على الطريق الذي يعرف باسم طريق وادي الليل، يؤدي المنعرج الأول له إلى شارع طويل لتلة قليلة الارتفاع، والتي تسمى بحي دوار هيشر المأهول بما يقارب 87 ألف ساكن. يسمى ذلك الشارع بشارع الشهداء، ويعرف أيضا لدى سكان الحي باسم ”شارع خمسة وخمسين“ نسبة إلى الحافلة رقم 55 التي تمرّ من هناك.
حراك من رحم المعاناة
يحمل شارع 55 جزءا كبيرا من هموم سكان حي دوار هيشر، مشاغل تتعلق بفك عزلة الحي عبر توفير حافلات وعربات نقل جماعي حتى يسهل التنقل من الحي إلى الأحياء والمدن المجاورة له، وتجهيز مركز صحي يستجيب لحاجيات السكان الأساسية، إضافة إلى إيجاد حلول فعلية لمشكل البطالة. من رحم هذه المعاناة أطلق نشطاء “المفروزون اجتماعيا”، تنسيقية انطلقت في تحرّكاتها منذ 17 ديسمبر 2018 في منطقة دوّار هيشر بولاية منوبة.
خاض ”المفروزون اجتماعيّا“ جملة من التحركات، هدّدوا من خلالها بالدّخول في إضراب عام في مارس 2019 على خلفيّة عدم التزام الحكومة بالاتفاق المبرم بينها وبين السلطة الجهوية مُمثَّلةً في الولاية، إلى جانب غلق الطريق الوطنية رقم 7 في نوفمبر 2020 للسّبب ذاته. كما نفّذ أعضاء التنسيقيّة والمتساكنون وقفة احتجاجيّة انطلقت من البلديّة في اتّجاه مقرّ الولاية في نوفمبر 2021 لمطالبة الحكومة بالإيفاء بتعهّداتها وتذكيرها بمختلف المطالب الاجتماعيّة لأبناء المنطقة، والمتعلّقة أساسًا بـرخص النقل الجماعي وبطاقات العلاج والمنح الاجتماعية ودعم موارد الرزق وتحسين المسكن ورخص التبغ ومضاعفة المساعدات الاجتماعية للعائلات المعوزة. وتجّددت التحرّكات في أفريل 2021 بالتزامن مع شهر رمضان وارتفاع أسعار الموادّ الاستهلاكية عبر تنظيم إفطار جماعي أمام مقرّ البلديّة. ولعلّ آخر التحرّكات التي خاضها المفروزون اجتماعيّا في سبتمبر الجاري والتي توعّد منسّقها علي بوزوزيّة بمواصلتها بشكل أسبوعيّ تنذر بانتشار عدوى الاحتجاج إلى الأحياء والمناطق المجاورة.
يقول الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم لموقع نواة:
إن الحي يعاني مشاكل حقيقية، أبرزها الوصم. ففي بداية العام 2011، توجهت مجموعة من سكان الحي بطلب للسلطات بتغيير اسم الحي حتى يتخلصوا نهائيا من لعنة اسمه، غير أن التعقيدات الإدارية بخصوص استبدال بطاقات الهوية حالت دون تحقيق ذلك المطلب.
ويضيف الباحث أن الحي يعاني ثلاثة مشاكل حقيقية وهي الكثافة السكانية العالية جدا التي تقارب 8 آلاف ساكن في الكيلومتر مربع، والبنية التحتية المهترئة رغم ان الحي انتفع في العام 2015 بمشروع الوقاية من الفيضانات. أما المشكل الثالث فهو ارتفاع نسبة البطالة.
رأفت البالغ من العمر أربعين عامًا، شاب عاطل عن العمل من سكان الحي، يروي قصته بغضب كبير ويقول لـنواة:
كنت أعمل ميكانيكيا وفقدت عملي، بحثت كثيرا عن عمل خارج الحي لكن بمجرد الاستظهار ببطاقة هويتي التي تحيل إلى إقامتي بدوار هيشر، تُغلق الأبواب في وجهي. فقدت الأمل فاتفقت مع زوجتي على الطلاق حتى نضمن على الأقل الأكل والشرب، كلّ في منزل والديه. لدي ابن في السنة التحضيرية ولم أتمكن من شراء كتب له حتى الآن، كل ما أطلبه هو عمل ودفتر علاج، الذي لم أتلق منذ 2018 إجابة على طلبي من أجل الحصول عليه.
