بقلم الدكتور طيب تيزيني

نشرة مركز ابن رشد

تتسع الدراسات الإسلامية راهنا وتكتسب أبعادا وأمداء متعددة في سياق تعاظم الهجوم ضد الاسلام و السجال بينه و بين أطراف معظمها يتحدر من الغرب . و في هذا وذاك تفصح عن نفسها مشكلات و معضلات نظرية جديدة ، اضافة الى أخرى قديمة ؟ و هذا من طبائع الأمور . فالواقع بمثابة حالة مفتوحة، يضع أمام البشر من المهمات و الأسئلة و التساؤلات ما يجب الاجابة عنه . و في حال عدم الاستجابة لذلك ، يحدث خلل و اضطراب يتحولان الى أزمة في ظروف معينة قد تطرح أسئلة خطيرة ، بالاعتبار التاريخي و المعرفي التأسيسي او (الابيستيمولوجي). و لعل أخطر هذه الأسئلة يتحدد في مثل الصيغة التالية : من اين نبدأ في تصويب الموقف ، من الواقع أم من النص ؟ و يمكن النظر الى المرحلة المعاصرة على انها أكثر المراحل قلقا واثارة واشكالية في التاريخ الاسلامي عموما ، و الاسلامي العربي على وجه الخصوص.

فلقد رفعت العولمة معركتها مع الاسلام الى سقفها ، و ذلك في سياق المهمة الكبرى التي وضعتها على عاتقها : تفكيك الهويات التي دللت على انها مثمرة تاريخيا و بناءة (مثل العقلانية و التاريخية و القيم الدينية المستنيرة و المحفزة على التقدم البشري ) من طرف ، و احياء الهويات التي دللت على أنها معيقة للتقدم البشري (مثل الطائفية و المذهبية الدينية الضيقة و الاثنية و العشائرية و غيرها) من طرف آخر. و ثمة ملاحظتان اثنتان تعمّقان النظر الى ما نحن الآن بصدده. تقوم الملاحظة الأولى على أن العداء العولمي (الاميريكي خصوصا) من الاسلام هو – في أساسه – موقف عداء من الاسلام الثريّ النفطي ، اي الاسلام المصالحي . و هذا بدوره يضع يدنا على قاعدة منهجية هامة تظهر في الشريعة كما في القانون الوضعي و هي : العقائد تتأسس على المصالح . وفي هذا السياق ، يبرز اسم العزّ بن عبد السلام كواحد من ابرز من اسس لهذه القاعدة و نظّر لها .

اما الملاحظة الثانية فتتحدد في ان العولمة ، بلسان بعض ممثليها من امثال هنتنغتون و كلاوس ، اذ تضع الاسلام امامها كهدف استراتيجي ينبغي ترويضه ، فانها تنتقي منه ما يستجيب لمصالحها وظيفيا . وفي هذه الحال ، تقوم بعملية تلفيقية و انتقائية تنتج بمقتضاها ما يروق لها تحت اسم ” الاسلام “.فهي تبحث هنا و هناك و هنالك عن شذرات “اسلامية” يطلقها بعض الاسلاميين في كتاباتهم ، لتعلن انها وضعت يدها اخيرا على ما يسوغ مقولتها الشاملة الجامعة و التي جرى تسويقها في معظم بقاع العالم ، و هي مقولة “الارهاب”. فبمقتضى هذا الاخير ، يجري تقسيم البلاد والعباد الى فريق يمارسه ( اي الارهاب) بعد ان ينتجه ، معرضا بذلك العالم الى الاضطراب والفوضى و التحارب من طرف ، وفريق آخر يدفع ضريبته في أمنه وثروته و مستقبله من طرف ثان . والطريف الواقعي في ذلك ان تلك الشذرات “المختارة” قد تقدم ما يرغب فيه المنافحون عن العولمة و مقولتها في الارهاب من رؤية متخلفة رجعية عن العصر بقضاياه المختلفة من الاقتصاد الى السياسة فالثقافة فالمرأة الخ ..و حينذاك يجري تقديم تلك الشذرات بوصفها “الاسلام” من حيث هو و في جوهره .

