استقلال-ـتونس

بقلم فريد الرحالي،

تحيي تونس هذا اليوم ذكرى “الاستقلال الوطني” تخليدا لتضحيات الفلاقة والنخبة النقابية التي استبسلت في سبيل دحر الاستعمار. وطالما وظف هذا اليوم حزبيا فعادة ما تحول رموز المقاومة إلى أيقونات تستدعى ذاكرتهم رمزيا لاثبات النسب التاريخي للتجمع الدستوري الديمقراطي من بورقيبة إلى بن علي إلى المرزوقي. الكل يزعم أن حكمه إستمرار لمعركة بنزرت و ساحة الحلفاوين وبلهوان و الجلاز ورحبة الغنم و المنجي سليم و فرحات حشاد وغيرهم ممن قضى وهو واقف كالنخيل.بالامس القريب لم يكن من اليسير مسائلة هذا التاريخ على وقع صخب لجان التنسيق والعمد والوشاة..أما وقد ألت الامور إلى ما هي عليه اليوم فمن الضروري أن تكون الدلالات السياسية و الإجتماعية والاقتصادية والثقافية لهذا التاريخ بينة للجميع فليست المسألة عاطفية إلا بقدر وجوب الإنحناء أمام قامة الشهداء و التمترس من أجل أن يكون الفعل النضالي المعاصر بوابة تفتح على ما أراد الدغباجي والجربوعي والطاهر حداد و بن غذاهم وبن سديرة و الشرايطي.

بروتوكول_إستقلال_تونس

20 مارس 1956 و شبح الفيتنام المغاربي

على عكس ما يمكن أن يتبادر إلا أذهان البعض بأن المنجي سليم أو الحبيب بورقيبة هما اللذان ترأسا وفد التفاوض مع الاقامة العامة فإنه من الضروري أن نذكر أن الحبيب عمار هو من تكفل بهاته المهمة وقد كانت هذه الخطوة توصية من المؤتمر السري للحزب الدستوري المنعقد في 18 جانفي 1952 والذي أكد أنه”لايمكن التعاون المثمر بين البلدين إلا بإنهاء الاحتلال، واستقلال البلاد، وإبرام معاهدة صداقة وتحالف على قدم المساواة”.

إلا أنه لم يكن من الممكن أن يذعن كرسيان بينو لولا إعلان المقاومة المسلحة في اواخر1951 .أن فصل المعاهدة عن سياقها التاريخي لا يمكن أن يسهل فهم الارتباط الوثيق بين ما كان يحدث في تونس وفي العالم .لقد كانت البلاد قبل منتصف القرن العشرين مسرحا للصراع بين المحور (ألمانيا وإيطاليا) والتحالف (بريطانيا والولايات المتحدة وفرنس) الذي استباح تونس في أواسط 1943 و اذاقها التنكيل بتعلة التعاون مع دول المحور الشيء الذي دفع الحركة الوطنية إلى اعلان الاضراب العام سنة 1947 تلاه عمليات فدائية من الجنوب إلى الشمال (أبو لبابة، القوافل العسكرية في سوسة والعوينات وصفاقس ) ردت عليها السلطات الفرنسية بتشكيل اليد الحمراء التي نسف مقرها من طرف الفلاقة فيما بعد بقيادة الطاهر الأسود وبلقاسم البازمي، وسعد بعر، وعلي بوالشنب المرزوقي، وأحمد الأزرق، ومصباح الجربوع، والساسي البويحي، وعمار بني.

و قد كان اندلاع المقاومة في الجزائر خير حافز للجربوعي ورفاقه. إذا لم يكن امضاء الاستقلال الداخلي في جوان 1955 و”التام” في 56 سوى نتيجة لميزان قوى فرضته السواعد والعزيمة الوطنية. فكانت كل المؤشرات تدل على نشأة فيتنام مغاربية يجب ترويضها قبل أن تتحول إلى حالة عامة تكنس الاستعمار من جذوره بعد هزيمة الجيش الفرنسي في الهند الصينية سنة 1954 فراحت باريس تبحث عن مخرج مشرف يضمن مصالحها وباخف الاضرار. إذا كانت المقاومة المسلحة الرقم الصعب الذي يخشاه المقيم العام و ما بعثة الامم المتحدة لبحث وضع السجناء السياسيين وما أوصت بضرورة الانطلاق في مفاوضات بين تونس وفرنسا إلا مخرجا أمميا. في الواقع أن فرنسا كانت تخشى أن تحل الولايات المتحدة الأمريكية مكانها إذا ما خسرت المفاوضات وهو الذي جعلها “تعترف رسميا بالاستقلال الداخلي لتونس، وتنادي به، وتريد تأكيده على عين الملإ، وتريد أن توفّر له أسباب النجاح”، حسب تصريح رئيس الحكومة الفرنسية منداس فرانس يوم توقيع إتفاقية الاستقلال الداخلي بقرطاج في 31 جويلية 1954. لقد كانت هاته الاتفاقية بغض النظر عن مضامينها ثمرة للمقاومة الوطنية الشعبية ولا يجب في أي حل من الأحوال نسبتها إلا هذا الحزب أو ذاك وإذا كان لزاما علينا الاحتفال بهاته الملحمة فمن المشين أن يتم توظيفها لاثبات الشرعية والنسب.