الحي يحصد سموم الدولة
في العام 1792، أنشأ حمودة باشا الحسيني، خامس بايات تونس، ما يُعرف ب ”سبيل حمودة باشا“، والذي بقيت بعض آثاره بالقرب من مدخل مستشفى القصاب الآن، وهو منشأة مائية لربط الحاضرة بضواحي منوبة، وكانت تلك المحطة المائية أيضا شبيهة بمركب ترفيهي يضم مقهى وحوضي ماء وناعورة وبئر يسقي سكان ضواحي منوبة بالماء الصالح للشراب. اندثر المقهى والمسجد في تلك المحطة المائية، ولم تبق منه سوى بعض الشواهد عليه ونقش تذكاري يؤرخ لبناء تلك المحطة.
ورغم مرور قرابة القرنين ونصف على بناء ذلك المشروع في ضواحي منوبة، يمكن القول دون مبالغة إن ”سبيل حمودة باشا“ قد يكون المشروع ”الترفيهي والتنموي“ الأفضل الذي استفادت منه الأحزمة الشرقية المحيطة بمدينة منوبة، وهي بالأساس أحياء الهامش التي بدأت تتشكل في بداية سبعينات القرن الماضي، ومنها حي دوار هيشر.
يقول أحمد، أحد متساكني الحي لموقع نواة:
بتجاهلها للحي، تزرع الدولة السموم في الحي وفي أذهان أبنائه منذ الصغر، عوضا عن غرس الأشجار والمساحات الخضراء التي تعطيهم هامشا من الهواء وسط الوضع الخانق. هل يُعقل أن تهمل الدولة الأطفال بهذه الطريقة؟
يواصل أحمد سيره متحدثا بحنق عن المنتزه الوحيد الذي أحاطت به أكوام من القمامة ”تلك هي المساحة الوحيدة التي من المفترض أن تجمع العائلات مع أطفالهم لكن المنتزه أصبح مضافة للكلاب السائبة ومصبا للفضلات.
يقاطع صوت أطفال حديث أحمد وهم يهتفون فرحا ”رجعولنا المنتزه. رجعولنا المنتزه“. ظن بعضهم حين شاهد المصوّر بالكاميرا أن أحد المسؤولين زارهم وأن موعد إعادة تأهيل المساحة الخضراء الوحيدة قريب.
منشآت صحية ومرافق أساسيّة مفقودة
في الواقع لا يختلف حال المنتزه عن حال الوحدة الصحية الوحيدة بالحي. فالشطر الجنوبي لسور المنشأة الصحية يكشف عن مصب للقمامة في باحة المستوصف، ويمكن لأي مار أن يلقي نظرة من الثقب الكبير الذي يشق السور ليتبين حال تلك المنشأة. يقول ماجد المناعي ”السلطات تجاهلتنا رغم أن مطالبنا بسيطة جدا. نطالب بحقنا في مستوصف به أقسام أساسية وأدوية وفضاء للترفيه عن العائلات والأطفال وخطَّي حافلة وتاكسي جماعي تفك عزلتنا حتى نبحث عن آفاق أوسع للعمل بعيدا عن زوارق الحرقة“.
تبلغ نسبة البطالة في دوار هيشر 21.22% من مجموع السكان النشطين بين 15 و29 سنة حسب دراسة للمرصد الوطني للشباب في العام 2014، كشفت أن نسبة الأمية تبلغ 20.46% لدى الفئة ذاتها.
يقول عادل لموقع نواة، وهو شاب فقد ساقه اليمنى، إنه لا يستطيع ”فك الحرف“ رغم أن عمره لم يتجاوز الأربعين عاما ويضيف ”لم أسجل بأي مدرسة حين كنت صغيرا لأن والدي لم يكن يملك المال لينفق مصاريف إضافية على الأكل والشرب“. ويضيف ”أنا متزوج وأعيل خمسة أطفال، تمنحني الدولة منحة شهرية قيمتها مائتين وثلاثين دينار وأستأجر شقة بقيمة مائتين وخمسين دينار. لا أريد أن يعيش أطفالي الخمسة تجربتي مع الأمية خاصة أنني غير قادر على توفير أي كتاب لهم الآن“.
