المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

حوار السبسي الذي لم يأت بجديد كان خطيرا للغاية، ففي وقت وَصف فيه حمة الهمامي بـ”الفاسق” والمعارضة الرافضة لتمرير قانون المصالحة الإدارية بـ”التخريب”، نراه قد ناقض نفسه بعد أقل من أسبوعين من تصريحاته التي هاجم فيها حركة النهضة، بقوله إنه أخطأ التقييم في جلب الحركة إلى مربع المدنية، عندما اعترف بأن النهضة قامت بكثير من التغييرات لتتحوّل من حزب ديني إلى حزب مدني.

ازدواجية الخطاب ليست غريبة على السبسي، فهو المعروف بمقولته الخالدة “النهضة والنداء خطّان متوازيان لا يلتقيان فإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله”، وهو المعروف أيضا بإهانته للمرأة التونسية رغم ادعائه بأنه المدافع المستميت عنها. كما أنه المتحدّث عن السيادة الوطنية وفي نفس الوقت المعترف بتلقّي الأوامر من “المسؤول الكبير” كما قال في أحد حواراته.

السبسي: الزعيم “المُتَبَرْقِبْ”

لسنا بصدد تعداد تناقضات تصريحات السبسي لأن المقام لا يسمح بجمعها وذكرها كلّها، ولكننا نريد التوقف قليلا عند المسيرة السياسية لهذا الزعيم “المُتَبَرْقِبْ”، الذي لم يبذل جهدا كبيرا في تقمّص شخصية الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة. ومن منّا ينسى كيف خرج علينا في اجتماع قصر هلال في 2 مارس 2013، بـ”لوك” بورقيبة حتّى أننا خلنا أنّه هو بشحمه ولحمه. في هذا المقال، سنكتفي بالحديث عن مسيرة السبسي وهو رئيس لتونس، بعد أن حقّق حلمه في تولّي الرئاسة، وهو الذي أسرّ وأعلن في مناسبات عديدة بأنه يطمح لأن يكون رئيسا للتونسيين حتّى يخلّده التاريخ. فخلال 3 سنوات تنقصها بعض الأشهر من حكم البلاد، عجز السبسي عن الوفاء بوعوده الانتخابية التي قطعها وحزبه على أنصاره، فلا تنمية ولا تشغيل ولا عيش كريم، بل كلّ ما قام به مراوغات سياسية كان الهدف منها سحب البساط من طرف دون آخر.

خلال تولّيه رئاسة البلاد، كان الباجي قائد السبسي مِعولا هَدَم به نجله حزب نداء تونس وتسبّب في “تشقيقه” حتّى أصبح “شقوقا” غير متماهية. فالرجل التسعيني كان ولا يزال يطمح إلى توريث الحكم لابنه لكنّه لم ينجح في ذلك. فالزمن غير زمن بورقيبة وبن علي، وشخصيّة حافظ قايد السبسي لا تخوّل له أن يكون خليفة والده، رغم كل المحاولات التي قام بها الوالد لنصرة ابنه “ظالما أومظلوما”. المراهنة على حافظ السبسي كرئيس مستقبلي للبلاد أو رئيسا للحكومة كانت فاشلة، ويبدو أن الأب قد تخلّى نهائيا عن فكرته. لكنه لم يتخلّ عن دعوته لتعديل الدستور حتّى يكون “بورقيبيّا” قلبا وقالبا، ولا نعلم هل مشكلة تونس اليوم في دستور صُرِفت عليه المليارات أم في منظومة سياسية عاجزة عن اتخاذ أصوب القرارات؟

الالتفاف على الثورة

على صعيد آخر، نجح السبسي والمحيطون به في طعن الثورة في خاصرتها بقراراته الارتجالية ومشاريع قوانينه الانتقامية. فمن جهة حاول ساكن قصر قرطاج إلهاء التونسيين بمواضيع هامشيّة من خلال دعوته للمساواة في الميراث وإلغاء المرسوم 73 القاضي بمنع زواج التونسية من أجنبي غير مسلم. ومن جهة أخرى، طرحت رئاسة الجمهورية قانون المصالحة الإدارية أمام البرلمان الذي وافق بالأغلبية على العفو عن كبار المسؤولين والموظّفين المتورّطين في قضايا فساد في فترة نظام ابن علي.

تمرير قانون المصالحة لم يكن هدفه الوحيد ردّ الجميل لرجال الأعمال والمسؤولين الذين ساندوا نداء تونس. بل كان يهدف أيضا إلى الانتقام من هيئة الحقيقة والكرامة التي عجز قصر قرطاج عن تركيعها رغم محاولاته المتكرّرة، فهذه الهيئة -رغم كل أخطائها- تبقى الحصن الذي يَعقد عليه ملايين التونسيين آمالهم حتى تُعيد لهم حقوقهم.

تزامنا مع تمرير قانون المصالحة رفض السبسي إصدار أمر يدعو التونسيين للتوجه إلى صناديق الاقتراع لاختيار مُمثليهم في الانتخابات البلدية، قبل تاريخ 18 سبتمبر الجاري، لتشهد تونس مرّة أخرى تأجيل الانتخابات البلديّة لتاريخ لاحق بعد أن كانت مقرّرة يوم 17 ديسمبر المقبل. لتبقى شؤون ملايين التونسيين مُعطّلة بسبب عدم جهوزيّة الأحزاب المنافسة للنهضة على خوض الانتخابات وخوفها من اكتساح “الإسلاميين” للبلديّات.

كلّ هذا وأكثر قام به الرئيس الباجي قائد السبسي في أقلّ من 3 سنوات من الحكم، ويبدو أنّه لن يتوقّف عند هذا الحدّ لأن كلّ المؤشرات تدلّ على أن الأخير لن يهدأ له بال حتى يشهد بنفسه وأد الثورة التونسية التي طوت معه صفحة الماضي، وقد أبى إلا أن يذكّرها بأنّ “ما بالطبع لا يتغيّر”. السؤال الذي يبقى مطروحا، هل سيصمد ساكن قرطاج في وجه التونسيين إذا ما قرّروا الثورة على نظام “السبسنعلي” من جديد؟