فرنسا والبحث على حصان طروادة

نشب خلاف بين رفاق الدرب حول تسليم سلاح المقاومة حيث رفض بن يوسف أن يجرد المقاومون من عتادهم في إنتظار ما ستؤول إليه المفاوضات في حين كان بورقيبة حديا و تمسك بنزع كل مظاهر التسلح. ولم يكن الأمر المؤرخ في 19 أفريل 1956 الذي تأسست بموجبه محكمة القضاء العليا لمحاكمة «الذين يقومون بأعمال شغب بعد تاريخ إعلان الاستقلال» وذلك لصيانة استقلال البلاد من «عبث العابثين» وتمكين المعارضين للاتفاقيات التونسية الفرنسية من «العودة إلى الحضيرة القومية» سوى الشكل القانوني لتصفية الراي المخالف للاتفاقية المبرمة. لم يكن بورقيبة راضيا على ما يجمع بن يوسف بالمقاومة الجزائرية والمصرية انذاك ،خاصة بعد الاحتجاج التونسي لدى السلطات الليبية التي قررت ترحيله فاستقر في مصر ولما افتتحت تونس سفارتها بالقاهرة أعلمت الدبلومسية التونسية نظيرتها بضرورة غلق مكتب تونس المتفرع عن لجنة تحرير المغرب العربي لأن تونس أصبحت دولة مستقلة لها سفارتها بالقاهرة حيث لم يبق موجب للإبقاء على ذلك المكتب خصوصا بعد أن تم ذلك في المغرب وتم تعويضه في الجزائر بجبهة التحرير الوطني الجزائري. و عليه وعد عبد الناصر بغلق مكتب تونس وإيقاف نشاط صالح بن يوسف. الظاهر أن المقاومة المسلحة كانت لا تروق لبورقيبة الذي تحكم في مؤتمر سوسة في مارس 1959 قائلا “الفلاقة ببنادقهم الصدئة يقولون اننا أخرجنا فرنسا، فرنسا اخرجتها أنا بعقليتي ودبلوماسيتي..” لابد أن نذكر أن “لجان الرعاية” تشكلت من الشق البورقيبي بالتعاون مع الجيش الفرنسي لكتم صوت الرافضين لهذا التوجه. و كان رأس لزهر الشرايطي ورفاقة ثمن تمكين نظام الحكم الجديد و تركيز لدعائم استقراره. وانطلق “صباط الظلام” ونادي” الدويرات” و التعذيب في الدولة الفتية التي اعطت إشارة إنطلاق ماكينة الاستبداد الأرعن الذي لن يتوقف في شكله الدستوري إلا بفرار بن علي…من الواضح أن فرنسا نجحت في ضرب الصف الوطني وغلبت هذا الفريق على غيره ودعمت بورقيبة للحفاظ على مصالحها…

