“حين تسكن الحركة بالميناء، ويركن اللود في انتظار رحلته البحرية التالية بعد أربع عشر ساعة، يتقمص الأطباء والمسعفون في المستشفى المحلي بجزيرة قرقنة، شخصية لاعبي البوكر، يراهنون على تمديد اللعبة بشق الأنفس حتى تحين الساعة السادسة صباحا. هي لعبة مخيفة، ولكن الجميع مجبر على خوضها”، هكذا لخص نادر الحليوي، أحد العاملين في المستشفى المحلي بقرقنة، الحرب اليومية التي يخوضها العاملون بالمستشفى كلما استقبلوا مريضا بعد دخول الجزيرة في عزلتها الإجبارية.

يقول مستاري قنيدز، رئيس مصلحة هيئة مصلحة الخدمات العلاجية بالمستشفى المحلي بقرقنة،

في التسعينات، أراد بن علي إخماد غضب سكان قرقنة بعد وفاة شاب ثلاثيني بسبب صعقة كهربائية، وكانت حالته تستوجب نقله إلى المستشفى، لكن تعذر ذلك بسبب عدم توفر مركب أنذاك،  فتجمع السكان واحتجوا أمام مقر معتمدية قرقنة وكان كل شيئ ينذر بأزمة، حلّها بن علي بعد تلك الحادثة باتفاق مع شركة “تونسآفيا”، التي توفر طائرات هيليكوبتر وطائرات خاصة لرجال الأعمال والشركات، لتخصيص طائرة هيليكوبتر للمستشفى المحلي بقرقنة لنقل الحالات الاستعجالية بعد توقف رحلات اللود. منذ ذلك التاريخ، كانت طائرة تونيسافيا التي تسوغتها شركة سيرابت النفطية التي تملك منصة بترولية في مياه قرقنة، هي همزة الوصل الوحيدة بين الجزيرة وصفاقس خلال توقف رحلات اللود.

بموجب اتفاق بين بن علي و شركة تونسآفيا، تخصص طلعات جوية للطائرة التي تتسوغها شركة سيريبت من أجل قضاء حاجياتها، وتكفل رجل الأعمال الراحل عزيز ميلاد بدفع ثمن تلك الرحلات لشركة تونسآفيا، والذي يبلغ  2000دينار عن كل رحلة، تواصل سريان هذا الاتفاق إلى غاية وفاة ميلاد عام 2012، حينها بدأ التململ، وبدأ عدد طلعات الطائرة ينخفض منذ 2016، باستثناء سنة 2018. وانخفض عدد الرحلات بين 2016 و2020 إلى أكثر من النصف، ففي العام الماضي، لم يتجاوز عدد طلعات الطائرة لنقل مرضى إلى صفاقس 18 طلعة جوية، مقابل 41 في 2016، لتتوقف بداية هذا العام.

في اتصال مع موقع “نواة”، يقول نزار ناجي، وهو موظف ونقابي في شركة “سيريبت”

الشركة اتفقت في شهر أوت الماضي مع شركة تونسآفيا على دفع ثمن عشر رحلات لفائدة المستشفى المحلي بقرقنة والتي تقوم بها الطائرة التي تتسوغها الشركة البترولية. بنهاية العام، لم يصل عدد الرحلات التي قامت بها الهيليكوبتر إلى العشرة، وبقيت شركة سريبت “تدين” لتونسآفيا والمستشفى المحلي بالعدد المتبقي من الرحلات بموجب اتفاق أوت الماضي، لكن تراجعت الشركة الجوية عن الاتفاق، ورفعت في سعر الرحلة من آلفي دينار إلى  12000دينار للرحلة الواحدة، ولكن شركة سيريبت احتجت بسبب عدم قدرتها على الدفع.

و يضيف ناجي، وهو من أبناء جزيرة قرقنة:

اتصل المدير العام لشركة سيريبت بوالي صفاقس ليعلمه بتعطل الاتفاق وبالتالي مواجهة وضع صحي مجهول في الجزيرة. لكن الولاية لم تتحرك ولم تتجاوب مع تنبيه الشركة

بدأت بوادر تفاقم أزمة نقل المرضى من قرقنة إلى صفاقس، حين أصيب لاعب كرة قدم بجروح في يده بسبب قطع من الزجاج، وكانت حالته تستوجب نقله إلى المستشفى، حسب مستاري قرزز، وحين اتصل السمتشفى لطلب الهيليكوبتر امتنعت عن القدوم بتعلة وجود عطب، ويقول قنيدز

في السابق، حين يطرأ عطب على الطائرة، كانت الشركة تنبهنا بواسطة مكتوب إلى المستشفى، ثم يتم إصلاح العطب في وقت قصير وتستأنف الهيليكوبتر خدماتها، لكن حين امتنعت الشركة عن إرسال الطائرة بتعلة وجود عطب، أدركنا أن المستشفى سيدخل في نفق مجهول.

