بقلم د.خالد الطراولي*

ktraouli@yahoo.fr

أغلقتُ منذ أيام خلت، ولمدة أسبوع تصفحي للمواقع التونسية المعارضة أو ما يلامسها، وجعلت حالي يقارب حياة التونسي داخل الوطن! كان الدافع حيرة واستفسارا حول واقع قريب بعيد، شهد ولادتنا وطفولتنا وأيام صبانا، وغيّبته الأيام عنوة عنا، يظنه البعض ويأملون أن يكون طلاقا بائنا بيننا وبينه، ونأمل يقينا أن لكل فراق لقاء، ولكل غيبة حضور، ولكل خروج عودة، والأيام دول…

هل نحن في واد والشعب في واد؟..أسئلة الحيرة والأمل!

تساؤلات عديدة طرحت نفسها وأنا أدخل هذه “التجربة” من معايشة بعيدة لمواطني الداخل، ماذا يسمع التونسي عن الانترنت المعارض، والتصورات والمبادرات والنداءات والمقاربات التي تحفها؟ ماذا يصل إلى التونسي وهو في مغارته وقد رُفعت حوله أسترة من حديد؟ كيف يصل صوتنا؟ كيف نجعل شعبا بأكمله يعيش معنا مشاريعنا وأطروحاتنا؟ كيف نحقق له آماله وأحلامه؟ كيف نجعله يحس بوجودنا، بنصرتنا؟ كيف نخبره أن الأيام دول، وأن ليس للصبر حدود وأن ساعة الحقيقة قد قربت أيامها وانتهت لياليها؟

ومرّ الأسبوع ووجدت نفسي في أرض غير أرضي! كنت في واد وكانت تونس في واد! كانت المعارضة في واد والجماهير في واد! كان التونسي في واد وكانت الانترنت في واد! وكان همّ المواطن في واد وكنا في واد!…

ما العمل؟ ما هو الحل؟.. هل نغادر معاقلنا ونلقي بآلامنا وآمالنا ونعلن على الملأ إحباطنا ومرارتنا ونهايتنا؟ أم نقول و لا تحقّرنّ من المعروف شيئا ولا تحقّرنّ من العمل من أجل تونس شيئا ولو من وراء الحجب والخنادق وبين المطارق والسندان..؟

أم نقول ما في اليد حيلة، وأن هذا العمل من أجل الوطن العزيز، قبل أن يكون سياسة وكرّ وفرّ هو أخلاق وأخلاقية تلزم العطاء دون حساب..؟

أم نقول أن المواطن التونسي وقد مرت عليه سنوات عجاف يستحق التضحية من أجل إعادة البسمة إلى ثغره، من أجل أن يحلم من جديد، من أجل أن يعيش الأمل، من أجل أن يكون إنسانا وكفى، من أجل رجال ونساء وأطفال، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، منهم المنكوب ومنهم المكلوم، ومنهم المعذَّب ومنهم المشرَّد، ومنهم اليتيم ومنهم الشهيد!!!!

هل غابت الجماهير على المشهد، ولماذا؟

لن نجانب الصدق إذا لمسنا هذا الغياب النسبي للجماهير في جل المبادرات والتحركات التي قامت بها المعارضة، لن نُتهمَ في وطنيتنا إذا لاحظنا هذه اللامبالاة النسبية التي صبغت علاقة المعارضة بالجماهير، لن نعمّم حتى لا نقع في فخ التعميم و خطأ التضليل، لكن الغالب في الأمر هو هذه القطيعة غير المرئية، وهذه الخنادق التي فصلت بين المعارضة والجماهير.

لا تخلو جعابنا من تفاسير لهذه العلاقة المهتزة، منها درجة الخوف التي عليها الجماهير، و”الدرس” الذي استوعبته بعد قسوة الردّ، والمعالجة الحديدية لمن تجرأ على الوقوف أو تجاوز حدود المسموح ولو قليلا!، ومنها تشرذم المعارضة لسنوات، ومنها فقدان الزعيم الكارزماتي الأوحد في صفوفها…كل هذه التفسيرات والمبررات تقدم إضافة ولا شك في البحث عن الجواب، وكل منها يمثل في حد ذاته أحد مكامن ضعفنا، وقد عرجنا عليه بأكثر تفاصيل في كتابات سابقة [1]

لكننا رغم محاولات التقارب بين الصفوف، والتي مثلتها مبادرة 18 أكتوبر مع بعض الدَّخَن الذي بدأ يطل من هنا وهناك، فإن الجماهير في أغلبها لم تخرج إلى الشارع ولم تحمل هموم المعارضة من حريات مهمشة وتعدد حقيقي معدوم وديمقراطية مترهلة..، فهل حملنا نحن همومها؟ هذا هو مربط الفرس وهذا هو سؤال الحيرة والأمل ، هذا الغياب يجب أن يمثل رجة لنا لبداية عودة الوعي، وتفهم الوضع التونسي، وفهم عقلية التونسي والثقافة التي كونته، والإطار الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وحتى النفسي الذي أنبته و وبلوره، فالتونسي هو التونسي بتاريخه القريب والبعيد وهموم اللحظة وتأمينات المستقبل، ولعل التونسي لا يخرج عن بوتقة كونه إنسان وكفى، إنسان متعدد الأبعاد والميولات ولكن يحمل في داخله بُعْدَ الطموح نحو الأفضل والأسلم والأنجع، رغم أنه يبقى في النهاية الإنسان ذلك المجهول…