ان تلك الرؤية الانتقائية و الملفقة للاسلام ، التي تقدمها الايديولوجية العولمية المؤمركة و التي تجد بعض اسسها الكبرى لدى مجموعات من المستشرقين في الغرب منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تفصح عن نفسها عبر عمليتين اثنتين كلتاهما تقود الى الاخرى .اما العملية الاولى فتقوم على انتزاع الفكر الاسلامي المتكون في اعقاب “فترة النزول” و في التجادل و التثاقف معها ، من سياقه التاريخي ، و لصالح الرؤية الانتقائية و الملفقة المذكورة و المناهضة للفحص التاريخي ، بحيث يبدو هذا الفكر و كأنه لقيط ، يتحرك دون ضوابط و نواظم تتعلق بحقه التاريخي و مرجعيته الفكرية . لكن العملية الثانية تسير باتجاه آخر ، و ان ظلت ذات علاقة بمسار العملية الاولى .اما هذا الاتجاه فهو ذو نسيج قيَمي اي يتمثل بكونه حكْم قيمة .ها هنا سيقال ما قاله مستشرقون امثال ارنست رينان ودي بور و ما صاغه الشاعر كيبلينغ في المقولة التالية : الشرق شرق والغرب غرب ، ولايلتقيان .أمّا ألاّيلتقيا، فلأن كلا منهما يمثل “بنية” بذاتها : “البنية الغربية ” بعقلانيتها واتساقها وانصياعها للقانون و القيم المجتمعية المثمرة للتقدم ، و “البنية الشرقية” بعاطفيتها وانفلاشها وخروجها على مثل تلك الضوابط.

و المهم في ذلك ان يقال كذلك، ان البنية الغربية تتأسس على الديمقراطية و احترام حقوق الانسان و الاقرار بالتعددية و بالحرية ، اي بما لاتقر به البنية الشرقية ، بما فيها الاسلام ، وليد الشرق وصانعه، بمعنى ما في هذا المَعْقِد من المسألة نكون وجها لوجه امام واحدة من اكبر الموضوعات ، التي تحولت الى نقطة سجال بين المفكرين الاسلاميين ، و بين كثير من المستشرقين والمفكرين و المثقفين العرب.

أما الموضوعة المعنية فتتمثل في “التعددية” و في موقف الاسلام منها ( والمقصود بالاسلام هنا النص الاصلي المعبّرعنه بالقرآن و السنة النبوية ). و قد جنح فريق من اولئك الى القول بان الاسلام “دين التوحيد” و هذا اقصى ما يعرف به او يُعرّف، مما يفضي الى القول بان مفهوم “الحقيقة” عنده ما هو الا تجسيد ل “توحيديته” و على هذا ، يصبح محالا ان ينظر الى تلك الحقيقة مشخّصة وفق التاريخ الانساني و شروطه و مقتضياته، لتظل متأبّية على هذا التاريخ ، و من ثم ليظهر ما يبدو حقيقيا واقعيا من حيث هو وهم زائف.

في ضوء ذلك الموقف الاطلاقي و التجريدي واللاتاريخي ، يكتب فهمي جدعان معلنا ما يلي : تنتمي “الحقيقة” اصلا الى عالم الأزل و الأبدية الذي يفارق تماما وقائع التاريخ و يعلو عليه ، و لا يخضع لقانون الصيرورة الصارم . و هي حين تتجسد في الانسان فانما تعانق الزمان و تحل فيه …و الذي يقع ضحية هذا التجسد هو الحقيقة نفسها لانها ستفقد براءتها الاولى التي جاءتها من افق المطلق ..ان ما حدث في تاريخ الاسلام لا يشذ عن هذه القاعدة . و الا فكيف نفسر تلك الانحرافات المتفاوتة في الخطورة و العمق التي تمت في عهوده وازمنته المتباعدة فضلا عن المتقاربة ؟…و يتابع الكاتب مقررا : “لقد قال معظم مفكري الاسلام المحدثين ان (المسلمين ليسو مسلمين). و الكلمة صائبة تماما و لكن الأصوب ان يقال انهم لم يكونوا و لن يكونوا مسلمين ابدا ، بمعنى انهم سيظلون دوما بعيدين عن تجسيد الاسلام – الحقيقة ، او الاسلام الوحي في التاريخ – الزمان ، لان ما يدخل في الزمان لا يلبث ان تعتريه صروفه و اقداره و لأن الحقيقة – الوحي تفارق عالم الانسان و تعلو عليه” [1].

