بالنسبة لرئيس الجمهورية قيس سعيد فإن المشيشي بدأ في كشف وجهته السياسية منذ ليلة الاقتراع على منح الثقة لحكومته والتي كشفت عن حزام برلماني قوي للمشيشي تمثّل في حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة. هذه الحقيقة التي لم تكشفها نقاشات منح الثقة واتجاهات التصويت فقط، وإنما صورة العشاء التي اجتمع فيها كل من الغنوشي والقروي ومخلوف مع المشيشي، والتي تم تسريبها عمدا لهذا الغرض.
تعيينات استفزت الرئيس
لم تهدأ قصة صورة العشاء تماما ليأتي تعيين المدير العام للأمن الوطني ويرسخ فكرة أن الغنوشي والقروي بصدد تحويل وجهة الحكومة الغضة والفتية. فالمدير العام الجديد العميد زهير الصديق يصنّف بأنه مقرّب من حركة النهضة. وقد سطع نجم زهير الصديق أول مرة في حكومة الترويكا وتحديدا حينما كان علي العريض وزيرا للداخلية، حيث تم إحداث الإدارة العامة للعمليات صلب وزارة الداخلية سنة 2012 وعُهِد لزهير الصديق إدارتها.
بعد هذه التسمية، أعلن عبد الكريم الهاروني أن المشيشي يتشاور في أغلب التسميات مع حركة النهضة. وتواترت المشاورات بين رئيس الحكومة والترويكا الجديدة (النهضة، قلب تونس وائتلاف الكرامة) ليعلن المشيشي عن تسمية كل من توفيق بكار ومنجي صفرة، وهما على التوالي محافظ البنك المركزي السابق والمستشار الاقتصادي في حكم بن علي، وتحوم حولهما شبهات فساد.
ليست هذه المرة الأولى التي ينشأ فيها صراع بين رأسي السلطة التنفيذية، ويصل إلى حد الحرب المعلنة، ففي سنة 2018 اندلعت حرب علنية بين يوسف الشاهد رئيس الحكومة آنذاك وابن رئيس الجمهورية حافظ قايد السبسي من أجل حسم الصراع حول من يتربع على عرش نداء تونس ويفوز بخلافة الباجي قايد السبسي. ولحسم المعركة لصالح ابنه طرح السبسي مبادرة قرطاج 2 وأساسا النقطة 64 منها والمتعلقة بمصير حكومة الشاهد. التقط وقتها الغنوشي عمليّة محاصرة الشاهد من حزبه نداء تونس والقصر على حد السواء، ووجد فيها فرصة ليعطيه دعمه السياسي، من أجل دفعه إلى التمرد على حزبه وعلى رئيس الدولة الذي اختاره لهذا المنصب. وقد تمكن إثرها الغنوشي من تحويل وجهة حكومة الشاهد بعيدا عن الباجي والنداء، وبعيدا حتى عن التوافق. وانتهى الأمر بالسبسي إلى الموت (سياسيا وبيولوجيا) وبابنه إلى الهجرة وبالشاهد إلى النسيان.
لا خيارات كثيرة للمشيشي
هذه المرة لم ينتظر الغنوشي أن ينشب الخلاف بين المشيشي وسعيّد، وقبل يوم من التصويت على الحكومة سرّب وفد النهضة الذي التقى رئيس الدولة أن سعيد طلب منهم إسقاط حكومة المشيشي، الأمر الذي نفته الرئاسة فيما بعد. وبعد ذلك، ومنذ الليلة الأولى التي نالت فيها الحكومة ثقة البرلمان تم تسريب صورة تجمع القروي والغنوشي ومخلوف برئيس الحكومة الجديد، في إشارة إلى أن المشيشي حسم أمره باختيار حزام سياسي يجمع أساسا الثنائي الغنوشي/القروي. ولكن ماهي الخيارات التي كانت متاحة أما المشيشي ليتمسك باستقلالية حكومته عن كل الأحزاب السياسية، باعتبارها حكومة كفاءات مستقلة كما قال في خطاب منح الثقة؟
يبدو أنه لا توجد خيارات كثيرة أمام المشيشي، ومنذ البداية لم يتمكن قيس سعيد من توفير وضمان الأغلبية البرلمانية الداعمة للحكومة الجديدة التي اختار هو رئيسها. ومنذ البداية أيضا بدا أن التناسق بين الرئيسين ضعيف جدا، وظهر ذلك في اختيار الوزراء وما رافقه من سوء فهم. والحقيقة أن سعيّد عوّل على معطى أساسي وهو تخوف أغلب الكتل البرلمانية من حل مجلس النواب في حال عدم منح الثقة لحكومة المشيشي، وهي ورقة أحرقها قبل يوم واحد من التصويت حين أعلم الأحزاب أنه في حالة عدم التصويت لمنح الثقة فإنه لن يحل البرلمان. وفهم المشيشي كلام سعيد بأنه ضوء أخضر من الرئيس للأحزاب لإسقاطه.
لكن حسابات المشيشي كانت مختلفة عن حسابات سعيد، ومنذ اختيار أعضاء الحكومة لم يتبن المشيشي خط سعيد الموازي لخط الغنوشي وحليفيه. وكانت قضية المشيشي الأساسية هي أن لا يحكم لأيام أو أشهر معدودة، وبدأ يفكر منذ الأيام الأولى في كيفية إدارة شؤون الدولة لأطول وقت ممكن وبعيدا عن ضغوط الأحزاب والكتل النيابية، ولما لا إيجاد الأغلبية المريحة لتمرير مشاريع القوانين وأساسا قانون المالية 2021، وكان الغنوشي يقرأ جيدا وبوضوح نوايا المشيشي. وفي نفس الوقت أعلنت الأحزاب المقربة من رئيس الجمهورية مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب أنها لن تساند حكومة المشيشي. لذلك لم يكن صعبا على الثنائي الغنوشي/القروي استقطاب المشيشي، من خلال التلويح بالجزرة وعرض خدماتهما، بأنهما وما لديهما من كتل نيابية ستكون على ذمة المشيشي وفي خدمته، طالما قطع هذا الأخير مع رئيس الجمهورية.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل تم دفع المشيشي نحو ترويكا النهضة قلب تونس وائتلاف الكرامة، أم تم تحويل وجهة الحكومة بالضغط والابتزاز؟ الواضح أن المشيشي وحكومته في وضع هو الأسوأ على الإطلاق مقارنة بكل حكومات ما بعد الثورة. فهو من جهة، ورسميا، بلا حزام سياسي وبلا دعم حزبي يتحمل معه مسؤولية الإخفاق في وضع تمر فيه البلاد بأصعب أزماتها، صحيا واقتصاديا واجتماعيا، وهو من جهة أخرى رهينة لأحزاب أكبر أهدافها السيطرة على مؤسسات الدولة وعزل رئيس الجمهورية.
iThere are no comments
Add yours