تزامنا مع الإعلان عنها نهاية الأسبوع الفارط، حظيت حكومة يوسف الشاهد بالعديد من القراءات السياسية التي تراوحت بين التمجيد والانتقاد. وفي زحمة الجدل حول الأسماء والحصص الحزبية أُهمِلت القراءة الاقتصادية للحكومة الجديدة رغم أن المحور الاقتصادي يشكّل مدخلا رئيسيا لفهم تركيبتها. ولئن لم تشهد الوزارات الأمنية (الداخلية والدفاع) تغييرات فإن الحقائب الاقتصادية عرفت تحويرات شاملة، وهو ما ينبؤ بأن المرحلة القادمة تَراجع فيها الهاجس الأمني لحساب الهاجس الاقتصادي خصوصا وأن البلاد مُقبلة على مرحلة جديدة من برنامج ”الإصلاح الاقتصادي الشامل“ الذي أملاه صندوق النقد الدولي.

هذا المقال يستعرض قراءة أخرى لحكومة يوسف الشاهد من خلال الكشف عن توجهات المكلفين الجدد بالحقائب الاقتصادية: الطاقة والمناجم، المالية، الاستثمار والتنمية والتعاون الدولي، الصناعة والتجارة، ووزارة الفلاحة.

هالة شيخ روحو وزيرة الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة: نصيرة الغاز الصخري

ابنة العائلة ”المرفّهة“ كما جاء على لسان محاورة وزيرة الطاقة والمناجم والطاقات المتجدّدة على قناة فرانس 24، واصلت مسيرتها السعيدة بحسب تعبير الوزيرة نفسها لتتقلّد مع رئيس الحكومة الجديد يوسف الشاهد تسيير وزارة الطاقة والمناجم. مسيرة بدأت بمعهد الدراسات العليا التجارية بقرطاج مرورا بمعهد الدراسات العليا التجارية ببمونتريال في كندا، أين تحصّلت السيّدة هالة شيخ روحو على الماجستير في المالية. من هناك، انطلقت الحياة المهنية للوزيرة الجديدة، من جامعات كندا، إلى البنك الأمريكي ”سيتي بنك“ في فرعه التونسي، حيث تدرّجت في المناصب بين سنوات 1996 حتّى سنة 2003، لتنهي عملها في واحد من أقوى البنوك العالمية كنائبة رئيس قسم المخاطر لمنطقة شمال أفريقيا. لم تبتعد السيّدة هالة شيخ روحو عن القطاع المالي، حيث كانت وجهتها التالية البنك الدولي، لتكلّف بمهام تمحورت طيلة السنوات الأربع التالية في دول أمريكا اللاتينية حول قطاع التأمين الاجتماعي والتنمية والمشاريع الصغيرة. لكنّ النقلة الحقيقية في مسارها المهني كانت مع تجربتها في البنك الافريقي للتنمية كرئيسة قسم الطاقة والبيئة والتغيّر المناخي. وقد أشرفت من موقعها على اعداد الدراسات الخاصة بتأثير انتاج الطاقة على المناخ والبيئة في دول افريقيا بالخصوص. أما في سنة 2013، فاستطاعت وزيرة الطاقة والمناجم الجديدة أن تحوز على منصب المدير التنفيذي للصندوق الأخضر للمناخ. هذه المؤسّسة الأممية التي تأسست سنة 2010، كهيئة لتعويض الدول الفقيرة عن الكوارث الطبيعية والأضرار الناجمة عن صناعات الدولة المتقدّمة.

الوزيرة هالة شيخ روحو، تتولى منصبها الجديد في واحدة من أهم الوزارات وأكثرها غموضا وإثارة للجدل نظرا لتداخل مصالح العديد من الأطراف الأجنبية والمحليّة. فقضايا الشفافيّة وطبيعة ابرام عقود الاستغلال أو التنقيب، إضافة إلى المسألة البيئيّة ودور الشركات المستغلة في التنمية والتشغيل على غرار قضيتي بتروفاك وكوتوزال، ما تزال ملفاتها معلّقة. أمّا قضيّة استغلال الغاز الصخري، والتي تنتظر المصادقة عليها، فهي تمثّل امتحانا آخر للوزيرة الجديدة، خصوصا وأنّ هذا الملّف قد حرّك الشارع ومنظّمات بيئية محليّة في أكثر من مناسبة. إلاّ أنّ السيّدة هالة شيخ روحو قد تحسم هذه القضية قريبا وهي التي نشرت في وقت سابق عندما كانت على راس قسم الطاقة والبيئة والتغيّر المناخي تقريرا يصبّ في صالح استغلال الغاز الصخري وإن كان سيسبّب اضرارا بيئيّة، لما تعتبره حسب الدراسة المذكورة ثروة ستحقّق نوعا من الانفراج الاقتصادّي للبلاد.

