ينص الفصل 107 من القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء على أنّه “يجرى التصويت على القائمات في دورة واحدة، ويتمّ توزيع المقاعد في مستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا”. لا يسمح هذا النظام بوجود أحزاب ذات تمثيلية قوية يمكنها تحمّل المسؤولية في إدارة الشأن العام، حيث تقود آليات هذا النظام الانتخابي إلى منع أي حزب من الاستفراد بالحكم، فإن أكبر البقايا قادت دائما الى برلمان يصعب فيه إيجاد أغلبية متجانسة سياسيا.
تحالفات غير طبيعية
أفرزت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 فسيفساء سياسية لا جامع بينها، وقد أجبرت هذه النتائج حركة النهضة الفائزة بالمرتبة الأولى في عدد المقاعد على التحالف مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل لتشكيل حكومة الترويكا، وهو تحالف حكم على الحزبين الأخيرين بالاندثار.
وإثر انتخابات 2014 اضطر حزب نداء تونس إلى التحالف مع صاحب المركز الثاني حركة النهضة لتشكيل حكومة الصيد ثم حكومة الشاهد فيما بعد، وقد انتهى هذا التحالف بزوال حزب النداء.
ومنذ 2011 في المجلس الوطني التأسيسي مرورا بمجلس النواب المنبثق عن انتخابات2014 وصولا الى البرلمان الحالي شهد العمل التشريعي تعطّلا وفشلا ذريعا لا سيما في استكمال الإصلاحات الدستورية لعلّ أهمّها المحكمة الدستورية وكذلك الهيئات الدستورية والتي تتطلّب أغلبية الثلثين لتمريرها.
كما فشل حزب حركة النهضة الذي حل أوّلا في انتخابات 2019، في ضمان الأغلبية التي تمكّن حكومة الجملي التي اقترحتها من نيل الثقة، الأمر الذي فرض المرور الى “حكومة الرئيس” التي مازالت بدورها تبحث عن الحزام السياسي الضروري لنيل الثقة. ولا يزال شبح الازمة يخيّم على البلاد التي قد تجد نفسها مجبرة على المرور الى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها.
مشروع إصلاح أم هيمنة
قدمت كتلة حركة النهضة في مجلس نواب الشعب، بداية الأسبوع الماضي، مقترح قانون أساسي، يتعلق بتعديل القانون الانتخابي باتجاه إضافة عتبة بنسبة 5 في المائة في الانتخابات التشريعية. وكان مجلس نواب الشعب السابق نقّح القانون الانتخابي في جوان 2019 بإرساء عتبة بنسبة 3 في المائة غير أن رئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي لم يختم مشروع القانون قبيل وفاته.
والعتبة هي الحد الأدنى من الأصوات الذي يشترط القانون الحصول عليها من قبل الحزب أو القائمة الانتخابية، ليكون له حق الحصول على أحد المقاعد المتنافس عليها في الانتخابات التشريعية.
وينص مشروع القانون المقدّم على أنه “لا تحتسب الأوراق البيضاء والأصوات الراجعة للقائمات التي تحصلت على أقل من 5 في المائة من الأصوات المصرح بها على مستوى الدائرة”. و”لا تدخل في توزيع المقاعد القائمات المترشحة التي تحصلت على أقل من 5 في المائة من الأصوات المصرح بها في مستوى الدائرة”.
شبح الاستبداد ونسف التعدّدية
في المشهد السياسي التونسي الذي يتميّز بهيمنة المال الفاسد، وغياب شفافية تمويل الاحزاب الكبرى وارتباطها، بدوائر أجنبية، واستعمال كل الوسائل غير المشروعة في الحملات الانتخابية، سمح قانون أكبر البقايا من صعود أحزاب وشخصيات مستقلّة عن لوبيات الفساد والدوائر الأجنبية. وقد مكّن نظام هذه المكوّنات السياسية أن تلعب دور المعارضة الديمقراطية والقوّة المضادّة لأحزاب الحكم لمنعها من الانحراف باتجاه الدولة المستبدّة. إقرار العتبة الانتخابية، ستكون أولى ضحاياه الأحزاب محدودة الإمكانيات المالية وكذلك المستقلّون. لذلك فإن التعديلات المقترحة ستقود الى هيمنة حزب أو حزبين على أقصى تقديرعلى الحياة السياسية وقطع الطريق على إمكانية تواجد المعارضة في المجالس المنتخبة. وبالتالي استهداف التعددية البرلمانية التي اعتبرت من أهم مكاسب الثورة.
اصلاح ام مناورة سياسية
أثبت النظام الانتخابي الحالي قصوره وعدم جدواه وأدّى إلى أزمات سياسية متتالية، وتغييره اصبح أكثر من ضروري، ليس فقط لضمان استقرار سياسي وأداء طبيعي لمؤسسات الدولة، وإنما أساسيا لاحداث الفاعلية في العمل البرلماني. ومن حقّ من ينال ثقة الناخبين أن يتحمّل المسؤولية المنبثقة عن هذه الثقة. ولكن المطلوب قبل ذلك ترشيد الحياة السياسية والحزبية، ورسم القواعد الصارمة، قواعد اللعبة الانتخابية والديمقراطية وليس التحيّل والمناورة للسطو على الحكم وإقصاء الخصوم في ظل قواعد لعبة غير متكافئة. المطلوب أيضا هواصلاح النظام الانتخابي وتنقية الحياة السياسية وذلك من خلال جملة من القواعد أهّمها:
- استقلالية هيئة الانتخابات بشكل لا لبس فيه بما يضمن سلامة المسار الانتخابي وإيجاد الاليات الناجعة والفعّالة لتسجيل الناخبين ومراقبة تمويل الحملات الانتخابية.
- التصدّي للمال الفاسد الذي كان العنوان الأبرز في الحملات الانتخابية السابقة، وضمان منع تدفّق المال الأجنبي على الأحزاب السياسية والجمعيات.
- منع استغلال العمل الجمعياتي والعمل الخيري لإسناد الأحزاب السياسية وخاصة خلال الحملات الانتخابية، وكذلك منع استغلال وسائل الإعلام الخاصة للقيام بالإشهار السياسي والحملات السابقة لأوانها وضرب الخصوم السياسيين.
- مراقبة التزام السياسيين والمترشحين للمجالس المنتخبة بالتصريح على المكاسب ومنع وجود تضارب المصالح والاستثراء غير المشروع، ومنع المترشحين المتورطين في قضايا فساد وجرائم متعلّقة بالشرف من التقدّم إلى الانتخابات.
- تنظيم مؤسسات سبر الآراء ومنع لوبيات المال الفاسد من التلاعب بنتائجها وتوجيه الرأي العام.
يمكن لهذه القواعد أن تضمن الحد الأدنى لنزاهة المشهد السياسي والمناخ الإنتخابي، عدا ذلك فإن الاكتفاء بإقرار العتبة، سيزيد الحياة السياسية سوء ويعمل على مزيد تشويه الحياة الديمقراطية، فضلا عن مخاطر الانحراف بالمسار الديمقراطي وتأكيد الإرتهان لأحزاب المال السياسي الفاسد.
iThere are no comments
Add yours