ان ذلك النص الذي ينطلق صاحبه من موقع افلاطوني و آخر كانطي (نسبة الى الفيلسوف الالماني كانط)، يطيح ب”الحقيقة ” و ب “الاسلام” كليهما في آن معا. و في أحسن الاحوال ، يرى الباحث فهمي جدعان ان الحقيقة الاسلامية موجودة ، و لكنها غير قابلة للتجلي والتمظهر في المستوى الانساني ، و من ثم يغدو “التوحيد” في الاسلام توحيدا “في ذاته”، أي غير قابل لان يكون توحيدا “لنا” نحن البشر. و حديث على “التعددية” و الحال كذلك يصبح مستحيلا . و من ضروري القول ان الانطلاق من مثل ذلك “التوحيد” يفضي الى مفهوم “العدم”، بالاعتبار الفلسفي. ذلك ان الوجود ان نُظر اليه مطلقا ، فهو مغلق; و المطلق المغلق هو بمثابة عدم لايمكن تحديده وضبطه الا بمعنى السلب.

و اذا كان هنالك من يختزل الاسلام الى حقيقة مطلقة بذاتها و لذاتها و من يرى انها تفقد “براءتها الاولى” حين تتجسد في الانسان ، محولا الاسلام على هذا الطريق الى حالة متعالية على الوجود و الانسان ، فان اتجاها آخر انطلق من القرآن و السنة ليؤكد على ان “التوحيد” و الاقرار بهما وحدهما يؤسسان للخلاص في حياة المسلم . فقد جاء في الآية الكريمة (رقم 48 من سورة النساء) : ” ان الله لا يغفر ان يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء” في هذا المستوى من المسألة يمكن التحدث عن “توحيد” اسلامي يجمع تحت رايته كل من يعلن انتماءه للاسلام ، بغض النظر عما قد يكون من اختلافات في الرأي حول نقطة او اخرى .فهو مستوى قابل للتحقق في حياة البشر (المسلمين)، نظرا الى ان حقيقة هذا التوحيد هي في متناول هؤلاء ، بعكس “الحقيقة” السابقة ، المطلقة التي لامجال فيها للتشخيص و التخصيص، و من ثم للأنسنة في حقلها .و اذا بلغنا هذه الحلقة المركزية في التأسيس للتوحيد الاسلامي الذي يطال الحقلين اللاهوتي و الانساني ، فاننا في الوقت ذاته – نكون قد ولجنا مستوى التعددية في “النص المقدس”. ولعلنا نرى ان هذا النص ان استنكف عن الولوغ في حياة البشر ، فقد تحول الى نص لاهوتي تقوم العلاقة بينه وبين اولئك على سبيل السّلب. و هذا ما لا نواجهه في النص القرآني الكريم عموما و خصوصا : فلقد أتى “هدى للناس”،و “دعوة للحق” و “الى الصراط المستقيم”. و لما كان البشر مختلفي المصالح و الأفهام ، و يعيشون في مجتمعات مختلفة في التكوين الاقتصادي و السياسي و التعليمي و كذلك – بقدر او آخر- في الاهداف القريبة و البعيدة (الاستراتيجية)الخ…، فقد غدا من الضرورة بمكان ان يأتي ذلك النص -الكتاب- مقرا بتلك التعددية في الانساق المذكورة و غيرها ،كي يحافظ على مصداقية كونه “أتى رحمة للناس”.

على ذلك ، يستطيع الباحث التأكيد على ان الكتاب – القرآن الكريم- قدم نفسه عبر عملية تجادل بين المطلق و الزمني ، و الغيبي و الانساني ،و من ثم بين الوحي و التاريخ ، مؤكدا- في هذا- على كونه “منتميا الى السماء “، بقدر ماهو ملتصق بالارض التصاقا كثيفا و مشخّصا . و هذا ما اقترب من ملاحظته بعض الباحثين ـ‘ ربما كان جاك بيرك من ضمنهم [2]

