martyrs-tunisie

  بقلم فريد الرحالي،

ثلاث سنوات بعد فرار راعيه، رفيق الحاج قاسم وثلة من زملاء العربدة السياسية خارج القضبان بعد أن اسعفته مطرقة القضاء العسكري التي تنتمي موضوعيا إلى منظومة” رديئة” ضربت خراطيم الخلق ودقت رقابهم ولم تكتفي رغم ذلك إلى حدود اليوم، عكس ما  قد يذهب إليه البعض…ثلاث سنوات تفصل هذا الحكم عن سقوط رَأسِ نظام آثم لا ينفك إلى حدود اللحظة يشحذ سكينه للافلات من العقاب . “يبدو أن الأمر وُسِد عنوة إلى غير أهله منذ البدء”، كما صرح بذلك السيد عمر الصفراوي الذي لم ينكر صفة” المهزلة” و”الكارثة”  عن هذه المحاكمة ، “حيث شَكَلَتْ علامة فارقة في المسار الثوري عموما بما أنها أجهزت على الشهيد مرتين”، مرة بالرصاص و أخرى بالمحكمة العسكرية “الجائرة”، التي “أوهمت المحامين  في الفترة السابقة أن الامور تتجه إلى إنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة”.

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن . الجلاوزة طُلَقَاءُُ يستعيدون في سياق تاريخي دقيق امتيازاتهم تباعا و بنفس النص التشريعي الذي خِيط على مقاسهم منذ زمن المخلوع . قبل تَشَكُلْ منظومة 23 أكتوبر وبعده ظل الشهيد سيد الغرباء، ربما بفعل الناكثين باسم الدين والمولى أو بفضل من سار على هديهم ممن إعتقد أن النعال قد خفت على المقابر  فقرر أن  يَئِدَ لغز القنص و يصفي بذلك أخطر ملف يشد وثاق النظام القديم إلى من  سار على خطاه من “جيل ما بعد  14 جانفي”، من الغنوشي إلى السبسي إلى الترويكا إلى مهدي جمعة و أولئك الذين عكروا  ماء الثورة كي يصطاد فيه القتلة والمجرمون. الكثير من اللغط  يدور حول هذا الملف الذي إنتهى ب”احكام” مخففة بالنسبة لمن نفذ “جريمة نظام” و أشرف عليها، و في مقدمتهم وزير الداخلية الأسبق رفيق الحاج قاسم والسرياطي وغيرهم من رموز الاستبداد و البربرية.
 

حيثيات الصفقة بين جِهَازَيْ الداخلية و الدفاع

 
قبل  المرافعة شدد القائمون بالحق الشخصي على ضرورة  توفر شروط المحاكمة العادلة للمتهمين في قنص 317 شهيدا في مختلف الجهات الذين قضوا نحبهم بأمر من بن علي شخصيا، حسب شهادة محمد الغنوشي نفسه  بمحكمة الكاف  بعد أن تم تشكيل خلية أزمة  بُرِئَ أعضائها من القيادات الأمنية التي أمرت بالقتل  ووفرت الذخيرة ودفعت بالتعزيزات  إلى تالة والقصرين .
المسألة لا تتعلق بالغباء أو سوء التقدير، بل لأن هيئة الدفاع لا تُؤمِنُ ب”الكرسي الفارغ” وجازفت بمتابعة الملف إلى  نهايته، كما صرحت بذلك الأستاذة ليلى حداد. ربما تكون  استتباعات هذا التمشي “مفاجئة” أو “صادمة” للبعض أو مدعاة للتضامن والتعاطف بحكم أنها “صدرت عن هيئة مستقلة (لذا) لا يمكن أن تكون  مناسبة ولا مادة للتشكيك  في مؤسسات الدولة القضائية والأمنية والعسكرية”، كما جاء في بيان حزب نداء تونس. لكن الحقيقة  أكثر عمقا فقد استطاعت هذه الأحكام ان تعري مآلات  ثلاث سنوات من الشد والجذب  في إطار مساعي ترميم المنظومة القديمة  في جميع مستوياتها  في أفق إسترجاع السلطة . جملة الخروقات التي صاحبت المحاكمة والحجج الدامغة بتورط المتهمين كشفت  خيوط “صفقة بين وزارة الداخلية ووزارة الدفاع”، كما ذهب إلى ذلك الأستاذ شرفي  الدين قليل  نظرا إلى أن كلا الجانبين على بينة بما اقترف “غريمه” و يمتلك القرائن البالستية والطبية لإثبات روايته . فالعسكري محمد السبتي بن مبروك، بعد ان أُدِينَ بخمسة سنوات سجن  بتهمة القتل العمد في حق الأمني أمين القرامي ، خُفِف الحكم لصالحه إلى سنتين سجن مع إيقاف التنفيد في محكمة الاستئناف العسكرية  “بتهمة القتل على وجه الخطأ”، هذا إضافة إلى ملف واقعة العوينة يوم 15 جانفي التي واجه العسكريون خلالها تهمة القتل على وجه الخطأ (352 طلقة نارية أصابت إحدى السيارات الأمنية المكلفة بالتمشيط في الجهة).

