإعفاء.
أما كمال الفقي والي تونس، كان قد أصدر في 21 جوان 2022 مذكرة تلزم كل البلديات الراجعة بالنظر للولاية بانتظار موافقته على كل قرارات الهدم قبل تنفيذها. مذكرة ألزمت بلدية تونس بإيقاف تنفيذ قرار هدم مستوصف بشارع المحطة بالعاصمة، دون اللجوء إلى المحكمة الإدارية وبطريقة فوقيّة لم تحترم التسلسل الإداري.
بيروقراطية قاعديّة وصلاحيات متداخلة
كانت هندسة السلطة المحليّة واضحة المعالم، تنطلق من البلديات وصولا إلى الجهات ثمّ إلى الأقاليم. البناء اللامركزي لم يكتمل، فالمسار توقف عند انتخاب مجالس بلديّة، فيما بقيت الهياكل الأخرى مُعلَّقة. في الأثناء، تحدّث قيس سعيّد في مناسبات عديدة عن البناء القاعدي وعن ضرورة صياغة المناويل التنموية من القاعدة وصولا إلى المستوى الوطني. فجاء المرسوم المتعلّق بتنظيم انتخابات المجالس المحليّة وتركيبة المجالس الجهوية للجهات والأقاليم، مقدما تصوّرًا جديدًا فيما يُسمَّى بالبناء القاعدي، يبدأ بانتخاب أعضاء المجالس المحليّة الّتي تنتظم على مستوى العمادات، وهي أصغر تمثيل إداري للدولة، من خلال الاقتراع على الأفراد.
وعند انتخاب أعضاء المجالس المحليّة يتمّ تنظيم قرعة بينهم لعضوية المجلس الجهوي، يتناوبون عليها كلّ ثلاثة أشهر. يتمّ بعد ذلك اختيار أعضاء مجلس الإقليم من بين أعضاء المجالس الجهوية التابعة له، ومن ثمّ يتمّ تقديم الترشحات لعضوية مجلس الجهات والأقاليم، لأعضاء المجالس الجهوية أو مجالس الأقاليم. وتُعهَد إلى مجلس الجهات والأقاليم، وفق الفصل 85 من دستور أوت 2022 مشاريع القوانين المتعلّقة بالميزانيات ومخططات التنمية ويضطلع بمهمّة رقابية في مجال تدخّله.
استغلّ قيس سعيّد عديد النقاط لصالحه، مثل ضعف الأداء البلدي وتراكم الأوساخ وعدم انتظام رفع الفضلات والانحلال المتواتر لأكثر من 35 مجلس بلدي منذ سنة 2019، واستثمر في ضعف السلطة المحليّة التي أنهكتها الإدارة والقوى السياسيّة ليطبّق حلمه في إرساء الديمقراطية القاعدية.
قيس سعيّد الذي طالما انتقد بحدّة الأجسام الوسيطة يرسي الآن ترسانة من الوسائط تنطلق من البلديات والمجالس المحليّة والمجالس الجهوية ومجالس الأقاليم ومجلس الجهات والأقاليم الذي يمثل الغرفة التشريعية الثانية، إلى جانب مجلس نوّاب الشعب. فهل يكمن الإشكال في الأجسام الوسيطة التي تجاوزها الزمن ولم تعد تلبي انتظارات المواطنين، على حد تعبير الرئيس، أم أن الاشكال الحقيقي يكمن في درجة ولائها وخضوعها للسلطة السياسية المركزية الممثلة اليوم في رئاسة الجمهورية ؟
iThere are no comments
Add yours