إن الستار الحديدي الذي نزل على البلاد منذ حقبة من الزمن قد بدأت تتطاير شظاياه ولا شك، ولقد ساهمت مبادرة 18 أكتوبر في رفع هذا الكابوس، ولكن التونسي البسيط الذي لا يفقه من عالم الانترنت الشيء الكثير، والذي يواجهه الرغيف وفاتورة الماء والنور في كل يوم تطلع شمسه، لن يعبأ الكثير لمطالب الحقوق والحرية وهو لا يجد إشباعا لحاجاته وحتى ضروراته.

لا تسألوا من ليس في بيته دقيق!

كثيرا ما خيم البعد الحقوقي السياسي على مشاريعنا، وانحسرت مطالبنا في التحرر والتحرير والحرية، وظننا أن هذا كاف لجلب الناس إلى صفنا..، عشنا غياب الحرية ونحن في المنافي يعيش بعضنا المنغصات والأحزان والأشواق وهموم الوطن..، وينعم بعضنا بظلالها ويحكي عن أشواقه إلى ارتياد تراب الوطن وهو على أريكته أو أمام مائدته..، نادينا باستفحال الاستبداد والاستخفاف والدكتاتورية، ونسينا أن البطون الجائعة لا تفكر، وإن فكرت فعن لقمة رغيف تسد رمقها ورمق من حولها. كانت نقاشات البعض ترفا فكريا، تجمعه صالونات الشاي أو دردشات المقاهي والنوادي، وكانت الجماهير في الوطن ترتاد المقاهي “لقتل الوقت”..

إن دعوة التغيير ونجاحه، مرتبط بشموليته وملامسته لهموم الناس، ولن يفقه عاقل أن يجتمع قوم على حقوق، وينسون حق الأكل والشرب والحياة الطيبة. ولقد نجح النظام، أحببنا أم كرهنا، في تسويق بضاعة النجاح الاقتصادي لأكثر من عقد من الزمن، وصدّقه الخارج ولعل الداخل سايره، وكنا نرى بكل أسف، الحيرة والغياب النسبي للتوصيف والنقد لهذه المقولة، وطرح البدائل لها من طرف المعارضة.

ستظل معايشة هموم الناس ولو كانت بسيطة أو متواضعة، هي الوسيلة الناجعة لاستقطاب اهتماهم، ولن نستطيع ربح معركة التحرر والحرية، إذا غيبنا من مطالبنا وأهدافنا هذا البعد الذي تعيشه الجماهير، والذي تجاهلناه أو همشناه.

فلا يجب أن تتوقف مطالب الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية، عند بوابة الحاجيات المادية الملموسة، فمن حقوق الفرد الأولى أن يعيش كفاية في المسكن والملبس والمأكل، وليس عيبا أو ضعفا أو سقوطا، أن يُنادَى بها من فوق الأبراج، وأن يتوقف عليها انتسابه أو تخلفه عن ركب ما.

نريد ولا شك أن تشاركنا الجماهير أتعابنا وهمومنا، نريد منها نصرتنا ومعاضدة جهودنا، نريد منها أن تع أن الشأن العام حمل عام، وأن الديمقراطية والحرية كفاح مشترك يحمله النخبة والعوام!..هذا مرادنا، ولكن… ماذا تريد الجماهير؟ تريد أن نشاركها همومها ومشاغلها، تريد أن نع أن الشأن العام لا يلغي حاجيات اليوم والليلة…وأن الحديث عن الخبز والماء هو من أولويات حقوق المواطنة الكاملة، وحق المواطن في العيش في رفاه… هذا ما يريد، وذلك ما نريد، ولن يكون إلا ما يريد!

إن الدعوة التي أُوجِّهها إلى أي مبادرة سابقة أو لاحقة، وإلى أي برنامج جبهة أو ائتلاف أو تحالف، ألا يقتصر البرنامج أو تنحسر المطالب على الجانب السياسي أو الحقوقي البحت على أهميته واستعجاليته، ولكن أن يجمع على نفس المستوى وعلى نفس الوتيرة، المطلب المادي البسيط، الذي بدأت تتأكد أهميته مع بوادر ترهلات الاقتصاد التونسي في أيامه القادمة. فتبنّي المعارضة لمطلب الحقوق المادية وجعلها في نفس مستوى مطالب الحريات والديمقراطية، هو تبنٍّ لمطالب العامة من الناس واقتراب من مشاغلهم ومشاركة في همومهم، وهو أيضا كشف الغطاء عن حقائق مدفونة حول الحالة المعيشية الصعبة التي بدأت تدب في أطراف المجتمع.

*مرحبا بكم على موقع اللقاء الإصلاحي الديمقراطي http://www.liqaa.net

[1] انظر مقالاتنا “رأي في تشكل المعارضة التونسية” جوان 2003 و “المعارضة وغياب المهدي”