فاضل عبد الكافي وزير الاستثمار والتنمية الجديد: الاقتراض أو بيع المؤسسات العمومية

فاضل عبد الكافي، خَلَف ياسين ابراهيم على رأس وزارة التنمية والاستثمار والتعاون الدولي، ليس من الوجوه الحزبية أو السياسية المعروفة. ويبدو أن تكوينه الاقتصادي لعب دورا في انتدابه لهذه المهمة، فهو المتخرج من كلية الاقتصاد من جامعة باريس الأولى بانتيون السوربون، وقد سبق أن شغل خطة رئيس بورصة تونس من سنة 2011 إلى سنة 2014، وقبلها تولّى خطة المدير العام للشركة التونسية للأوراق المالية.

رغم ظهوره الإعلامي الشحيح، فإن الرجل عُرِف في الفترة القريبة السابقة ببعض المواقف الاقتصادية التي يمكن من خلالها تشكيل تصوّر حول التوجهات القادمة في وزارة الاستثمار والتنمية والتعاون الدولي، خصوصا وأن هذه الوزارة تباشر ملفات اقتصادية استراتيجية من بينها الاستثمار. وأثناء حضوره في إحدى البرامج التلفزية في أفريل 2014، تحدث عبد الكافي عن تصوره الخاص للأزمة الاقتصادية مقترحا حلّين لا ثالث لهما: إما الاقتراض أو بيع المؤسسات العمومية. وفي نفس الاتجاه دعى إلى ضرورة الانفتاح على الاستثمار الخارجي مؤكدا على أن تكون الصياغة القانونية لمجلة الاستثمار في خدمة المستثمرين الأجانب من أجل تحفيزهم على القدوم إلى تونس.

مواقف الوزير الجديد تتطابق إلى حد كبير مع السياسات الاقتصادية المهيمنة التي تندرج في إطار برنامج ”الإصلاح الاقتصادي الشامل“ المفروض من قبل صندوق النقد الدولي، والذي يقوم على معادلة: تسهيل الاقتراض مقابل تنفيذ وصايا الصندوق. وبالفعل شرعت الحكومة في تطبيق هذه الإملاءات من خلال المصادقة على حزمة من القوانين والإجراءات: رسملة البنوك العمومية، تدعيم استقلالية البنك المركزي، الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، التحكم في كتلة الأجور ونفقات التسيير والتصرّف العموميّة، و إصلاح القطاع البنكي والمؤسسات المالية…

ومن ضمن الشروط التي وضعها الصندوق، التسريع بالمصادقة على قانون مجلة الاستثمار، الذي تقدمت به وزارة التنمية والاستثمار منذ 6 نوفمبر 2015 ومازال تحت أنظار لجنة المالية والتخطيط والتنمية بمجلس نواب الشعب. ومن المنتظر أن يكون على رأس جدول أعمال المجلس في المدة القادمة. ولعل استقدام فاضل عبد الكافي على رأس وزارة التنمية والاستثمار والمعروف بتأييده للانفتاح الكلي على الاستثمار الخارجي يكشف في جانب كبير منه عن ملامح المجلة الجديدة التي ستكون في العموم محكومة بمبدأ ”دعه يعمل دعه يمر“ الذي يمكن المستثمرين الأجانب من الحصول على حوافز وامتيازات جبائية دون آثار إيجابية على الاقتصاد التونسي.

لمياء الزريبي وزيرة المالية: أداة للتنفيذ

بعد اختفاءها من التشكيلة الحكومية لحكومة الحبيب الصيد الثانية، تمّ تعيين كاتبة الدولة لدى وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي لمياء الزريبي على رأس بنك تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسّطة في 10 ماي 2016. ثلاثة أشهر بعد هذا التاريخ، عادت هذه الأخيرة لتتولّى حقيبة وزارة المالية في حكومة يوسف الشاهد بانتظار المصادقة على كامل التركيبة الحكومية في مجلس النواب في 27 من شهر أوت الجاري.