و يظهر ذلك جليا في الآية القرآنية الحصيفة التالية : و لوشاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ! و بالتوافق الوظيفي الدلالي ، فقد ادرك بعض الصحابة اهمية ذلك النظرية و العملية ، فنبهوا الى أخذه بعين الاعتبار ضمن مفهوم “التعددية”. فالخليفة الرابع يشير الى ذلك ضمنا حين يقول : القرآن انما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، انما يتكلم به الرجال ، و من ثم فهو “حمّال أوجه” [3] .و كان الرسول الكريم قد وضع يده بعمق على فكرة التعددية ، منطلقا في ذلك من فكرة “الاختلاف ” و دورها في التأسيس لمفهوم “الأحادية” على ضوء معمّق . فالفكرتان كلتاهما “التعددية” و “الأحادية” تمثلان حالتين ضروريتين لتأسيس نسق فكري او آخر يراد له ان يكون منفتحا غير مغلق ، و مرنا غير متشدد. و هما – الى ذلك تقومان على علاقة جدلية متضايقة تشترط الواحدة منها الثانية ، بمقتضاها و في ضوئها . و مهم ان يقال في – هذا السياق- ان هذه الخصوصية للعلاقة المذكورة تستمد مسوغها من “الحكمة الالهية”، التي تقصد ان تكون التعددية تشخيصا للأحادية ، و ان تكون هذه الأخيرة ناظما لتلك . في هذه الحال يصح القول ان مرجعية “الأحادية” تكمن في مبدأ التوحيد الاسلامي (وهو المبدأ الأقصى والكوجيتو المنهجي والنظري)، في حين تكمن مرجعية “التعددية” في المجتمع الانساني ، في الجماعة الاسلامية ، بما ينشأ فيها و عنها من مشكلات اقتصادية و سياسية و ثقافية و تعليمية و غيرها، مع الاشارة الى وجود حالة نسبية من انغماس المقدس في البشري العادي و بشخص النبوة . و ها هنا يظهر المأثور النبوي في صيغة مكثفة لافتة ، حين يؤكد النبي الكريم على ضرورة معرفة واقع الحال المحدد و المفصّل ، الذي يعيشه اعضاء الجماعة ا لمذكورة ، كي لايبقى المرء في حالة عامة من النصوص العمومية و الاجمالية . و هذا يقود الى الآليات التي بواسطتها يمكن بلوغ ذلك “المحدد و المفصل”، و نعني بذلك “الاجتهاد” و “التأويل” و ربما كذلك “التفسير”. فالحديث النبوي الشهير ب “حديث الرُويْبضة” يوضح من هو ذلك المسلم ، الذي يكتفي بالمبادئ و الجمل و الشعارات العامة، مهملا ما يمس الخصوصيات التي تهم الناس ، و تصنع جانبا هاما من تاريخهم [4].

نصل الآن الى نقطة دقيقة من مسألة “التعددية ” في الأصل الاسلامي (القرآن والسنة)، و تظهر في مستويين اثنين. اما المستوى الاول فيفصح عن نفسه بصيغة العلاقة بين المذاهب المختلفة في الاسلام نفسه كمنظومة من المبادئ والاعتقادات و سواه من المنظومات الدينية و غير الدينية . ها هنا نواجه وضوحا مقطوعا به حين يعلن القرآن ان الله ذاته لم يشأ ان يجعل ” الناس أمة واحدة” بمبادئ عامة واحدة و بأفهام متماثلة و بمصالح متطابقة . و يقدم فخر الدين الرازي تعليلا دقيقا و طريفا لهذه “المشيئة الربانية” ، فيقول : “لو كان القرآن محكما بالكلية ، لما كان مطابقا الا لمذهب واحد ، و كان تصريحه مبطلا لكل ما سوى هذا المذهب . و ذلك ما ينفر ارباب المذاهب عن قبوله و النظر فيه ” [5]..ونحن نرى تلك الاختلافات ضمن الاسلام ذاته ماثلة في مصدرين اثنين ، واحد معرفي يتجسد في درجة التقدم المعرفي العلمي لدى الشخص المسلم صاحب العلاقة ؛ و آخر يتجلى في المصالح الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و غيرها في حياة هذا الآخير .

اما المستوى الثاني فيعلن عن نفسه في العلاقة بين الاسلام و غيره من الأديان و المذاهب .فاذا كان المستوى الأول يتعلق بالنسق الواحد ذاته بحيث يظهر حوارا مع الذات ، فان المستوى الثاني هو بمثابة حوار بين الذات و الآخر. و هنا يلح القرآن على أن ما يحتكم الناس اليه و هو العقل ، هو نفسه المعيار المنهجي لمصداقية “الآخر”. و بذلك تبرز الدعوة لحوار عقلي مع الجميع للوصول الى “كلمة سواء” تلتقي عليها الأطراف المتقاطبة. فمعرفة الاختلاف و الاقرار به يمثلان مدخلا الى الحوار ،على اساس من الندية و الاحترام . و حين يظهر “الرشد من الغيّ”، يغدو لزاما على الجميع ان يقروا بالنتائج الصائبة و يدفعوا بها الى الامام في سبيل تقدم البشرية و نمائها . و لما كان التقدم في العلم و المعرفة مفتوحا ، فقد تعيّن على من قارب الصواب و الحقيقة في مرحلة او لحظة ما من التاريخ ان يدقق ثانية في مواقعه عمقا و سطحا ؛اذ لعلها او لعل بعضها قد جرى تجاوزه و غدا غير قادر على الاستجابة لمقتضيات ذلك التقدم دونما عنت او تشدد او ممانعة ؛ ذلك لأن “الحكمة ضالة المؤمن” في ضوء مبدأ تغيّر الأحكام بتغير الأزمان .

