بقلم المختار اليحياوي

كلما عاد الحوار حول ما أصبح يعرف عندنا بالعودة و المهجّرين تنتابني خواطر تجعلني ألجم قلمي مخافة أن أسيء بقول أو أجرح شعور من لم يحسن لهم هذا الزمان حتى أنني أجد أحيانا السجن أهون من النفي لمن لا يطيقون الحنين للأوطان.

كما أن الحوار حول العودة من أصله مبتذل لأن الغربة بالنسبة للمهجّر قائمة على المنع واستحالة العودة و ليست بسبب شروط موقوفة عليها. حتى أننا لو تأملنا في بعض تلك الشروط التي يحاول بعض المهجّرين جعل عودتهم متوقفة عليها و اشترطناها نحن في الداخل للبقاء في بلدنا لخلت البلاد من أهلها و لم يبقى فيها غير المستبدين عليها و بطاناتهم يعيثون فيها. فهل نحن برضائنا البقاء في بلدنا رغم هوان أوضاعنا قد قبلنا بالذل و المهانة و الخضوع و المسكنة على نحو ما يصور به بعض المهجرين عودتهم في مثل هذه الظروف.

فالمقصود بالعودة إذن من لازالت غربتهم إضطرارا تجنبا لمهلكة تنتظرهم في بلادهم بسبب أفكارهم و عقيدتهم. و عندما يصبح المغرّب في موقف الإختيار بين الرضاء بمقاسمة شروط عيش بني وطنه و عدم التنازل عن شروط أفضل توفرت له في غربته فإنه يخرج عن دائرة قضية حق العودة و التغريب عن الأوطان و يصبح في دائرة الهجرة التي لجأ إليها مئات اآلاف من مواطنينا و يحلم بها أضعافهم إلى درجة المجازفة بحياتهم لنيلها بسبب سوء أوضاع حالة بلادهم.

حوار العودة عندما ينحو مثل هذه المناحي يتحول إلى خطاب محبط رهيب. و هو بهذا الشكل يذكرنا بحق العودة الذي يتزايد عليه الفلسطينيون منذ ستين سنة في حين أنه لم يعرض قط عليهم و لا أتيح لهم باسثناء من عادوا بموجب الترتيبات المنبثقة عن أوسلو بل هي أوهام العودة التي تذكرنا بتنظيمات الكنترا المعارضة الكوبية في الولايات المتحدة الأمريكية التي حولتهم إلى عصابات ضد بلدهم خدمة لأغراضها دون المجازفة بأبنائها. و هي تذكرنا أيضا بالمعارضة العراقية و ما جنته على وطنها للعودة إليه وفق شروطها. وغيرهم كثر لا يتسع المجال لاستعراض نكباتهم.

و لو عدنا لتاريخنا واكتفينا بتجربتنا و تسائلنا هل عاد لنا بورقيبة في 1 جوان 1955 تلك العودة المضفرة، التي يحلم بها الكثير من الإسلاميين اليوم كما حلم بها غيرهم لزعمائهم، بمشروعنا الوطني الذي ناضل آبائنا و أجدادنا ضد استعمار الأجنبي لتحقيقه و حتى لا تمتهن كرامة أي تونسي بعده في وطنه أم جاءنا مؤسسا للنظام الذي لازال يهيننا ويسجننا ويشردنا و يؤلب بعضنا ضد بعض و يغتصب أرزاقنا و ينهب خيرات بلادنا و يعد منا جريمة إن تعرضنا بمجرد الذكر لما يسومنا به من ظلم و ما يضيق به علينا في حقوقنا. إن الشعوب التي لا تستوعب تاريخها ستضل تعاوده إذ كيف لها أن تتجاوزه وهي لم تستوعب دروسها منه.