يقاطعه أحمد، وهو اسم مستعار، لكهل يقارب الخمسين من العمر، قائلا ”مسألة شراء الكتب هي موضوع ثانوي خاصة بالنسبة إلى عائلة تتكون من ستة أفراد. مشاكل الحي كثيرة ولكنّ الأهم هو مشكل البطالة والتهميش، تصوّروا أن أبناء الحي لا يجدون أية مساحة خضراء أو فضاء للعب مثل أي طفل عادي، فهم ينتظرون الليل حتى تهدأ حركة المرور ليرسموا بالطباشير مربعات على الأرض ويلعبون في أنهج وشوارع الحي“.
العد التنازلي لثورة الجياع
منذ العام 2018، فوّض سكان حي دوار هيشر جمعًا من أبناء الحي من أجل رفع مطالبهم للسلطات الجهوية بولاية منوبة ولحكومة الشاهد آنذاك. ويقول ماجد المناعي وهو أحد أعضاء حملة المفروزين اجتماعيا في تصريح لـنواة، إنّ أعضاء الحملة تقدّموا بملف يتضمن حلولا من أجل ربط دوار هيشر بالعاصمة من جهة وبمحطة ”ميترو سليمان كاهية“ من جهة أخرى، بتوفير رخص للتاكسي الجماعي وخط يربط الحي بمنطقة الشرقية وهي أكبر وجهات العمال من دوار هيشر. ويضيف: ”رغم أننا طرحنا الحلول لهذا المشكل منذ أربع سنوات، إلا أننا لم نتلق إجابة من السلطات الجهوية أو المركزية“.
يقطع ماجد المناعي يوميا مسافة ساعة من المشي نحو عمله بسبب عدم توفر عدد كاف من سيارات التاكسي الجماعي التي تعوضها وسائل النقل العشوائية التي تُعرف بـ”الـكلاندو“ وبسبب خيار يتخذه سائقو الحافلتين 55 و56 بإنزال الركاب في مدخل دوار هيشر عوضا عن المحطة الرئيسية في آخر شارع الشهداء داخل الحي.
لم تتمكن نواة من الحصول على إجابة من ولاية منوبة رغم محاولاتنا المتكرّرة التواصل مع المسؤولين طيلة أسبوع كامل.
تضع تنسيقة المفروزين اجتماعيا يدها على حناجر أبناء الحي لتهدئتها، ومنحت مهلة قريبة الأجل للدولة حتى تستجيب لمطالبها. يقول ماجد المناعي ”أعتقد أن علي بوزوزية، الذي كان ناشطا في الاتحاد العام لطلبة تونس، قد قدم خدمة جليلة للدولة حين تسلم مهمة نقل مطالب سكان دوار هيشر للسلطات المعنية، وقد أذعنوا لطلبه بأن تجمع المطالب في إطار التنسيقية بفضل ثقتهم به، لكن لا أحد يضمن متى ينفذ صبرهم“.
مثّل حيّ دوّار هيشر مادّة دسمة للبحوث والدراسات في علم الاجتماع لفهم ظواهر ”التطرّف العنيف“ وتحديد أسبابه، خاصّة بعد تعدّد الأحداث الإرهابية التي شهدتها المنطقة منذ 2012 حين تمّت مداهمة منازل أحد العناصر التكفيريّة والقبض على عدد من المنتمين إلى التيارات التكفيريّة إلى حدود سنة 2016. أضف إلى ذلك غياب المرافق الأساسية وضنك المعيشة الّلذان قد يكونان أحد أسباب الارتماء في أحضان التطرف. في الواقع، لا أحد يعلم متى تنفجر صدور أغلب التونسيين. غير أن العام 2023 ينبئ بشتاء ساخن، في ظل انحدار حاد في مستوى المعيشة في أغلب المدن التونسية، وغياب حلول ووعود مطمئنة للتونسية بانفراج قريب أو متوسط المدى للأزمة الاجتماعية الخانقة. أزمة قد تشعل ”ثورة الجياع“ والتي يتنبأ سكان حي دوار هيشر بانطلاقها من حيهم.
iThere are no comments
Add yours