صدر يوم الأربعاء 22 ديسمبر حكم غيابي على محمّد المنصف المرزوقي يقضي بسجنه مدّة أربع سنوات مع النفاذ العاجل، وذلك إثر إصدار بطاقة جلب دوليّة ضدّه على خلفيّة تصريحاته على قناة فرانس 24، والّتي عبّر فيها عن فرحه بقرار تأجيل القمّة الفرنكفونيّة التي كانت ستنعقد بجربة في نوفمبر الماضي. وأثارت هذه التصريحات ردود فعل مستنكرة، خاصّة من رئيس الدولة قيس سعيّد، الّذي أوصى وزير العدل في أحد الاجتماعات بضرورة رفع دعوى قضائيّة ضدّ من يتآمرون على تونس في الخارج. واعتبر غازي الشواشي الأمين العامّ لحزب التيّار الديمقراطي هذا الحكم “مهزلة” و”فضيحة”، لأنّه لا يستجيب لشروط المحاكمة العادلة التي تفترض سماع المتّهم قبل الحكم عليه.

تواتر استخدام فصول معادية للحريات

منذ اّتخاذ التدابير الاستثنائية في إطار المنعرج 80، تتالت الإيقافات والمحاكمات أمام القضاء العسكري، الّتي واجهت موجة من الرفض والاستنكار من معارضي قيس سعيد وحتى في صفوف مؤيديه، الرافضين لمثول المدنيين أمام المحاكم العسكرية رفضا مطلقًا، سواء كان ذلك قبل منعرج خمسة وعشرين جويلية أو بعده، نظرا لتواتر استخدام فصول معادية للحريات في مثل هذه القضايا.

وقد أصدر الائتلاف من أجل الأمن والحريّات تقريرا رصد فيه أهمّ الإخلالات الحاصلة منذ تفعيل الفصل 80 من الدستور وإصدار الأمر الرئاسي عدد 117 الصادر بتاريخ 22 سبتمبر 2021، والتي تهدّد دولة القانون والمؤسسات، مثل إجراءات تحجير السّفر والإخضاع للإقامة الجبريّة وإحالة مدنيّين ونوّاب شعب مُجمَّدين وإعلاميّين على القضاء العسكري. حيث طالت هذه المحاكمات عضو البرلمان المجمد عن ائتلاف الكرامة عبد اللطيف العلوي ومقدم البرامج في قناة الزيتونة عامر عياد، وهما في حالة سراح الآن في انتظار تعيين جلسة المحاكمة، بالإضافة إلى المدون سليم الجبالي والنائب ياسين العياري.

القضاء العسكري ضدّ المدنيّين: توظيف سياسي؟

باستثناء القضية المعروفة إعلاميا باسم “حادثة المطار” والتي يُحاكم فيها نواب عن ائتلاف الكرامة (سيف الدين مخلوف وعبد اللطيف العلوي وماهر زيد وراشد الخياري وغيرهم) والمحامي مهدي زقروبة، فإن بقية القضايا التي نظرت فيها المحكمة العسكرية الدائمة بتونس 1 هي قضايا رأي واعتمدت فيها المحكمة على فصول فضفاضة مثل الإساءة للجيش وإتيان أمر موحش في حق رئيس الجمهورية وإضعاف معنويات المؤسسة العسكرية، وغيرها من التهم المتخلفة التي يمكن أن يواجهها كل مواطن في يوم من الأيام من أجل تدوينة أو تصريح أو مقال.

ويعتمد القضاء العسكري في جميع القضايا المرفوعة ضد مدنيين على الفصل 91 من مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية والذي ينص على أنه

يعاقب بالسجن من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات كل شخص عسكري أو مدني تعمد بالقول أو بالحركات أو بواسطة الكتابة أو الرسوم أو الصور اليدوية والشمسية أو الأقلام بمحل عمومي تحقير العلم أو تحقير الجيش والمس من كرامته أو سمعته أو معنوياته أو يقوم بما من شأنه أن يضعف في الجيش روح النظام العسكري والطاعة للرؤساء أو الاحترام الواجب لهم أو انتقاد أعمال القيادة العامة أو المسؤولين عن أعمال الجيش بصورة تمس كرامتهم.