الكثير من الإسلاميين المعنيين بحوار العودة اليوم قبل غيرهم لا يحسنون قراءة تجارب من سبقهم و يتحدثون عن الصحوة و اندحار اليسار و إفلاس العلمانيين من منطلقات إيديولوجية تهمل الخلفية التاريخية لعقود التغريب الذي سلط عليهم و كان سببا في إنبتاتهم و هم بذلك لا يفعلون عن غير وعي سوى تكرير تجربتهم. فقد كانوا أيضا و لا يزال الكثير منهم لا يقلون وطنية و تفان في التضحية و البذل عنهم.

العودة ليست حق، العودة واجب إذا لم تكن بتعريض النفس للتهلكة لكل من لم ينفصل عن وطنه أو يستغرقه شأنه الخاص و لازال مسكونا بقضيته و مشروعه. و من سوء التدبير الإستهانة بالداخل وما يشكله وقوف الصامدين كالشوكة في حلق الطغاة و المتجبرين و لعله من كبائر الأمور بخس نضال و مجاهدة العائدين و محاولة تشويههم بشبهة القبول بالتواطؤ و الخضوع للظالمين أو تسويتهم بالخائنين حتى إذا كانت عودتهم فقط للم شملهم مع عائلاتهم. لأن حوار العودة عندما ينحو هذا المنحى يتحول إلى فتنة و تثبيط للعزائم و استهانة و تشكيك وظلم ذوي القربى أشد مرارة… و لتوضيح بعض المفاهيم المقلوبة لا بد أن نعي أن الهجرة هي الخلاص الفردي و تلمس للنجاة بالنسبة للمهجّرين و أن العودة هي التضحية و الثبات.

لقد أوفى النص الذي نشره مؤخرا الدكتور عبد المجيد النجار الموضوع حقه لذلك لست في وارد إجترار الأفكار و المقاصد التي أتى عليها فأوفاها حقها و لكن لا يبدو موضوع العودة قابلا للشفافية و الوضوح اللازمين ما لم تتضح في أفكارنا طبيعة مشكلتنا مع هذا النظام.

القضية بالنسبة لنا ليست قضية وجود بمعنى إما نحن أو هو كما يحاول البعض الإيحاء بذلك من خلال خطاب متشنج أحيانا فكلنا تونسيون و لا وجه لأن تأخذ قضية فرض حريتنا شكل قضية تحررنا من مستعمرينا بمعنى أننا لسنا بصدد قضية قد تتنتهي إلى كفاح مسلح و إنما نحن بصدد قضية سياسية كفيلة الحل بالطرق السلمية لأننا كتونسيون و كديموقراطيون لا نرى في خصمنا اليوم طرف يجب استئصاله و إجلائه عن أرضنا بل شريك نعمل على أن نفرض عليه قواعد العمل السياسي النزيه بحيث لا يكون له من وزن إلا بقدر حجمه الحقيقي في مجتمعنا و درجة إشعاعه بين مواطنينا.

و خيار العمل السياسي و الأهلي السلمي ليس خيار ضعف و إنما خيار قوة يدركها هذا النظام جيدا و لذلك يسعى بكل ما توفر له من إمكانيات لغلق كل منافذه و وسائله. و هو يدرك جيدا لو أتاح شروط المبارزة السياسية الحقيقية إلى جانب من ستكون نسبة التسعة و تسعون بالمائة. كما أنه يلجم أصواتنا و يصادر خطابنا و هو يدرك أن خطابه لا يصمد أمامه. و هو يحجب الحقائق و يزور المعطيات و يعتم على كل أشكال و قنوات اتخاذ القرارات لأنه كالطبل الخاوي لم يبقى له ما يقدمه سوى إصدار الضجيج حول ما يفعله. هو نظام في نفق مسدود يعرف أن كل الشعب التونسي لا يحلم إلا بيوم الإنعتاق من جوره و صلفه.

