اتخذت مدن الحزام الحدودي الليبي منحى واضحا من الاصطفاف العسكري عقب اندلاع الحملة العسكرية التي قادها الجنرال خليفة حفتر على طرابلس منذ أفريل 2019 حيث اتجهت مدن صبراتة وصرمان والعجيلات وزلطن والجميل والرجبان لاتباع موقف مساند لقوات حفتر في ظل تمسك مدن زوارة و الزاوية وأغلب مدن و قرى جبل نفوسة بالولاء لحكومة الوفاق. وقد استعمل القائد العسكري خليفة حفتر هذه الورقة سياسيا في محاولة لتقوية موقعه على الأرض بالإستفادة من ولاء جزء كبير من قواعد النظام السابق الموجودة في المنطقة. تلك القوى خسرت مواقع النفوذ الاقتصادي الذي أتاحه لها النظام الجماهيري وشحت امتيازاتها المالية التي كانت المحققة عن طريق التجارة الموازية مع الجانب التونسي، فضلا عن انتشار التيار المدخلي للسلفية العلمية، الموالي في معظمه لحفتر وتأثير أحد مشايخه طارق درمان الزنتاني على عدد من الفصائل في جبل نفوسة وصبراتة، خصوصا منها الكتيبة 134 لحماية الوطية التي يتكون جزء كبير منها من فصائل الزنتان. كما حاول مشروع حفتر اكتساب بعض النفوذ في مدينة صبراتة بعد محاربة بضعة فصائل حليفة له لمجموعة أنس الدباشي التي انخرطت في الاتجار بالبشر و إدارة أنشطة الهجرة غير الشرعية والتي يشاع عن صلتها بمقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين قاموا بعملية بن قردان الإرهابية في مارس 2016.
حكومة الوفاق توسع نفوذها
على إثر وصول عدد من الإمدادات العسكرية و استعادة السيطرة على المجال الجوي، بدأت قيادة حكومة الوفاق منذ أواخر شهر مارس توسيع استراتيجيتها العسكرية نحو إعادة السيطرة على الطريق الساحلي المتجه نحو الحدود التونسية. فكان الهجوم المفاجئ على مدن الساحل الغربي الليبي والاستيلاء عليها من قبل حكومة الوفاق يوم 13 أفريل ردا حاسما على محاولات قوات حفتر السيطرة على معبر رأس جدير في أواخر شهر مارس وعلى بعض المشاريع الأخرى لضم أجزاء من هذه المنطقة سلميا عن طريق الاتفاق مع بعض المكونات العشائرية. وقد ساهم اللعب على وتر التسويات الاجتماعية دورا هاما في تسليم هذه المدن بأقل ما يمكن من الخسائر المادية لحكومة الوفاق، ليظل الصراع منحصرا في قاعدة الوطية التي شنت عليها قوات حكومة الوفاق حرب استنزاف حقيقية عبر الطائرات المسيرة التركية حيث ساهمت في تدمير عديد الآليات ومقتل العشرات من المسلحين داخل القاعدة ومحيطها، بعد فشل محاولة الاقتحام التي جدت يوم 6 ماي الماضي انطلاقا من عدد من المحاور، كان من بينها محور الأبراج المتاخم للحدود التونسية. لتنتهي العملية بالاستيلاء على القاعدة يوم 18 ماي و الاستيلاء على بقية المدن الموالية لحفتر في جبل نفوسة على غرار تيجي و الأصابعة وبدر. ومن المؤكد اليوم أن حكومة الوفاق تسعى لتحويل هذا النصر العسكري إلى فرصة استراتيجية حيث تمكنها هذه السيطرة من حماية الخاصرة الغربية للعاصمة طرابلس من هجوم مباغت قد تشنه قوات حفتر وكذلك تعزيز حماية المعابر الحدودية مع تونس التي ظلت الشريان الرئيسي للإمدادات الغذائية للغرب الليبي، رغم ما اعترى الموقف التونسي مؤخرا من تذبذب وعدم مواكبة شاملة لمتغيرات المشهد الليبي.
الموقف التونسي رهين المتغيرات الاستراتيجية
الارتباك التام، ظلت هذه السمة ملازمة لجل التحركات الرسمية التونسية إزاء الفاعلين الليبيين، وسط تأثير الاصطفاف الإقليمي والخلاف الإبديولوجي على مواقف الأحزاب التونسية من الأزمة وخاصة منها تلك المشاركة في الائتلاف الحاكم. عسكريا اقتصر دور الجيش الوطني على حماية المناطق الحدودية من مختلف التداعيات الممكن حدوثها أو تسرب الأسلحة والإرهابيين مستغلين حالة التوتر في المنطقة الحدودية مع تنشيط الجانب الاستعلامي لاستباق سيناريوهات التطورات العسكرية و تحولات القوة لدى المعسكرين المتنافسين. وقد يستدعي هذا المجهود رفع درجة التأهب مثلما حدث في ديسمبر الماضي أو خلال شهري أفريل وماي بمناسبة عملية “عاصفة السلام”. لكن بعيدا عن الجانب العملياتي فقد أثارت تصريحات وزير الدفاع عماد الحزقي الذي وصف القوات المسيطرة على رأس جدير بالميليشيات حجما كبيرا من الاستياء لدى عديد الأطراف داخل حكومة الوفاق التي سرعان ما حاولت تداركه مؤسسة رئاسة الجمهورية.
