mirador-carthage-Eucalyptus

توضيح أولي

قضايا البيئة، من أبسطها إلى أعظمها، كلها متكافئة القيمة مع بقية القضايا الإنسانية. هذا من الناحية المبدئية الأولى. من جهة أخرى، لا يتحمل مسؤولية تصرف ما سوى أصحاب القرار فيه، مع التنويه أن الطاعة في التنفيذ قرار كذلك. لنفترض مثلا حافلة مليـئة بالركاب. ينادي الركاب بمحطاتهم و لا يتوقف السائق، موليا إياهم بظهره. يصم آذانه طوال المسافة، ثم فجأة يتوقف بمحطة و يلتفت لراكبين دون غيرهما مشيرا لهما بالنزول، و الإبتسامة ملء محياه. هذان الراكبان، كغيرهما، كانا قد أشارا قولا لنيتهما النزول بالمحطة المذكورة قبل لحظات. ستكون هاته الأمثولة ميزان المقارنة المعتمد لباقي الحديث.

الكلتوسة

هكذا يسمى شجر الكافور في بلادنا وفي المناطق اللتي تمتلئ بها عائقا في الطريق إلى المدرسة البعيدة. الكلتوسة المعنية بالأمر هنا شجرة عريقة، شهدت من تاريخ البلاد ما لم يشهده غيرها، حتى رئيس قرطاج الحالي. كانت تمتد شامخة أمام محل مرطبات راق بضاحية قرطاج، اقتطعها صاحب المحل، رغم قدم سنها. في هذا الفعل اعتداء صارخ على الطبيعة و على حق الجميع في البيئة. و هو ما يكفي لإدانة هذا الفعل، و كل من ساهم فيه بقرار، سواء كان قرار قطع الشجرة أو قرار الطاعة في التنفيذ.

الرعونة : و هما في الأساس رعونتان

رعونة أولى : صاحب القرار و التنفيذ هو المسؤول المباشر و الأولي و الواضح دون أي لبس. حين قطع الشجرة، انطلقت موجة استنكار عفوية و امتعاض عال الصوت، من قبل العديد من المواطنين اللذين رأوا في الأمر، عن وجه حق، اعتداءا عليهم. تعالت الأصوات عبر المواقع الإجتماعية، و عبر الجمعيات المواطنية. هاته المرة كان التجاوب فوريا و مباشرا. فتمت إقالة رئيس البلدية و معاونه و حل النيابة الخصوصية. و ذلك انطلاقا مما تكرر عن اتفاق شفوي حصل بين البلدية و صاحب محل المرطبات. هنا تأتي الرعونة الأولى. لا علاقة عضوية بين رئيس البلدية و النيابة الخصوصية من جهة، و الفعل اللذي استوجب الاستنكار.

قام شخص بعمل ما في نطاقه الخاص، و اعتدى على الجماعة بفعله حين لامس المشترك بقراره و فعله. على البلدية أن تستنكر فعله، ربما، و تردعه بتنفيذ التراتيب المتاحة لها ضده. لكن بعد الفعل، و ليس قبله. ليس للجماعة الحق في الحكم على النوايا و إن وجدت. يحكم العقل (وهو ميزان المشترك المفترض) على الفعل، و يعتبر دواعيه كعوامل. ليس للذات المعنوية اللاشخصية أن تحاسب النوايا، مهما كانت. نية قطع الكلتوسة ليست اعتداءا. قد تكون فكرة سيئة. لكنها خارج نطاق الممثل الرسمي للذات المعنوية المشتركة. ”لاشخصية“ الذات المعنوية (بلدية، نيابة خصوصية، دولة …) تلزمها التعامل بقوانين الفيزياء الميكانيكية الباردة. في الفيزياء، لا معنى لرد فعل على ”نية“ فعل. ”الحديث عن اتفاق شفوي“ ليس دليلا، ولا مقوما للقرار، ولا حتى ركن إدانة. خصوصا أمام اعتبار الذات اللاشخصية.

الإنكسار مباشرة أمام ”ما يحكى“ حد اعتباره مقوم الركن و الدليل القائم على معلومة موثوقة و مؤكدة، و فعل ”شيء ما“ يعالج ”ما يحكى“ دون اعتبار لمقتضى عقلاني، تلك رعونة في أحسن الحالات [تلك اللتي نفترض فيها حسن النية]. كمثل اللذي آلمته رؤية أخيه يتعرض للضرب، فضرب أول من اعترضه. هاته الرعونة لازالت مكونا من مكونات العقل السياسي التونسي الرسمي. ما صار، على أرض الواقع، ليس استجابة لإشكال ما حقيقي (نطاق تدخل المجموعات المحلية، حدود المصالح الربحية و مدى أحقيتها في تقدير المشترك، مشكلة التراث البيئي، جمالية المشهد المدني)، بقدر ما هو تنصل من المسؤولية و بحث عن ربح سياسي مباشر، بالتجاوب الرعواني مع أصوات مستنكفة. و هنا تأتي الرعونة الثانية.

