المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

إن أحداث هذا العام أخذت منعطفا خطيرا للغاية، خاصة وقد استغلتها أطراف خفية خططت لزعزعة استقرار مؤسسات الدولة وتحويل الانتباه عن المطالب المشروعة لأغلبية المواطنين من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، الذين يواجهون وحيدين  تداعيات السياسات التقشفية المفروضة من صندوق النقد الدولي ولا يرون نهاية لمسلسل التضخم وارتفاع الأسعار. إضافة إلى التفاقم غير المسبوق لمعدلات البطالة والفقر مما أدى إلى تفشي الإحساس بالظلم والغضب لدى الفئات المهشمة وعامة التونسيين الذين فقدوا الثقة في العملية السياسية، كما فقدوا الأمل  بقدرة الطبقة السياسية الحاكمة على معالجة الأزمة وإنقاذ البلاد من الانهيار الوشيك.

لكن ردود فعل السلطات العامة بقيت محدودة وغير متناسبة مع خطورة الوضع -مثلما كان ذلك الشأن في ظل الحكومات السابقة- حيث اقتصرت على بعض التدابير الترقيعية المؤقتة لفائدة الفئات المحرومة والشباب. مع الإشارة إلى أن هذه الإجراءات المرتجلة وغير المدرجة في الميزانية تمّ اتخاذها تحت ضغط الأحداث لغرض وحيد هو تهدئة الأوضاع في هذه المرحلة الصعبة على أمل السيطرة عليها وتفادي عواقبها الوخيمة. وهكذا فإن موقف الطبقة الحاكمة لا ينم عن إدراك ووعي حقيقي بحجم الأزمة وخطورة الأحداث التي  ليست ناجمة فقط عن الزيادات في الأسعار التي أقرها قانون المالية الجديد فحسب، بل هي حصيلة عجز الحكومات المتعاقبة عن تشخيص المشاكل الحقيقية للبلاد وتقديم الحلول المناسبة لها نتيجة تشبثها بسياسات النظام السابق الاقتصادية التي كانت سببا لاندلاع الثورة.

الأسباب العميقة لعدم الاستقرار في تونس

في حقيقة الأمر، إن الحالة السياسية والاقتصادية المأساوية التي نعيشها حاليا لها جذور عميقة، فضلا عن أسباب داخلية وخارجية متعددة. وهي تتعلق أساسا بفشل التحول الديمقراطي والاقتصادي بتونس بسبب التدخل الأجنبي الغربي والعربي في شؤوننا الداخلية وخاصة من  جانب الدول الغربية، التي كانت  تخشى حصول انتقال ديمقراطي حقيقي في تونس، قد يؤدي إلى مراجعة السياسات الاقتصادية الانفتاحية للنظام السابق التي تخدم مصالحها. لذلك سارعت خلال قمة مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى المنعقدة بمدينة دوفيل الفرنسية في ماي 2011 إلى وضع إطار جديد للشراكة مع تونس ومصر و”دول الربيع العربي”، تتعهد بموجبه هذه الأخيرة بمواصلة سياسة التبادل الحر وتوسيع نطاقها مع الغرب والإتحاد الأوروبي، وذلك مقابل وعود واهية لم يقع احترامها بتمكين تونس من برنامج ضخم للمساعدات المالية وكذلك استرداد أموالها المنهوبة.

تقيدت كافة الحكومات المتعاقبة على السلطة بهذه الالتزامات رغم تنكّر مجموعة السبع لتعهداتها تجاه تونس، ولم تتجرأ واحدة من الحكومات التونسية على متابعة هذا الملف أو طرحه على الرأي العام التونسي لأن همها الوحيد كان الاستمرار في السلطة واحتكارها بالاعتماد على الدعم الخارجي وعملائه في الداخل المرتبطين أساسا بالنظام السابق. وهكذا فإن تونس لن تشهد في نهاية المطاف سوى تناوب شكلي بحت في قمة الدولة دون تغيير في الخيارات الاقتصادية والدبلوماسية أو مراجعة للسياسات الفاسدة للحكم الدكتاتوري، التي كانت من أهم الأسباب المؤدية لاندلاع الثورة. والملاحظ أن الحكومة الحالية تعمل كسابقاتها لغرض وحيد هو الحفاظ على السلطة واحتكارها مستقبلا.

