خلف عبارات الشراكة الإستراتيجيّة و”التعاون المثمر” بين تونس والصين، التّي جاءت في خطابات ممثّلي الوفد الصينيّ وتصريحات رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، تكشف الأرقام والدراسات الصادرة عن مختلف المنظّمات التجاريّة والاقتصاديّة الدوليّة، عن حجم الإختلال في العلاقات التجاريّة والإستثماريّة بين البلدين. ليتحوّل الحديث عن هيمنة حقيقيّة للصين التّي أصبحت المساهم الأكبر في العجز التجاري الإجمالي لتونس بنحو 5400 مليون دينار سنة 2018، من إجمالي عجز التجارة الخارجية للبلاد والذي تجاوز 19000 مليون دينار خلال نفس السنة حسب تصريحات وزير التنمية والإستثمار والتعاون الدولي زياد العذاري على هامش هذين المنتدييْن.

استقبل رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، يوم الخميس 04 أفريل 2019 بقصر قرطاج، وفدًا عن شركة هواوي تكنولوجيز العالميّة يتقدّمه نائب رئيس الشركة مارك شومان.

بين السياسة والتجارة: مساران متباينان في العلاقة بين البلدين

انتظرت تونس 8 سنوات تقريبا بعد الاستقلال، قبل أن تبدأ علاقاتها الديبلوماسيّة الرسميّة مع الصين في 10 جانفي 1964، لتبادر الصين في 20 أفريل من نفس السنة بفتح سفارتها في العاصمة التونسيّة. خطوة تلكأت تونس في الاستجابة لها لتفتح سفارتها في بيكين بعد 9 سنوات في 10 ديسمبر 1973. منذ ذلك التاريخ، ظلّت العلاقات بروتوكوليّة بين البلدين، إلى حين إمضاء الإتفاق المؤسس للجنة المشتركة التونسية الصينيّة في ديسمبر 1983 والذّي مثّل فاتحة العلاقات الاقتصادية بين البلدين. التجارة البينيّة التّي انطلقت رسميّا منذ ذلك التاريخ بين تونس والصين، حافظت طيلة السنوات العشر اللاحقة على توازن نسبيّ في صادرات وواردات البلدين بمعدّل معاملات ناهز 60 مليون دينار سنويّا وبنسبة تغطية لدى الجانب التونسيّ تراوحت خلال السنوات الأولى لتسعينات القرن الماضي بين 60% و20% في أسوأ الحالات وفقا لقاعدة البيانات الإحصائية لتجارة السلع الأساسيّة للأمم المتحدة.

إلاّ أنّ السنوات اللاحقة، والتّي تميّزت بتكثيف الحضور الإقتصاديّ الصينيّ في القارة الأفريقيّة، انعكست على العلاقات التجاريّة بين البلدين، لتشهد تونس منذ بداية الألفيّة الثانية ما يمكن تسميته بطوفان السلع الصينيّة التّي أدخلت الميزان التجاريّ في حالة من العجز المتواصل الذّي لم ينخفض تحت سقف 85% طيلة 15 سنة.

التبادل التجاري بين تونس والصين: سباق السلحفاة والأرنب

المسار البطيء والمتأخّر نسبيّا لتطوّر العلاقات السياسيّة، لم ينعكس على نظيره التجاريّ. حيث تكشف قاعدة البيانات الإحصائية لتجارة السلع الأساسيّة للأمم المتحدة عن ارتفاع هائل في مستوى التبادل التجاري بين تونس والصين بداية من سنة 2000. لتتطوّر الواردات التونسيّة من الصين بين سنوات 2000 و2010 من 250 مليون دينار إلى 1530 مليون دينار. إلاّ أنّ مرحلة ما بعد 14 جانفي 2011، كانت النقطة الفارقة في العلاقات التجاريّة بين البلدين، لتكسر الصادرات الصينيّة إلى تونس حاجز الملياريْ دينار في نسق تصاعديّ بلغ 4330.6 مليون دينار سنة 2017. في المقابل، لم تتمكّن تونس من مجاراة تطوّر تدفّق السلع الصينيّة إلى السوق المحليّة لتظلّ الصادرات التونسيّة إلى السوق الصينيّة ثابتة تقريبا بمعدّل لم يتجاوز 60 مليون دينار خلال نفس الحقبة.

هذا التباين الشاسع بين صادرات تونس إلى الصين ووارداتها منها، أدّى إلى تفاقم العجز الفادح في الميزان التجاري لدى تونس لتتراوح نسبة العجز المُسجّلة بين سنوات 2010 و2017 بين 96% و98%، ولتلامس خلال سنوات 2015 و2016 عتبة 99%، في وضع لم يعرف له تاريخ العلاقات التجاريّة بين تونس وباقي شركائها الاقتصاديين مثيلا.