في ظل توفر هذه “المعطيات لدى  أطراف أمنية و نقابية صلب وزارة الداخلية   أستعمل البعض منهم فزاعة الإرهاب والإنفلات الإمني الحدودي مطية للإبتزاز مقابل إطلاق سراح زملائهم الموقوفين في أحداث الثورة واسْتُعْمِلَتْ نفس هذه المعطيات في الضغط على  وزارة الدفاع بما تمتلكه من أدلة دامغة تثبت تورط العسكريين وعلى رأسهم رشيد عمار ورضا قريرة”. ورقة الإرهاب يُرَادُ بها ،حسب  تصريح الأستاذ القليل، فرض التطبيع مع المنظومة السابقة ومسلكيتها وتكريس الإفلات من العقاب  في مستوياته السياسية والقضائية.

النخبة السياسية، البيانات، الصدمة، الأبعاد…

في ظل المعطيات التي قدمت للعموم من طرف هيئة الدفاع والتي تصب في عمقها في مساعي النظام السابق لإعادة ترتيب بيته الداخلي، لم يعد من العسير أن نستشف أن لا شيء يسير وفقا للصدفة في هاته المحاكمة وفي تعاطي  “جيل ما بعد الثورة” من الساسة مع تصفية تركة الإستبداد. فالقضاء المدني قام بتبرئة أبرز الوجوه التي شاركت بن علي جرائمه الإقتصادية و السياسية و الإنسانية (الزواري و الغرياني و بن ضياء والتكاري وغيرهم ) و إعتلت  عديد الوجوه التجمعية المنابر الإعلامية وصارت لا تستحي من الدفاع عن النظام البائد وزبانيته كعبير موسى و القروي ومرجان .إضافة إلى ذلك لم يَطرأ على منوال التنمية الإقتصادي والإجتماعي النوفمبري أي تغيير يذكر بحيث أن أركان المنظومة البنفسجية لا زالت في جل مستوياتها قائمة الذات، إذا ما أستثنينا بطبيعة الحال هامش الحرية السياسية الهش الذي حالت الحركة الديمقراطية والإجتماعية دون الإلتفاف عليه .وإذا كان من الطبيعي بالنسبة لرموز النظام السابق أن تلهث دون حياء وراء إستعادة عذرية مفقودة، فكيف نفسر إفلات هؤلاء من العقاب وكيف نقرأ استعادتهم لحياة شبه طبيعة في ظل مواطنة غير منقوصة يستوي فيها المجرم و ضحايا التنكيل والملاحقة والتعذيب.

المسألة بنيوية في عمقها و إحدى  رافعاتها سياسية وحزبية بالأساس .فلولا أن النظام القديم لم يسترد  شيئا من عافيته  وتقدم خطوات هامة في إتجاه التوازن، ولو لم يسترجع الشيء الكثير من هيبته لما سمح نداء تونس لنفسه كتعبيرة حزبية أن ينهى الرأي العام عن “التشكيك في المؤسسة العسكرية والقضائية”، بصفته المرشح الأكبر ليكون حاضن التركة التجمعية في صيغتها البورقيبية كما يدعي، في مستوياتها الإديولوجية و المؤسساتية، إلى جانب احزاب أخرى ذات نفس الخلفية ، ك”الوطن” و”المبادرة” والحركة الدستورية”. كل هذه الأحزاب لها مصلحة موضوعية في الإبقاء على الحطام الذي خلفته رياح الثورة وترميمه و- الإرتكاز عليه من أجل مواجهة قوى الدفع الحقوقي و الإجتماعي، لا سيما  باسناد العمود الفقري للدولة، أي الدفاع  والداخلية والقضاء،  بنفس المنطق الذي عبر عنه السبسي في 2011  حين نادى بضرورة إعادة الإعتبار لهيبة الدولة في الوقت الذي كان التونسيون ينادون خلاله باسقاط دولة الفساد ورموزها…

فرغم الحجج الدامغة التي قدمها المحامون، يصر نداء تونس على كون القضاء العسكري مستقل و إمكانية التقاضي مازلت ممكنة في نفس هذا الاطار. فلماذ هذا الإصرار على الدفاع عن هذه المؤسسة في الوقت الذي تنادي فيه عديد الحساسيات السياسية بضرورة سحب الملف من القضاء العسكري؟  ومن له المصلحة في ذلك ؟ وإذا كانت هذه التعبيرة السياسية مسؤولة عن محاولة  إيجاد الشروط المادية لإحياء النظام القديم فالسبب يعود بشكل أساسي إلى 3 سنوات من حكم الترويكا وعلى رأسها حركة النهضة التي عبرت عن صدمتها  بعد النطق بالحكم، رغم أنها اشرفت أمام وزارة حقوق الانسان على تعنيف عائلات الشهداء المطالبين بحقهم في معرفة الجناة ومحاسبتهم. فقد آثرت حركة النهضة الإستقرار المغشوش على محاولة إيجاد الحلول الجذرية، و أدخلت عديد الوجوه التجمعية إلى بيت الطاعة وحاولت الإستفادة من الموروث الجاهز  فعاد عليها بالضرر  وحوّلت ثورة الشعب التونسي من ثورة للكرامة والحرية إلى ثورة ملونة يحل  القديم  فيها بتسميات أخرى وبأشكال عدة.

رئيس المجلس التأسيسي صرح بدوره أن القضاء العسكري في قبضة الثورة المضادة فلما لم يصرح بذلك من قبل ولما لم يتقدم في إصلاح  هذه المنظومة وهو في الحكم. يبدو أن الترويكا لم ترى في تركة التجمع سوى مارد يجب استمالته والإستفادة منه في معاركها السياسية. و تدفع عائلات الشهداء والثورة عموما نصيب الأسد من هذه التجارة.