علق الرئيس قيس سعيد على نتائج الدور الثاني للانتخابات التشريعية بطريقته المعتادة: إنكار للواقع وعزوف التونسيين عن المشاركة في الاقتراع وتحميل المسؤولية لمنظومة ما قبل 25 جويلية، فقد اعتبر أن عمقه الشعبي أكبر بكثير من عمق المعارضة وأن عزوف قرابة 90% من التونسيين يجب أن يُقرأ بطريقة معكوسة، أي أن البرلمانات السابقة كانت سببا في انعدام ثقتهم في المؤسسة التشريعية. وبطبيعة الحال لا يفوته أن يتهم خصومه بالتخوين والتآمر والارتماء في أحضان الأجنبي على حد قوله.

لا تراجع عن النهج الانفرادي

في العادة تكون نتائج الانتخابات في كل دولة مقياسا لشرعية السلطة وامتحانا لها، بالإضافة إلى كونها تتضمن أرقاما ومعطيات يجب على الحكام دراستها بالتحليل والنقد وما يتبعه من تعديل في السياسات والخطط والتوافقات. لكن قيس سعيد لا يعترف بأي خطأ ارتكبه راميا الكرة في ملعب الخصوم، وجل ما  جاد به تعليقا على نتائج الانتخابات هو فيديو دعائي لزيارته قصر الحكومة بالقصبة، قال فيه إنّ

“البعض سيعلق على الأرقام بطريقته لكن هذا لا يعنينا في شيء ولا يثير ذلك إلا الازدراء والاحتقار فعمقنا الشعبي أكبر من عمقهم، وما يقومون به اليوم هو بمثابة خيانة عظمى للشعب التونسي فضلا عن ارتمائهم في أحضان الأجانب”.

قد نسرد في هذا السياق الكثير من التصريحات والوقائع التي تعبر عن عقلية انفرادية عبثية اقصائية وشعبوية يدير بها الرئيس شؤون الحكم، لكن المؤكد أن الرئيس لا يخفي شيئا في جعبته لمواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية ونسب المشاركة الهزيلة، غير المنطق التآمري الذي يحصر مشكلة نقص المواد الأساسية في الاحتكار والمضاربة والخيانة العظمى والتنكيل بالشعب. رئيس لا يقترح شيئا للخروج من هذا المأزق سوى مليارات المليارات التي ستتدفق على خزينة الصلح الجزائي، بالإضافة إلى الشركات الأهلية التي ستحدث نهضة اقتصادية والمقاربة الجديدة التي يجب أن تعتمدها تونس، دون أن نعلم شيئا عن ملامح هذه المقاربات الجديدة.

هذا التخبط والعبث فاقم من حدة الأزمة وزاد من مخاوف المانحين بخصوص قدرة تونس على الإيفاء بتعهداتها وعمق الانقسام السياسي والمجتمعي، مع غياب أي أفق لحل سياسي يبادر به الرئيس تبقى هذه الوضعية الكارثية مرشحة للتدهور أكثر فأكثر.

لن تتغير وجهة نظر الرئيس رغم أن التجربة أثبتت فشل اغلب خطواته باعتراف مباشر منه، لعل آخرها فكرة الانتخابات على الأفراد في دوائر ضيقة التي يعتقد أنها ستفرز تمثيلية شعبية أكبر من الانتخاب على القائمات، وكل المؤشرات تدل على أنه سيواصل اعتماده على الأجهزة الصلبة للدولة (الأمن والجيش والقضاء) لإدارة الشأن السياسي.

ذلك أنّ ظهوره بعد الدور الثاني للانتخابات كان في ثكنة العوينة أمام القيادات الأمنية العليا، حيث توجه بخطاب حاد للنقابيين ودعوة القوات الأمنية والعسكرية للقيام بدورها لتتبع المجرمين والمخربين، في حين خيّر الظهور أمام مجلس الأمني القومي عقب الدور الأول لمهاجمة مبادرة الحوار الوطني ومعها بقية خصومه السياسيين. حتى فقد الجميع الأمل في أن يراجع الرئيس موقفه وخياراته ويضعها موضع النقد، بل أن فشل خياراته التي تزيد من عزلته يجعل منها حافزا لتحريض الأجهزة الصلبة على التصدي لخصومه السياسيين وبقية شركاءه في الوطن، وإعطاء الضوء الأخضر لشن محاكمات سياسية وما يتبعها من انتهاكات لحقوق الانسان وحق المواطنين في التعبير والمشاركة في تقرير مصير البلاد.

رفض “مبدئي” لمبادرة الحوار الوطني

في هذا السياق المعقد برزت مبادرة الحوار الوطني، بلورتها منظمات وطنية (اتحاد الشغل وعمادة المحامين ورابطة حقوق الانسان ومنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية)، بهدف التقاء القوى حول أرضية تنهي الأزمة والانقسام السياسي. مبادرة توجهت بها المنظمات إلى السلطة لتتبناها وتدعو إلى حوار وطني شامل، لكن الرئيس انتقدها بشدة وهاجم المنظمات بحجة أن “الحوار لا يجب أن يكون خارج إطار مؤسسات الدولة”.

رغم أن ملامح المبادرة لم تتضح بعد ولم تظهر خطواتها العريضة إلى العلن، إلا أن طريقة تعامل السلطة معها تقودها نحو طريق مسدود، باعتبار ضرورة تواجد السلطة كشريك في الحوار السياسي الشامل. كان حريا بقيس سعيد أن يكون هو المبادر بالدعوة لحوار وطني ينهي به الانقسام، لكن المبادرين بصدد إعداد أرضية سياسية اقتصادية اجتماعية للحوار المنشود. أمر زاد من منسوب الحدة في خطاب الرئيس ودفعه إلى تبني خطاب معاد للاتحاد العام التونسي للشغل.

ذلك بالإضافة إلى اتخاذ خطوات استفزازية، كإيقاف كاتب عام نقابة الطريق السيارة وتعيينم حمّد علي البوغديري، العدو اللدود لأمين عام الاتحاد، وزيرا للتربية أو استدعاء “النقابات الموازية” إلى قصر الحكومة بالقصبة وتمكينهم من الاقتطاع الآلي للمنخرطين… وغيرها من الخطوات التصعيدية التي قد تدفع بالاتحاد إلى التصعيد من جانبه وبالتالي إفشال أي افق لحل سياسي للازمة التي ترتهن البلاد.

هذا الخطاب الذي تنتهجه السلطة لا يساهم إلا بمزيد توتير المناخ السياسي العام وتعميق الانقسام السياسي الحاد الذي تعيشه تونس منذ أكثر من سنة ونصف، فضلا عن عدم توفره على إجابات تهم التونسيين مباشرة: أي أفق لتجاوز الأزمة السياسية والاقتصادية؟ ماذا أعدّ رئيس الجمهورية لمجابهة الأوضاع الصعبة وتأثيرها على التوازنات المالية والميزانية والفقدان المتواتر للمواد الأساسية، إضافة إلى الاحتجاجات القطاعية النقابية والاجتماعية التي تندلع بين الحين والآخر في مختلف القطاعات والجهات؟ وخاصة كيف سيتفاعل قيس سعيد مع مبادرة،في تبنيها إقرار بفشل منهجه الفردي؟