خلال 15 سنة: الخارطة التجاريّة تتغيّر والصين تصبح قبلة استهلاكيّة

قبل 15 سنة، لم تكن الصين ضمن قائمة الشركاء التجاريّين العشر الأوائل لتونس. حيث هيمنت كلّ من فرنسا وإيطاليا وألمانيا والجزائر وليبيا على معظم السوق المحليّ والواردات التونسيّة من الخارج. هذه الخريطة لم تلبث أن تغيّرت بسرعة خلال السنوات اللاحقة، لتبرز الصين لأوّل مرّة سنة 2008 في المرتبة السادسة بصادرات ناهزت 1471 مليون دينار بما يمثّل 3.7% من إجمالي واردات تونس. الصين لم تكتفي بتلك المرتبة، لتواصل توسيع نصيبها من السوق التونسيّة، خصوصا مع تغيير النظام السياسيّ بعد سنة 2011، لتزيح ليبيا والجزائر واسبانيا وحتّى ألمانيا، محتلّة المرتبة الثالثة ب8.9% بعد فرنسا وإيطاليا اللّتين تسيطران مجتمعتين على 32% من إجمالي الواردات التونسيّة سنة 2017.

طوفان السلع الصينيّة الذّي أزاح عددا من الشركاء التجاريّين التقليديّن لتونس، شمل تقريبا جميع المنتجات دون استثناء حسب ما تؤكّده أرقام منظّمة التجارة الدوليّة، لكنّ النصيب الأكبر كان للمعدّات الكهربائيّة والإلكترونيّة التّي مثّلت 53% من الواردات التونسيّة من الصين بقيمة 2295 مليون دينار، لتكون المرتبة الثانية للنسيج والمعادن والصناعات التحويليّة بقيمة 1018.3 مليون دينار ولتشمل أخيرا السيّارات والمعدّات الميكانيكيّة التّي كانت حكرا على المصدّر الأوروبيّ بقيمة 239 مليون دينار سنة 2017 وهو ما يمثّل 5.5% من الصادرات الصينيّة إلى تونس. من الجانب التونسيّ، فإنّ معظم صادراته إلى الصين التّي بلغ مجموعها 72.3 مليون دينار فلم تستطع كسر القائمة التقليديّة للمنتجات التصديريّة المتكوّنة من المواد الخام المعدنيّة أو الكيميائيّة إضافة إلى المنتجات الفلاحيّة.

حدود الشراكة وخسائرها

على الرغم من استفادة الصين من النهم الإستهلاكيّ في السوق التونسيّة لتطوّر صادراتها إلى تونس بنسبة 100% خلال السنوات السبع الأخيرة، إلاّ أنّ الجانب التونسيّ، لم يستطع في ظلّ حالة الإنكماش الإقتصاديّ وتراجع الاستثمار المحليّ والأجنبيّ خلال نفس الحقبة، توسيع حضوره في السوق الصينيّة. فأمام النمو المتواصل لنصيب الصين من السوق المحليّة والذّي بلغ 8.9% سنة 2017، لم تستطع تونس أن تحوز أكثر من 0.012% من إجماليّ السوق الصينيّة البالغ حجمها 3.6 تريليون دينار وفق المؤشرات الصادرة عن منظّمة التجارة الدولية.

إختلال العلاقة التجاريّة، يتجاوز القنوات الرسميّة، ليشمل التجارة الموازية والتهريب. حيث تمثّل المنتجات الصينيّة أحد أهمّ السلع التّي تتسرّب من المنافذ البريّة والبحريّة التونسيّة ممّا يكبّد الدولة سنويّا خسائر جمركيّة ضخمة بلغت حسب التقرير الصادر عن البنك الدولي سنة 2014 قرابة 500 مليون دينار. نفس التقرير، أشار إلى أنّ قيمة السلع المهرّبة من ليبيا والجزائر والتّي تشمل المعدات الكهربائيّة والميكانيكيّة والأجهزة الالكترونية والمنسوجات تناهز مليار دينار سنويّا.

أمّا على صعيد الاستثمارات المباشرة، وعلى الرغم من ضخامة محفظة الاستثمار الصينيّ في القارة الإفريقيّة، والتّي بلغت بحسب تقرير المعهد العربي لرؤساء المؤسسات سنة 2015 ما يناهز 3500 مليون دينار، إلاّ أنّ حضور الشركات الصينيّة في تونس اقتصر على 10 شركات بطاقة تشغيليّة ضئيلة لم تتجاوز 548 موطن شغل وبقيمة استثمار جمليّ تناهز 12.9 مليون دينار سنة 2017 وفق بيانات نشرتها وزارة الخارجيّة التونسيّة.

هذه الأرقام، تعكس في جانب منها الاستراتيجيّة الصينيّة تجاه السوق التونسيّة وحدود العلاقات الاقتصاديّة التّي رسمها الشريك الصينيّ. فهذه السوق النهمة والمغرية للسلع الصينيّة، لا تبدو بنفس الإغراء لرجال الأعمال الصينيّين الذّين ما يزالون يرون فيها سوقا محدودة ومكلفة وغير آمنة لضخ الاستثمارات المباشرة، بقدر قدرتها على استيعاب المنتجات الجاهزة من الصين. في المقابل، فإنّ السوق الصينيّة ما تزال عصيّة على اقتصاد تونسيّ غارق في الأزمات والمديونيّة وتراجع الإنتاج والمردوديّة.