إن شركاءنا الرئيسيين، وبالخصوص مجموعة السبعة والاتحاد الأوروبي -التي تتصرف في تونس كأطراف سياسية فاعلة مستميتة في الدفاع عن مصالحها- لا تفعل شيئا للإيفاء بالالتزامات السياسية التي قطعتها على نفسها منذ ماي 2011 في دوفيل من أجل تعزيز الظروف المؤدية إلى نجاح التحول السياسي والاقتصادي في تونس. ومع ذلك فإن هذه المجموعة لا تعوزها وسائل الضغط السياسي والمالي خاصة من خلال صندوق النقد الدولي -الذي يسيطر على السياسة الاقتصادية والنقدية في تونس- وهي لا تتردد في استخدامها والإفراط في استخدامها لفرض الاتفاقيات التجارية غير العادلة، فضلا عن خيارات الانفتاح الاقتصادي التي تناسبها حتى وإن كان ذلك على حساب مصالح تونس العليا. وهذا التلاقي في   المصالح بين أصحاب السلطة في تونس المرتبطين ارتباطا وثيقا بالنظام القديم وبين القوى الأجنبية -خاصة فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية- هو ما يفسر الانهيار الاقتصادي والديمقراطي لتونس. وقد تحقّق هذا التواطؤ من خلال خرق الدستور الذي أُفرِغ من محتواه بسبب عدم احترام أحكامه المتعلقة بتوزيع الصلاحيات وإنشاء المؤسسات بما فيها المحكمة الإدارية وكذلك التأسيس لسلطة قضائية مستقلة فعلا. وبالتالي فإن التدهور غير المسبوق للظروف المعيشة للتونسيين، والذي يمثّل مصدر التوتر الدائم، يرتبط ارتباطا وثيقا بتجديد السياسات الاقتصادية والدبلوماسية للنظام السابق، لا سيما سياسة تشجيع الاستثمار الأجنبي والتجارة الحرة غير المتكافئة مع أوروبا، والتي لم تعد تداعياتها الكارثية في حاجة إلى إثبات.

استيلاء الأجانب على الثروات والموارد البشرية لتونس

وكنتيجة حتمية لهذه السياسات، أصبحت تونس خاضعة للهيمنة الأجنبية بسبب تبعيتها التكنولوجية للغرب وتدمير نسيجها الصناعي، فضلا عن التبعية الغذائية والسيطرة الأجنبية -خاصة الأوروبية- على ثروات تونس البشرية والمادية، إضافة إلى سيطرتها على القطاعات الأكثر ربحية للاقتصاد التونسي. ومن أهم هذه القطاعات نذكر على وجه الخصوص القطاعات الإنتاجية، بما في ذلك الصناعات والأنشطة ذات القيمة المضافة العالية المرتبطة بتلبية احتياجاتنا من الحبوب والتجهيزات والمواد الاستهلاكية أو المرتبطة باستغلال ثرواتنا الوطنية (النفط، زيت الزيتون، الزراعة…). كما أنّ هذه السياسات تؤدي إلى تحويل وجهة الثروات المادية والبشرية من تونس إلى الخارج، لأن التخلف الصناعي والعلمي والتكنولوجي لتونس لا يسمح لها باستغلال ثرواتها محليا ويؤدي ذلك إلى التنازل لصالح الأجانب على القطاعات الاقتصادية المتطورة ذات القيمة المضافة العالية وعلى فرص العمل والموارد البشرية المؤهلة المرتبطة بهذه الأنشطة. ولهذا السبب فقدت تونس أبرز نخبها العلمية ومهاراتها من خلال هجرة الأدمغة بسبب هذا التقاسم غير العادل للأدوار الاقتصادية التي تفرضها العولمة.

وبسبب كل هذه العوامل انحسر دور تونس الاقتصادي على الصعيد العالمي وأصبحت معروفة منذ أكثر من أربعة عقود بكونها سوق مفتوحة للمنتجات الأوروبية، من خلال التبادل الحر غير المتكافئ وبكونها ورشة عمل صناعية وخزان لليد العاملة الرخيصة لصالح أنشطة المناولة الأوروبية، فضلا عن كونها وجهة مفضلة للتجارة الموازية وتبييض الأموال والمنتجات المهربة. ومع ذلك سمحت تونس لنفسها –في ظل هذه الظرفية الاقتصادية الهشّة والدقيقة المتميزة بانفلات العجز المالي والتجاري وتفاقم المديونية إلى درجة خروجها عن السيطرة- أن تخضع لشروط صندوق النقد الدولي المجحفة وأن تتفاوض بخصوص اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق، الذي سيمهّد الطريق لبسط نوع من الوصاية الشبيهة بالاحتلال الاقتصادي غير المُعلن لتونس. وبالتالي ليس من قبيل المبالغة القول بأن الدولة التونسية تواجه مأزقًا اقتصاديًا وماليًا مقترنا بمديونية مفرطة لا يمكن تحملها ولا السيطرة عليها مما يعرّض سيادة تونس وأمنها ومستقبلها للخطر. وفي مواجهة هذه التحديات الوجودية غير المسبوقة من الواضح أن تغييرًا جذريًا في السياسات المتبعة منذ الثورة على المستويين الوطني والدولي هو السبيل الوحيد لتمكين تونس من استعادة استقلالية قرارها في تحديد الخيارات الاقتصادية والدبلوماسية، الكفيلة بتمكينها من تجاوز أزماتها المتعددة وإقرار السياسات التي تتماشى مع مصالح الشعب التونسي.