ما لا يمكن أن أفهمه و هو المريض المشرف على نهايته لماذا نعلّ أنفسنا بمرضه. لماذا نبحث عن خلاصه و نحن ندرك أن خلاص مجتمعنا بزواله و تجاوز قواعده الظالمة واستبداده. الزمن وحده كفيل بسحقه و سحق كل من بنوا مشاريعهم على التمعّش من فتاته. نحن نزرع البذرة الطيبة و السماء تسقيها و الأرض تنبتها و النور ينضجها و لا يبقى لنا سوى رعايتها و ترقب جني ثمرتها فلماذا لا نترك للزمن إتمام فعله؟ لذلك فإن كرامتنا اليوم داخل بلادنا لا نستمدها من قبول هذا النظام بشروطنا و استجابته لمطالبنا بل من مواقعنا في الدفاع عن الحق و الحرية و العدالة في مواجهة موقفه الجائر المستبد و من ازدرائه و احتقارنا لجشعه وولعه بنفسه، لطمعه و قسوته و بؤس سريرته إنه يقوم رغما عنه بكل ما نحتاجه لإدانته أمام كل المنصفين و العارفين بحقائق الأوضاع التي تمر بها بلادنا فلماذا الإنشغال و الاستعجال و قد كفانا الحكم على نفسه بنفسه بنهايته.

قد يقول البعض هذا مجرد كلام و ليس من السياسة وقد لا يقدم و لا يؤخر… و أجيب بأنه تذكير بالسنن التي تنتقل بموجبها حياة الشعوب و الأمم من حال إلى حال و التي لا يقدر أي بشر لها تغييرا. إن ما يجب أن يشغلنا اليوم هو أن لا نعود بعده على ما كنا عليه في عهده. نحن لم نقاطع هذا النظام و لم نحاول إقصائه بل كنا له من الناصحين الصادقين و لست أقصد شخصي تحديدا إذ لا يحصى من سبقوني أو جاءوا بعدي. ولكنه كان عنيدا أصم أغوته السلطة حتى انفض شعبه من حوله و لم يبقى من يصدقه غير المتزلّفين و السفهاء من حوله و ما أقصى بذلك إلا نفسه عن النزهاء و الخيرين حتى تحول إلى رمز من أساطين الطغيان و المتجبرين في هذا القرن الواحد و العشرين.

و لابد هنا من إجابة بعض المتهافتين على دعوات المصالحة و المتملقين لود الظالمين: ما الذي يمنع هذا النظام إذا كان قد استفاق كما يدعون من مصالحة شعبه و إذا كان المعارضون لنهجه على ما يدعون لا وزن لهم و لا يعتد بهم و كلهم محبطون لماذا لا يتجاوزهم و يتحاوروا مباشرة مع من هم قادرين على تغيير الموازين لصالحه بدون تدليس و لا تزوير و مداهنة و استجداء للمبايعة و ضحك على الذقون.

كفاكم غباءا و رياء لقد طفح الكيل من خطابكم و نفاقكم مشكلة نظامكم ليست مع هذه الأسماء التي تتكالبون عليها بنميمتكم و بترهاتكم لأته إن كان من وزن لها فهو بقدر ما ترمز له من أحلام و تطلعات المجتمع الذي ظلمتم و الذي لم يعد يثق بكم. مشكلتكم مع شعبكم.

حوار العودة يجب أن يكون حوار الواثق المعتد بقيمه متجذرا صامدا في واقعه حوار العودة يجب أن يكون حوار انتصار مهما اقتضى الأمر من بذل و انتظار حوار عودتكم يجب أن يكون واعيا أنكم لستم وحدكم قيمون على مستقبل وطننا أو ديننا بل أن كل تونسي مهما خالفكم شريك معكم و هذا أول درس يجدر استخلاصه من خيبة النظام الذي إضطهدكم و فشل تجارب من سبقكم.

قربة، تونس – الخميس 23 جويلية 2007

المصدر: مدونة القاضي مختار اليحياوي بتاريخ 23 أوت 2007