الجزء الأول

بقلم د.خالد الطراولي

ktraouli@yahoo.fr

عندما تجاوزت بوابة القنصلية التونسية في إحدى الضواحي الباريسية، طلبا لتجديد جواز السفر، وقد مرّ على الطلب أكثر من شهرين، كان يتملكني إحساس مزدوج غريب، كنت فرحا بأني أطأ أرضا تونسية ولو أنها في أرض الغربة، فهكذا تقول القوانين، وأنا أحمدها أن فكرت في المنفيين والمشردين والذين منعهم ظلم ذوي القربى أن يطئوا أرض أوطانهم!، أشكر لهذه القوانين أن سمحت لهؤلاء استنشاق نسائم البلد ولو من بعيد ولو في كبسولة مغلقة! كان هذا الإحساس الغريب يحف بكل خلية من جسمي وكأنه عربون تفاءل في المستقبل، وصبر على البلاء، وإيمان بأن لكل مصيبة استراحة، وأن مع العسر يسرا وأن الغلبة دائما للضياء…

كان الإحساس الآخر منغصا ضاغطا تجتمع فيه الرهبة والخشية، وكأنك لست مواطنا خالصا، أو أنك من مواطني الدرجة الثانية، كأن البلد ليس بلدك وكأن القنصلية التي يرفرف على بابها علم وقع سحبه عنوة من قلبك وعاطفتك.

أحاسيس غريبة ومتناقضة تجتمع في ذات واحدة، تحملها أرجل متعبة وهي تتجاوز باب القنصلية ويطلب صاحبها تسلم جواز سفره بعد أن طالت مدة الإيداع. كان جواب الموظف لطيفا: ” الجواز لم يحظر، ننتظر رد وزارة الداخلية…” على فكرة قصتي مع جواز السفر ليست جديدة وليست الأولى ولي معها وقفة أستسمح القارئ العزيز أن يتابعها معي حتى يلمّ بطرف من هذا المسار الغريب وهذه الحالة العجيبة.

لقد سبق أن وقع حجز جواز سفري لمدة تقارب الخمس سنوات في وسط التسعينات، دون ذكر أي سبب، وكنت أذهب كل سنة إلى القنصلية التونسية مستوضحا السبب ومترقبا الفرج وكان الرد سلبيا دائما من قبل موظفين طيبين يتجاوزهم الأمر، كل ما يطلب مني هو مراسلة وزير الداخلية أو وزير العدل لاستيضاح السبب، أو الدخول فيما ما يسمى بتسوية الوضعيات، المبنية أساسا على تنحي الفرد عن النشاط السياسي فكرا وممارسة، وتفرغه إلى الاعتناء بأسرته وأحواله المعيشية، والابتعاد الكلي عن التطرق للسياسة وأحوال البلاد وهمومها. كانت نوعا من التوبة التي تعني خلوصك إلى الاعتقاد بخطئك والندم على ما فات والعزم على ما هو آت. وكأنك مجرم من الصنف الأول الذي عاث في الأرض فسادا ولم يسلم من أذاه وشره الصغير والكبير على السواء، كان ذنبك الحقيقي أنك أردت مشاركة الناس حبهم لأوطانهم، أردت أن تعلن على رأس الملأ أنك تونسي أصيل تهتم بوطنك وتريد له ولأهله كل رفاهة روحية ومادية، كنت تريد الحرية لكل فرد فيه دون اعتبار لجنس أو عرق أوجهة أو سابقة أو حسب ونسب أو جاه!

مرت سنوات عديدة وصبرنا ورضينا بحرمان التنقل والسفر، ولم نتاجر بديننا ولم نساوم بمبادئنا، ولم تتزعزع ثوابتنا، حتى أطل علينا قرار السلطة بتسريح الجوازات في أواخر سنة 2000 وإعلام عديد الأفراد في الداخل والخارج بذلك، كان قرارا رئاسيا حكيما رغم تأخره ورغم عدم قانونيته، وظننا أن هذه الطريقة الغريبة في التدافع السياسي ومواجهة الخصم ومعاقبته قد انتهت أيامها ولا تراجع في النوايا الجديدة والسياسات القادمة… ولكن كان حلما وانتهى…كان أملا وانهار… كان تفاءلا في غير أهله… كانت مراهنة في غير محلها.

تمر السنوات من جديد وتعود حليمة إلى عادتها القديمة… ووقفت أمام موظف القنصلية من جديد هذه الأيام طالبا تجديد الجواز، وكان الحجز قد بدأ يخط طريقه من جديد، وينسج خيوطه بهدوء… أكثر من شهرين قد مرت على الإيداع، والموظف المسكين يرد على استفساري بجملة بسيطة…” الجواز لم يحظر ننتظر رد وزارة الداخلية..، وعليك إن أردت، إرسال تذكير إلى وزير الداخلية!” وجب علي إذا مراسلة وزارة الداخلية وتذكيرهم بجوازي، إذ لعله ضاع بين الملفات، أو نسيه موظف متعب! وطلب مني الموظف دفع معلوم التذكير! واستغربت لذلك..، غيرنا يخطأ ونحن ندفع معلوم الخطأ… وسجلت الرسالة و قمت بالتذكير… فالذكرى تنفع المؤمنين وغير المؤمنين ولعلها تنفع الموظفين!

هذا المقال هو رسالتي الأولى على أن تتبعه مقالات أخرى إذا لم يحل جديد، نذكّر فيها بهذا الحق الذي كفلته المواثيق والدساتير، ودستورنا في ذلك صريح من حرية التنقل والسفر… إن جواز السفر هو علاقة قانونية بين الفرد وموطنه ولكنه علاقة روحية خالصة بين المواطن ووطنه وتعبير على كرامة ومواطنة كاملتين، ونحن نعجب أن تسول لبعضهم عقولهم أن يعاقبوا أبناء وطنهم بحرمانهم من هذا الحق ومن هذا الحب للأوطان.

آمل أن لا تطول المدة ويتحصل أصحاب الجوازات المحجوزة على حقوقهم ونطوِ هذه الصفحة الرمادية من تاريخنا، في انتظار طي صفحات أخرى أكثر إيلاما وضررا، وأن لا نعود إلى الكتابة ثانية حولها، وأملي كبير في رشاد العقول وخيرية القلوب ويبقى أملي الأكبر في الله أولا وآخرا.

(1) هذا المقال يعود إلى شهر سبتمبر 2005 وقد عزمنا نشره اليوم تذكيرا للمسألة و تهيئة لفتحه مجددا قريبا إن شاء الله وفي إطار غير الإطار الفردي الذي حمله سابقا

المصدر : موقع اللقـــاء الإصلاحي الديمقراطي