منذ شهر جانفي الماضي، حرم المستشفى المحلي بقرقنة من خدمات الطائرة، وذلك بسبب إصرار شركة تونسآفيا التي تملك الدولة التونسية حصة فيها عن طريق البنك الوطني الفلاحي وشركة الخطوط الجوية التونسية، على الترفيع في ثمن الرحلة. منذ ذلك التاريخ، لا يعلم سكان قرقنة عدد موتاهم الذين فارقوا الحياة بسبب استحالة نقلهم إلى المستشفى الجهوي بصفاقس أو إلى إحدى المصحات هناك، إذ يفتقر المستشفى المحلي بقرقنة إلى قسم إنعاش وإلى طاقم طبي كاف لمواجهة وضع صحي مجهول خاصة منذ انتشار وباء كوفيد في تونس. يقول مستاري قنيدز

اضطررنا إلى اتخاذ قرارات استباقية في حالات كوفيد، وإذا لاحظنا أن حالة أحد المصابين بالفيروس يمكن أن تتعكر، نقوم بإرساله إلى صفاقس قبل حلول وقت عزلة الجزيرة، حتى نتجنب أي طارئ، لكننا في المستشفى لا نستطيع مجاراة الحلات الاستعجالية القصوى.

يقول نادر الحليوي، وهو سائق سيارة إسعاف بالمستشفى المحلي بقرقنة، لموقع نواة

لا يملك المستشفى أي سرير إنعاش، لذلك تبرع سكان قرقنة بمئتي ألف دينار من أجل بناء غرفة إنعاش بعد أن بقي مخطط بنائها وتجهيزها في الرفوف لمدة تفوق 12عاما. في قرقنة، ممنوع المرض وممنوعة هي حوادث السير أو الجلطات بين الرابعة بعد الظهر والسادسة صباحا. الوضع أصبح مخيفا كأنهم يريدون تهجيرنا أو إجبارنا على ترك جزيرتنا.

منذ أيام، استقبل المستشفى المحلي بقرقنة شخصا في حالة حرجة، وتمكن الأطباء من إسعافه، لكن حالته استوجبت نقله إلى المستشفى الجهوي بصفاقس. عجز الأطباء عن إيجاد حل خاصة أنه ما من رحلة لود قبل الساعة السادسة صباحا، فتوفي المريض قبل موعد أول رحلة بساعتين، وكان يمكن إنقاذه.

يقول الحليوي لنواة

في بداية العام الماضي، استقبل المستشفى امرأة حامل قرابة الساعة الثانية صباحا، وكان وضع طفلها خطيرا، وتمكنت طبيبة التوليد من إنقاذ الرضيع لكن حالته استوجبت نقله إلى مستشفى صفاقس. كان إنقاذ الطفل معجزة ولم تترك الطبيبة الرضيع يواجه الموت مرة أخرى بعد أن رفض الطيار الاستجابة لاتصال المستشفى، فاتصلت بوكيل الجمهورية ونبهته أنه في حال لم يجدوا حلا لنقل الطفل  فإنها تحمل السلطات التونسية مسؤولية وقوع جريمة. قدمت الطائرة بعد ساعتين من الاتصال وتم إنقاذ الرضيع.

تخضع عملية طلب طائرة الهليكوبتير من أجل نقل مريض إلى سلسلة من الإجراءات، حيث يتصل مدير المستشفى المحلي بقرقنة بالمعتمد الذي يتصل بدوره بوالي صفاقس، ويعلم الوالي شركة سيريبت بحاجة المستشفى للطائرة، فتتصل الشركة بتونسآفيا التي تقوم بإرسال الهيليكوبتير للمستشفى.

لم يتحصل موقع نواة على إجابة من المعتمد الأول بولاية صفاقس بخصوص الحلول الممكنة التي يمكن أن توفرها السلطات الجهوية، كما لم يتمكن من التواصل مع المدير الجهوي للصحة للحصول على إجابة بخصوص الوضع المجهول الذي يواجهه سكان قرقنة، خاصة أن موسم العطلة الصيفية قد قرب، ، ولكن مستاري قنيدزقال لنواة إن والي صفاقس وعد المستشفى بتوفير زورق بخاري مجهز لنقل المرضى إلى صفاقس، وهو ما يعني أن الولاية لن تحل مشكل الطائرة، والتي تعتبر وسيلة نقل أنجع خاصة أن المدة التي يستغرقها الزورق للوصول إلى المستشفى الجامعي بصفاقس أطول، حسب قنيدز.

ومن المعلوم أن عدد سكان جزيرة قرقنة يتضاعف بخمس مرات خلاله في ظل وضع وبائي خطير يمكن أن يأزم الوضع الصحي. بين هذا وذاك، يواجه سكان قرقنة خوفهم اليومي مع حلول عصر كل يوم، وسط صمت مريب من المسؤولين السياسيين.