الرعونة الثانية : عرفت تونس، و تعرف، عديد الحملات الصارخة المستنكفة، و كل بطابعها : ثوري، ديني، مدني، مواطني، اجتماعي، نسائي، حقوقي. يكفي أن تقرأ جداول المؤشرات اللتي تنشرها المنظمات الدولية (الموثوقة منها و الموجهة، حتى الكاذبة منها ترتكز على جانب هام من الصحة. الپروپاڨاندا المعاصرة تعتمد على المعلومات الصحيحة أكثر من اعتمادها على المعلومات الكاذبة. كل إبهام يطلق المجال للتأويلات المتعددة، و ذاك مجال تدخل الپروپاڨاندا المعاصرة، نشر التآويل)، و تنظر للأرقام المجردة، كي تتوقع كمية لا بأس بها من المشاكل الإجتماعية و الفردية و الإنسانية العميقة المطبوعة بالمآسي المعيشة يوميا، المتفشية. تلقى صراخ الكلتوسة أذنا سامعة. الدليل على ذلك قرار سياسي. تم السماع و التجاوب بصفة شبه فورية [24 ساعة]. في نفس الزمان و الفضاء تتعدد الحملات المختلفة، المستهينة أمام ذاك المشكل أو ذاك. صراخ عوائل المختطفين بتهمة شبهة إرهاب لأنه ربما كان يؤدي صلاة الفجر في وقتها، صراخ المحرومين من التمتع بفرصة حياة تستأهل حروف اللفظ أمام انعدام الأفق حتى من القاموس، صراخ المستنكفين من منظومة ”معمل الذل“ المكرس لأمراض مجتمعية قديمة و المتأصل عبر شرطة و قضاء، و صراخ من لم يجف دم أبنائهم بعد، و غيرها من الحملات الصارخة المختلفة. أن يتم التجاوب مع الكلتوسة ليس دليلا علي قابلية القصرَين [لا أقصد عاصمة الشهداء، بل ذاك الكائن ذو الرأسين المنتصب عبر القصبة و قرطاج] للتجاوب مع الصراخ، و ليس دليلا على تفاعل الدولة مع المواطنين. كما هو حال السائق فاتحا الباب للراكبين : ليس دليلا أنه يمارس عمله. قد يكون مؤشرا على قابلية الدولة ألا تستمع إلا للكلتوسة، عبر مالئيها الحاليين. و مثل هاته الرسالة، في هذا الظرف، هي على الأقل، و في أحسن الحالات، رعونة.

الحنق

حين يتجاوب السائق مع راكبين دون غيرهما، يتولد الحنق لدى الباقين اللذين تفوتهم محطاتهم في بطـئ و صمت إلى أن تبح أصواتهم موجات في العدم. هذا الحنق، يتيح الغضب و الغل و غيره من أحاسيس الرفض السوداء المغوية طبعا بالعنف كتعبير. في الأساس، الخطأ متأت من السائق. حين يكرر السائق هذا التصرف، يصير الراكبان المعتادان على النزول محط حنق الجميع. و هو أمر مفهوم، بقدر ماهو كذلك حكم غير سليم. فالراكبان في الأساس لا مسؤولية لهما في قرار السائق ولا تبعاته. أن يفضل أحدهم هذا على ذاك، ليس مسؤولية هذا أو ذاك في الأساس. و في التكرار الأول كذلك. لكن، إن أعاد السائق الأمر مرارا و تكرارا، يصير كالقاعدة الصامتة، مستنبطة في الذهون. مثل استنباط الدينامو السريع الحركة بين حقول مغناطيسية، للكهرباء. و يترسخ الراكبان كوجهة أخرى للحنق. إلا إذا التفتا لمقارنة ما يحصل معهما مع ما يحصل مع بقية الركاب، باعتبار نفسيهما جزءا من الحافلة. حين تكون جزءا من مجموعة، للأسف، تكون مجبرا بواقع الإنتماء على تقاسم سلبيات و إيجابيات المجموعة حسب توزيع ما يتبع منطقا ما، هذا ما تعلمنا إياه الرياضيات. ما ينطبق على مجموعة الأعداد الواقعية ينطبق على مجموعة الأعداد الطبيعية (التي هي جزء منها) حسب توزيع يتبع منطقا معينا. أمام الفارق الفاصل على أرض الواقع، عادا إلى الحافلة، ولابد من الإختيار : إما مواجهة السائق و بذلك يتأكد الإنتماء للمجموعة الراكبة، و إما الصمت المتواطئ. انطلاقا من الإحساس أنه ”من مهام السائق أن يوصلني“، و عدم المرور إلى الأساس و هو أن ذلك ”حق الجميع“، و حقه كـ”أحد الجميع“. في الأساس، حين نتعمق أكثر، ذاك الحق الجمعي هو اللذي أدى إلى فكرة الحافلة نفسها، قبل تصميمها أو صناعتها أو حتى التفكير في كيفية سياقتها. و هو اللذي أدى بالجميع من الأساس للتواجد بالحافلة. إذا اختار الراكبان الصمت، يغدو من المفهوم إن حل يوم بلغ فيه الحنق مداه، و انتفض باقي الركاب، حابسين السائق و مفضليه، حارقين الجميع، مواصلين طريقهم على الأقدام. يكفي أن يرفض أحد الراكبين الخضوع لتفضيل السائق، ليختفي هذا الإحتمال.

كذلك الأمر أمام صراخ الكلتوسة المسموع في القصرَين، بين كم الصراخات المصمومة الآذان عنها، المتأتية من أماكن لا كلتوسة فيها، سوى بعض الكلتوسات العارية. صراخ بلا انقطاع منذ عشرات السنين لدى البعض، و منذ قرون لدى البعض الآخر. و في الأثناء، يتغلغل الحنق، و هو اللذي كما رأينا لا يتبع المنطق الصوري. بل هو أعمى، كصمم السائق.