التكوين الأكاديمي الاقتصادي لوزيرة المالية وهي الحاصلة على شهادة ختم الدروس بالمرحلة العليا للمدرسة الوطنية للإدارة عام 1993 وعلى اجازة في العلوم الاقتصادية شعبة تخطيط من كلية الحقوق والعلوم السياسة والاقتصادية بتونس عام 1983، أهلّها للتدرج سريعا في الرتب الوظيفية صلب المؤسّسات الاقتصاديّة العمومية للدولة، فبدأت حياتها المهنية كأستاذة اقتصاد بالمدرسة القومية للإدارة ومعهد تمويل التنمية للمغرب العربي والمدرسة الحربية والمدرسة العليا لقوات الأمن الداخلي ، لتشغل خطّة مديرة تقديرات المدفوعات الخارجية بوزارة التنمية والتخطيط الدولي سنة 2001 ومن ثمّ مديرة عامة للتقديرات سنة 2008 صلب نفس الوزارة، ومن ثمّ عُيّنت كرئيسة مديرة عامة لشركة شبكة تونس للتجارة حتّى تاريخ تسميتها ككاتبة دولة في حكومة الحبيب الصيد الأولى في أواخر شهر جانفي 2015.

لمياء الزريبي، على عكس سابقها وزير المالية سليم شاكر، لم تخض تجربة سياسية تُذكر، واكتفت بدور تقني صلب الإدارة التونسية ومؤسّساتها الاقتصاديّة. وهو ما يجعل منها أداة تنفيذية لمشروع الإصلاح الهيكليّ الذي استوفى شروطه القانونية بعد أن استطاع الفريق الحكومي السابق تمرير القوانين الخاصّة بالقطاع المالي على مجلس النواب والمصادقة على حزمة ”الإصلاحات“ المشروطة من صندوق النقد الدوليّ القاضية بإقرار سلسلة الإجراءات التي انطلقت من رسملة البنوك العمومية ثم قانون البنك المركزي وصولا الى قانون المؤسّسات المالية والبنكية.

الدور التقني لوزيرة المالية يبدو ملائما لطبيعة مسارها المهني، حيث انتهت مرحلة الصراع لفرض شروط صندوق النقد الدولي، بعد أن أصبحت قوانينا سارية المفعول، لينتهي معها دور سليم شاكر ”رجل الاقتصاد المسيّس“ وأحد قيادات حزب نداء تونس الذّي خاض معارك عديدة تحت قبّة مجلس نواب الشعب لتمرير برنامج هيئات النقد الدولية للإصلاحات الهيكلية في القطاع المالي ضمن ما يُعرف باتفاق ”تسهيل الصندوق الممدد“.

زياد العذاري، وزير الصناعة والتجارة: فرصة ثانية لصاحب برنامج ”فرصتي“ للتشغيل

من وزارة التشغيل، ارتفعت حّصة زياد العذاري ليحظى مع حكومة يوسف الشاهد بوزارتين تم ادماجهما ضمن وزارة الصناعة والتجارة. الوزير الجديد، الذّي بدأ مسيرته السياسية مبكّرا ضمن صفوف حركة النهضة، أو الاتجاه الإسلامي حينها، تنقّل بين العديد من الوظائف على غرار مدقق حسابات لدى أكاديمية القانون الدولي في لاهاي التابعة لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، إضافة إلى العمل كمحامي في عدة مكاتب كبرى في باريس ومستشار لدى عدة منظمات ودول أفريقية مختص في تسوية النزاعات الدولية. لكنّ الانطلاقة السياسية الحقيقية لرجل القانون وخريج جامعة السوربون بدأت بعد عودة هذا الأخير بعد 14 جانفي 2011 وانتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011. حيث فاز بمقعد عن حركة النهضة بدائرة سوسة، ليستمر صعوده السياسي بتعيينه ناطقا رسميا باسم الحركة في 2013 ومسؤولا عن مكتبها الإعلامي في السنة الموالية. أما في الانتخابات التشريعيّة سنة 2014، فقد تمكن هذا الأخير من الفوز بمقعد في مجلس نواب الشعب.

مهمّة نيابية لم تستمر كثيرا بعد تعيين زياد العذاري وزيرا للتشغيل في حكومة الحبيب الصيد في جانفي 2015، لتنتهي مهمّته صلب تلك الوزارة مع التعيين الأخير على رأس وزارة الصناعة والتجارة.

