د.منصف المرزوقي *

يسخر السياسيون المكيافيليون من كل رؤيا أو تقييم أخلاقي للسياسة، شعارهم السياسة لا أخلاق أو لا تكون . لكنهم لا يستطيعون باسم خيارهم نفسه، تفادي التقييم بصفة عامة انطلاقا من كون السياسة أيضا نتائج ملموسة تحققها الوسائل حتى القذرة منها … أو لا تكون.

ومن هذا المنظار لا يستطيع المرء إلا أن يقف مشدوها أمام ما حققته سياسة الإدارة الأمريكية الحالية في العالم العربي والإسلامي في السنوات الأخيرة.
لنستحضر أهم ” إنجازاتها” ولو أنها جد معروفة، لكن لوضعها جنبا لجنب أهمية .

1-دمرت سياسة هذه الإدارة العراق تدميرا كاملا وذلك عبر المأتي ألف قتيل الذين دفعوا ثمن ” التحرير” وفشلت فشلا ذريعا في إحلال السلام داخله فما بالك بإحلال الديمقراطية، وكذلك الأمر في أفغانستان .
كما تسببت سياستها تجاه إيران وسوريا وفلسطين في زيادة حالة عدم الاستقرار في المنطقة… والحال أنها جعلت من فرض الاستقرار هدفا إستراتيجيا، بما أن غيابه حسب رأيها عامل من أهم عوامل ” الإرهاب”.

2-ضربت الكثير من حظوظ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي عمل على نشرها منذ بداية الثمانيات مجموعة من المناضلين الصادقين في كافة أرجاء الوطن العربي. هكذا أصبحت اليوم المصطلحات نفسها أبغض ما يوجد في القاموس السياسي الشعبي لاختلاط في الأذهان بين هذه المصطلحات والسياسة الأمريكية التي أصبحت تعني للجميع التدخل العسكري والانتخابات الطائفية تحت الاحتلال، وخطاب المن والتهديد والأمر بالاعتناق…كل هذا في ظل التأثير المدمر لصور أبوغريب وغوانتنامو .

3- اضطرت لعدم تواجد أي طرف معارض له الحد الأدنى من المصداقية يتعامل معها، إلى الاتكال شبه الكلي على دكتاتوريات متعفنة وتوقف كل حديث عن الإصلاح .

هكذا أصبحت الإدارة الأمريكية الحالية عدوة الشعوب العربية والإسلامية الأولى بما هي قوة احتلال خارجي وفي نفس الوقت قوة دعم للاحتلال الداخلي الذي تمثله نظم عنيفة وفاسدة ودون شرعية.

4- في الوقت الذي تبحث فيه هذه الإدارة جاهدة عن “إسلام معتدل” كحليف سياسي للمستقبل (لأنها أول من يعلم أن نهاية الدكتاتوريات وشيكة ولاعتقادها أن الديمقراطيين أضعف من التمكن ) نري سياستها تخلق و تصطفي وتدعم وتقوي أعنف واصلب القوى الإسلامية . فهذه السياسة هي الريح التي تملأ شراع هذه القوى وتدفعها قدما إلى الأمام على حساب الديمقراطيين والإسلاميين المعتدلين.

5- خرجت الولايات المتحدة عبر سياسة الانحياز التام لإسرائيل من الدور الذي لعبته بنجاح نسبي في عهد كلينتون كوسيط يعمل من أجل السلام لتصبح كما هو الحال اليوم في لبنان الحليف المصطف خلف حليفه، مما أفقدها كل رصيد معنوي للعب الدور الذي يفرضه وزنها السياسي والعسكري.. أي كدافع وضامن لحلول ثابتة لأنها عادلة ومقبولة من كل الأطراف.

6- ضربت صورة الولايات المتحدة الأمريكية في كل العالم العربي والإسلامي بكيفية لم يسبق لها مثيل وعمقت الكراهية بين الشعوب. الخطير في الأمر أن صورة امريكا اليوم سلبية حتى داخل بلدان الغرب نفسه.