هذا الفصل استغلته السلطة في تونس في مختلف العهود وخاصة منذ انفراد قيس سعيد بالسلطة وذلك من خلال تطويع القضاء العسكري لمعاقبة مدنيين عارضوا بشدة إجراءات 25 جويلية.

فقد أصدر قاضي التحقيق العسكري قرارا بختم البحث في قضية عامر عياد (الذي أطلق سراحه على أن يبقى على ذمة القضية) وعبد اللطيف العلوي ووجّه لهما تهما تتعلق بارتكاب فعل موحش في حق رئيس الجمهورية ونسبة أمور غير صحيحة الى موظف عمومي دون تقديم ما يثبت صحتها والمس من معنويات الجيش الوطني. وذلك على خلفية تصريحات أدلى بها المتهمان في برنامج تلفزيوني على قناة الزيتونة.

في إطار مشابه، أوقف القضاء العسكري النائب المجمد ياسين العياري بالسجن تنفيذا لحكم قضائي صادر عن محكمة الاستئناف العسكرية بتاريخ 6 ديسمبر 2018. وحسب الوكالة الدولة العامة للقضاء العسكري فإن العياري حُوكم من أجل “المشاركة في عمل يرمي الى تحطيم معنويات الجيش بقصد الاضرار بالدفاع والمس من كرامة الجيش الوطني ومعنوياته”، وذلك على خلفية المرسوم الرئاسي الذي رفع بمقتضاه قيس سعيد الحصانة عن أعضاء مجلس نواب الشعب.

من جهتها انتقدت منظمة العفو الدولية “الارتفاع المقلق في عدد المدنيين الذي يَمْثلون أمام المحاكم العسكرية”، وأضافت “في الأشهر الثلاثة الماضية وحدها فاق عدد المدنيين الذين مثلوا أمام المحاكم العسكرية عددهم في السنوات العشر السابقة مجتمعة”. حيث سجلت المنظمة بين عامي 2011 و2018 ما لا يقل عن ست حالات لمدنيين مثلوا أمام القضاء العسكري وقد تم تجاوز هذا العدد في الأشهر الثلاثة الماضية وحدها حسب بيان المنظمة.

ترسانة قانونية معادية للحقوق والحريات

تسمح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية التونسية لنظام القضاء العسكري بمحاكمة المدنيين في ظروف محددة، كما يمنح القانون رئيس الجمهورية صلاحيات مطلقة في تعيين القضاة وممثلي النيابة العمومية في المحاكم العسكرية باقتراح من وزيري العدل والدفاع. في حين تشدد المواثيق الدولية على عدم إحالة المدنيين أمام القضاء العسكري مهما كانت التهم الموجهة إليهم.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأطراف السياسية وعلى رأسها حركة النهضة التي كانت حاضرة بقوة في البرلمان طيلة عشر سنوات، والتي ترفع صوتها عاليا اليوم ضد المحاكمات العسكرية للمدنيين، كانت أمام فرص كثيرة لتنقيح القوانين التي تسمح بإحالة المدنيين أمام القضاء العسكري انسجاما مع الفصل 110 من الدستور الّذي ينصّ على تخصّص المحاكم العسكرية في الجرائم العسكرية دون سواها، على أن يضبط القانون اختصاصها وتركيبتها والإجراءات المُتّبعة أمامها، وهو ما لم يتمّ الشّروع فيه إلى الآن. وكانت الكتلة الديمقراطية قد تقدمت، خلال المدّة النيابية الأولى (2014-2019)، بمبادرة تشريعية تتعلق بتنقيح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية لملاءمتها مع الدستور الجديد خاصة في فصلها الخامس والذي يضبط اختصاصات المحكمة ومجال تدخلها. واقترح المبادرون بالتعديل تخصص القضاء العسكري بالنظر في الجرائم العسكرية المرتكبة من قبل عسكريين فقط في انتظار وضع مجلة جديدة للعدالة العسكرية. ولكنّ مكتب مجلس البرلمان المُجمّدة نشاطاته قد أصدر قرارا بتاريخ 12 ديسمبر 2019 يقضي بسحب هذه المبادرة إلى جانب عدد من مقترحات القوانين التي تقدّم بها نوّاب غير مُمثَّلين في البرلمان الحالي “لانتفاء جهة المبادرة” حسب نصّ القرار، وهو ما فسح المجال أمام أي سلطة لتطويع القضاء العسكري لتتبع المدنيين.