الفرصة الثانية التي حضي بها الوزير الجديد لا تبدو ملائمة لمسيرته الوزارية الأولى صلب وزارة التشغيل، فهذا الملّف الذّي كان تحت اشرافه وصلب مهامه الوزارية، كاد يطيح بحكومة الحبيب الصيد في جانفي 2016 بعد اقدام الشاب رضا اليحياوي على انهاء حياته احتجاجا على اقصاءه من القائمة المرشّحين للوظيفة العموميّة والإصرار على إطالة فترة بطالته من قبل المسؤولين المحليّين. احتجاجات توسعت إلى أكثر من 16 ولاية رافعة مطلب التشغيل كاستحقاق في بلد يعاني 30 بالمائة من شبابه الجامعي من البطالة خصوصا في الشريط الغربي من البلاد. حاول وزير التشغيل زياد العذاري تسكين الوضع بإطلاق برنامج ”فرصتي“ كآلية جديدة لتسهيل إدماج الشباب في سوق الشغل، لكنّها كسابقاتها لم تكن سوى استمرارا لسياسة التسكين والهروب إلى الأمام في ظلّ غياب حلول حقيقيّة لحلّ معضلة البطالة في تونس بشكل جذريّ وفعّال. فتبخّرت الوعود بإدماج أكثر من 50 ألف شاب خلال سنة 2016 في سوق الشغل، وكذّبت المؤشّرات وملاحق الميزانية العمومية القاضية بتجميد الانتدابات وتواصل العجز، دعاية وزارة التشغيل ووعودها. لكنّ زياد العذاري وحده حضي بفرصة ثانية لتقلّد منصب وزاري جديد، لم يكن فيه للكفاءة دور بقدر معطى المحاصصة والتحالفات الحزبيّة.

سمير بالطيب وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري: وزير على حين غرّة

مشاركة الأمين العام لحزب المسار الديمقراطي الاجتماعي سمير بالطيب في حكومة يوسف الشاهد لم تكن متوقعة بالنسبة للكثير من المتابعين، لأنها تضاربت مع تصريحاته السابقة. إذ عبّر الأمين العام لحزب المسار منذ اللحظات الأولى عن استياءه من تكليف يوسف الشاهد بتشكيل الحكومة معتبرا أنه ”شخصية لا يستجيب لمتطلبات المرحلة“، وبعد مشاركته في مفاوضات التشكيلة الحكومية أكد من جديد أن حزبه لن يشارك في الحكومة القادمة.

هذه المُمانعة لم تصمد كثيرا أمام مقترح حقيبة وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري التي تُعتبر من الوزارات الاقتصادية المهمة، رغم أن الكثير لا يقيم لها وزنا كبيرا. وقد غابت عنها طيلة السنوات الفارطة الرؤية الاستراتيجية مقابل استمرار الخيارات الفلاحية القديمة المرتبطة بالارتهان لصندوق النقد الدولي. وفي هذا السياق يُطرح سؤال مهم: أي دور للأمين العام لحزب المسار في وزارة الفلاحة؟

سمير بالطيب الذي التحق بحركة التجديد بعد الثورة (التي ضمّت إليها حزب العمل التونسي وشخصيات مستقلة لتشكّل حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي) يُعتبر نظريا من ذوي التوجهات اليسارية الاجتماعية. ولكن مشاركته في حكومة تهيمن عليها النزعات اليمينية الليبرالية أشبه بالصيحة في واد، لأن المسألة الفلاحية في تونس لا يمكن معالجتها إلا من خلال منظور اقتصادي شامل يأخذ بعين الاعتبار قضية السيادة الفلاحية، وهو ما يتعارض مع الخيارات الليبرالية الواضحة لحكومة الشاهد. ومن هذا المنطلق سيجد الوزير ”اليساري“ نفسه في حظيرة تنفيذ التعليمات، وسيظهر هذا في العديد من الملفات الشائكة في الوزارة من بينها مجلة المياه والإصلاح الزراعي المؤجل واستيراد المواد الفلاحية، وغيرها…ولعل سمير بالطيب نفسه يدرك حقيقة هذا التناقض، ولكنه فضّل الاستسلام لجاذبيّة الموقع، الأمر الذي لقي معارضة من قيادات في حزب المسار، على غرار جنيدي عبد الجواد الذي اعتبر مشاركة بالطيب ضرب لمصداقية الحزب.