بين الأمس واليوم إستنساخ نفس الخيارات بوجوه جديدة

بادر بورقيبة بسن جملة من القوانين الردعية التي تمس من حق الشعب التونسي في الحرية التي دفع ثمنها من أرواح ابنائه. صدر قانون الصحافة في 1957 و قانون الجمعيات في 1959 لتكريس التضييق على حرية التعبير والتنظيم .إنطلق بعد ذلك في تزييف الانتخابات التشريعية سنة 1959 وضمن أغلبية المقاعد كما حول تدجين المنظمات التي كانت تشكل مصدر خطر بالنسبة له كالاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس كما أسس الاتحاد القومي النسائي التونسي. في الميدان الفلاحي حافظ المعمرون في تلك الفترة على أكثر من 400 ألف هكتار كما كان قطاع الصناعة تحت تصرف الاستعمار الفرنسي فلم تشتري الدولة سوى 50% من شركة صفاقس قفصة أما مناجم الحديد والفسفاط فبقيت بيد الشركات الفرنسية (65% من قيمة المنتوج المنجمي العام).في نفس الحقبة انطلق النظام البورقيبي في الإلتجاء إلى “القروض المشروطة” من الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي و تشكلت في الابان عديد الشراكات الأجنبية (الشركة التونسية الايطالية للتكرير، شركة عجينه الورق مع أمريكا، شركة عصير الغلال مع الشريك الألماني، الشركة التونسية للسكر مع فرنسا ،…). بطبيعة الحال تمتع الأجانب باعفاءات جمركية حسب أمر 29 ديسمبر 1959 و تم تشكيل صندوق ضمان الاستثمارت الأجنبية .في المجال البنكي يستأثر الفرنسيون ب-55% من رأس المال البنكي الجملي (من جملة 18 بنك في تونس سنة 1961 كان 10 منهم أجنبيا). إلى جانب الفرنسين كانت اليد الأمريكية تتقدم بثبات إلى نفس هذا القطاع حيث تبلغ المساهمة الأمريكية في الشركة التونسية للبنك و الشركة التونسية للاستثمارات والبنك القومي الزراعي 56% وهو ما سيجعلها فيما بعد تفتك نصيب الأسد من الاستثمار على حساب فرنسا. إذا لم تكن معاهدة 20 مارس سوى شكل جديد من أشكال بسط الهيمنة. إنتقال من الاستعمار العسكري إلى إستعمار بطرق أقل عنفا لكنها أكثر فاعلية وجدوى . أن الاستقلال الحقيقي هو الذي يمكن تونس من الانعتاق من سطوة الأجنبي لكن 20 مارس 1956 وما لحقها من اجراءت لم يغير الامور في جوهرها لذا إذا كان من الضروري أن نذكر بهذا التاريخ فعلى سبيل تبيان واقع الأشياء وربط التضحيات بمنطلقاتها الحقيقية. وقد سار بن علي بطبيعة الحال على خطى سلفه حيث قام بترميم الدمار الاقتصادي والاجتماعي بدمار لا يقل عنه بداية من الاصلاح الهيكلي في منتصف الثمانينات إلى التداين وبيع مقدرات الشعب التونسي و تحجيم الدور الاجتماعي للدولة.

لم يخرج الاستعمار من قلوب البعض كي يخرج من الأرض

يبدو أن ساسة الثورة يحنون إلى الماضي و يرون الغد بنظارات منداس فرانس. يثنون على التونسيين وينحنون أمام ما قدموا من ملاحم منذ 56 إلا 14 جانفي إلا أن سيوفهم على رقاب العامة. الم يكن من الاجدى أن تراجع الحكومات الستة اللتي تولت سدة الحكم المنوال التنموي الدستوري .هل كف نزيف المديونية والتسول من الخارج أم أن الجماعة من معشر إن لم تستحي فافعل ما شئت ؟ الم تنصص ميزانية 2014 على تخفيض ضريبي من 30إلى 25 % على أرباح الشركات الاجنبية ؟ هل من الشرف في شي أن يثني بن جمعة على ملك أل سعود وهو الذي استجار به بن علي فاحسن الضيافة ؟ أهذا شرف الثورة وقوافل من الشهداء والتاريخ الحافل بالملاحم الوطنية تنتظر الحقيقة دون زيادة أقو نقصان ؟ هل إنتفض الشعب التونسي ليسوس ثرواته أم أن دار لقمان ستبقى على حالها حيث يزداد الغني ثراءا من جيوب الاجراء ؟ لما تطورت نسبة الأثرياء ب-16 % بعد الثورة ؟ لما لم تفرض الحكومة جباية عادلة تدعم موارد ميزانية الدولة ؟ أية مصير لجيب المواطن بعد الزيادات المتتالية في الاسعار؟ ألم يكن من الأجدى أن تلتفت الحكومة إلى المثال البرزيلي والاكواتوري لايقاف سداد ألدين الكريه بعد ثلاث سنوات من الفوضى والاغتيالات. أليس من باب الاستغفال والضحك على الذقون أن يذكر المرزوقي في هذا اليوم الشباب التونسي “أن الاستقلال الذي ينعمون به لم يأت بالصدفة أو هدية من السماء بل أن وراءه تضحيات اجيال وأجيال من التونسيين” في حين أنهم إستأمنوه فلم يفعل شيئا لمصابهم من جراء الالتفاف ؟ يتحدث عن السرقة والنهب في عهد المخلوع فماذا يسمى اهدار المال العام في المجلس التأسيسي ورئاسة الجمهورية ؟ فماذا يسمي سلوك الترويكا وعذرها ضعيف؟ فلا نزاهة القصد ولا تفاني في المبدأ !