أي تبعات ستنجر عن عمق الكراهية التي زرعتها مجزرة قانا وكل المجازر الأخرى والكل يعلم أنها تمت بالقنابل ” الذكية” التي أسرعت بها الإدارة الأمريكية حتى تنتصر إسرائيل في حرب هي اليوم التي تصر على تواصلها ضد إرادة العالم أجمع. وتجاه هذه الكارثة المعنوية لا تجد الإدارة إلا تلفزيون ” الحرة” الذي لا يشاهده أحد ، وتمويل مجموعات تسوق بضاعتها البائرة لا تأثير لها ولا وجود إلا في بوفيه المؤتمرات .

ثم تتوج السيدة كوندوليزا رايس كل هذه الإنجازات العظيمة في لبنان بالقول أنها ليست معنية بوقف فوري لإطلاق النار في لبنان، أي أنها ليست معنية بجرائم الحرب لربيبتها و بتواصل موت آلاف من النساء والأطفال وتدمير بلد بأكمله ، لأن ما يعني سيادتها هو ولادة الشرق الأوسط الجديد على أنقاض ما دمرته سياسة رئيسها .

إن أي أمريكي وطني غيور على سمعة بلده ودورها ومصالحها الحيوية على الأمد المتوسط والبعيد، لا يمكن إلا أن يصدم بنتائج سياسة لم تفعل سوى ضرب القيم والمصالح والصورة ،وتهدد بإشعال فتيل حرب حضارات لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن تصل بالعالم.

ربما يجب على مثل هذا الأمريكي أن يتساءل ما الفائدة من وجود ما لا يحصى من وكالة الاستخبارات ومؤسسات التفكير think tank والعدد الهائل من الخبراء والأكاديميين، لتكون القرارات الناجمة عن التعامل مع نتاجها “بالفعالية” و”النجاعة “التي نشاهد.

إنه سؤال قلما يسأل ربما لأننا نعرف الرد وأنه يبعث قشعريرة من الرعب. نعم يا للهول أن يكون مصيرنا ومصير العالم بين أيدي حفنة من الناس يتضح يوما بعد يوم أن أهم ما يميزهم قدر كبير من العجرفة والجهل والغباء، خاصة وأنهم يتحركون في إطار ايدولوجيا مصنوعة من المخاوف والأحقاد والخرافات والأساطير.

لا غرابة إذن في هول الخراب الذي خلقه بوش ورامسفيلد وشيني ورايس وبيرل وولفوفيتز وبولتون وبقية الشلة ، في العراق و فلسطين ولبنان وغدا في سوريا وإيران.

المضحك أن يتحدث هؤلاء المخربون عن بناء شرق أوسط جديد.
كأنهم يجهلون أن البناء أمر أعقد بكثير من الهدم …أنه يتطلب رؤيا وقيم وأصدقاء وجو ثقة واحترام كل المصالح وتفاوض.
لكن الجماعة في إطار ما جبلوا عليه من طبع مقتنعون أن البناء يمكن أن يفرض بالقوة وبالعملاء ولصالح طرف واحد…أنه لن يكون أعرجا بطبيعته ولن يصبح منطلق عدم استقرار جديد.

وبانتظار مزيد من الخراب من قبل عباقرة واشنطن ،على أمل رحيلهم غير المأسوف عليه يوما، لا خيار لنا غير المقاومة من جهة ومن جهة أخرى مواصلة العمل على مشروعنا نحن لبناء أوطان حرة في الداخل ومستقلة في الخارج، تستمد قوتها المعنوية من قيم العروبة والإسلام، وقوتها التنظيمية من ديمقراطية وحقوق إنسان وبحث عن سلام عادل وتواصل مع كل الشعوب ومنها الشعب الأمريكي.. ولا علاقة لها بإملاءات مجموعة سيقول عنها التاريخ أنها كانت في بداية هذا القرن أكبر مصيبة للديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام العادل والحوار بين الحضارات.

* كاتب وسياسي من تونس

www.moncefmarzouki.net