أما سياسيا، فلطالما شكلت الأزمة الليبية كعب أخيل الدبلوماسية التونسية من حيث الموقف المتخذ للمؤسسات السياسية في البلاد. مع فشل الدبلوماسية البرلمانية في القيام بدور واضح في الوساطة أو دعم الحل السياسي رغم اللقاءات التي قام بها رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي مع رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح و كذلك رئيس المجلس الأعلى للدولة التابع لحكومة الوفاق خالد المشري، ونفس هذا الأمر ينطبق على رئاسة الجمهورية، فلم تلق “مبادرة تونس للسلام” التي اقترحها الرئيس قيس سعيد في ديسمبر الماضي الصدى المرجو منها وسط تشكيك بفعالية رهان بعض أعضاء “المجلس الأعلى للقبائل و المدن الليبية” المعروف بقرب مكوناته من النظام السابق في العملية الحوارية ثم تجاوزها بفعل مقررات مؤتمر برلين الذي لم تشارك فيه تونس.
من ملامح الارتباك الدبلوماسي الأخرى عدم تصريح مؤسسات الدولة التونسية بموقف محدد من عملية إيريني البحرية المدعومة من الاتحاد الأوروبي والتي تعد امتدادا لعملية صوفيا المخصصة لمكافحة الهجرة غير الشرعية نحو السواحل الأوروبية، حيث تشمل هذه العملية المثيرة للجدل مجالات أخرى للتدخل. من بينها تنفيذ القرارات الأممية حول حظر السلاح الوارد إلى ليبيا ومكافحة الاتجار بالبشر ورصد وجمع المعلومات حول الصادرات غير الشرعية للنفط الليبي وعدم تمرير مشروع قرار في مجلس الأمن اقترحته كل من تونس و فرنسا لفرض هدنة إنسانية في مناطق التوتر عبر العالم خلال هذه الفترة والتفرغ لمواجهة وباء كورونا. قرار عارضته الولايات المتحدة و رأت فيه أطراف مقربة من حكومة الوفاق الليبية محاولة لتجاوز التقدمات التي تحققها مؤخرا على الأرض و تمريرا خفيا لمشروع حفتر للهدنة الذي يعتبره البعض محاولة منه لربح الوقت للحصول على بعض الإمدادات العسكرية والحضور الجوي لمواصلة هجومه على طرابلس. كما لم يظهر موقف رسمي تونسي محدد من محاولات بعض الدول الأوروبية إجلاء المهاجرين غير الشرعيين العالقين في ليبيا ومحاولة توطينهم في مخيمات بتونس، وهي الفكرة التي تتدارسها عديد القوى الدولية بشكل جدي.
كل هذه النقاط ضاعفت الحاجة إلى مراجعة شاملة للتعاطي التونسي الرسمي حيال الأزمة الليبية وتبني استراتيجية واضحة في هذا الخصوص .يبدو أن رئاسة الجمهورية هي من بدأت الإشراف على هذا الملف بمختلف جزئياته على إثر الاجتماع الذي أشرف عليه قيس سعيد يوم 30 أفريل بحضور رئيس الحكومة ووزراء الخارجية والداخلية والدفاع والعدل حيث تم اتخاذ موقف رسمي تونسي مساند للحل السلمي ومناهض للتقسيم. وهو ما يعتبر رفضا واضحا لإعلان خليفة حفتر نفسه زعيما للبلاد ودعوته للانقلاب على المؤسسات الناتجة عن اتفاق الصخيرات وحل مجلس النواب الليبي. كما كان من مخرجات هذا الاجتماع كذلك تكوين فرق عمل خاصة مكلفة بتنسيق مختلف الجهود الحكومية إضافة إلى المجهود الإستشرافي والإستباقي. لكن على أهمية هذه الإجراءات وأولويتها في الوقت الحالي فلا يمكن التغاضي عن تبعاتها على المستوى المؤسساتي، مع إرادة واضحة لمؤسسة رئاسة الجمهورية الهيمنة على تسيير الأزمة عن طريق الاشراف المباشر على فرق العمل، و كذلك استبعاد الدبلوماسية البرلمانية من هذه الخطة، وهو ما يمكن قراءته من خلال عدم حضور رئيس مجلس النواب لهذا الاجتماع أو ربما تغييبه قصدا، خصوصا مع العلاقة المتوترة بين رئاستي المؤسستين حاليا.
iThere are no comments
Add yours