و اذا ميّزنا بين “الاسلام” و “الفكر الاسلامي” فقد تعيّن على منتجي هذا الأخير من مفكرين وفقهاء ومجتهدين ان يكونوا اكثر تواضعا في انتاجهم الفكري .اذ كما كان اسلافهم رجالا، فهم كذلك رجال لا يصح وضعهم فوق الشك المعرفي و النقد و المراجعة . بل هنالك من يرى ضرورة النظر العقلي النقدي لكل ما يصدر عن “الدين” و “الفكر الديني” بهدف التعميق اولا ، و تقريبه من الآخر بكيفية عقلية مرنة ثانيا . لكن واقع الحال التاريخي يقدم صورة تختلف، بقدر او بآخر،عن ذلك المطلب التاريخي النقدي . فلقد نشأت اوضاع اجتماعية و سوسيوثقافية و أخلاقية و معرفية أسهمت في تراجع الابداع العقلي في النظر الى العلاقة بين الاحادية و التعددية .و كان ذلك بمثابة التأكيد المضخم على الاحادية على حساب التعددية ؛مما اوقف عملية ضخ الدماء النقية و الاستفزازات المحفزة على التجدد و اعادة النظر و البناء : لقد رفض الاختلاف في الرأي ضمن الاسلام ذاته ، وترهل الحوار بين الاسلام و الآخرين من دعاة التيارات السوسيولوجية و الفلسفية و الاخلاقية .؛ بل لعله تحول احيانا الى صراع مفتوح قطفت ثماره العجفاء نخب فقهية دينية و اخرى علمانية ، حيث حولته الى فزّاعة في وجه القوى المستنيرة الحيّة في الوطن .

وكذلك ثمة مسألة ذات مساس مباشر و عميق بمحور العلاقة بين الاحادية و التعددية في الاسلام ، و هي مسألة القراءات المتعددة او التعددية القرائية فمن موقع كون النص القرآني قائما في بنية تستدعي التأويل في احوال غير ضئيلة بل نطالب كذلك بالتوجه اليها تأويليا كي تُفهم مقاصدها الدقيقة [6] ‘ فان احتمال وجود عدة قراءات لمسألة واحدة اصبح واردا. و قد اشرنا فيما سبق الى ان تلقف النص القرأني لدى قارئه يتم عادة عبر قناتين اثنتين ‘ على الاقل ، هما قناة المستوى الفهمي المعرفي. و قناة المصالح التي تسوّغها الايديولوجيا ، اضافة الى القناة التي يظهر فيها المستوى النفسي و الاخلاقي و الاثني. في هذه الحال يصح القول ان كل القراءات ، التي تنطلق من الاسلام و يعلن اصحابها انتماءهم له ، تمتلك حدا معينا من الشرعية النصية؛ بمعنى انها تجد في الاسلام عموما و في النص القرآني بنحو خاص مرجعيتها . وهنا لاتصح المفاضلة بينها .

لكن تلك القراءات اذا ما وضعت في مستوى النظر الابيستيمولوجي (المعرفي التأسيسي)، فانها تجد نفسها امام السؤال التالي :ايٌّ منها لديه القدرة على تحقيق الاستجابة لشرائط التقدم العلمي و المعرفي ، وكذلك على صعيد الاستجابة لحياة الناس المادية الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و غيرها ؟ ها هنا نجد انفسنا امام سؤال المصداقية المعرفية و الاجتماعية التاريخية. و هنا تبرز الأفضلية بين تلك القراءات ، و اذا قلنا ان اقل هذه الاخيرة استجابة لتلك المصداقية هي التي ترفض التعددية لصالح أحادية قطْعيّة وحيدة الجانب و مفعمة بالتكفير و التشدد و رفض التسامح ، في حين ان اكثرها استجابة للمصداقية المذكورة هي التي تنظر للأحادية و التعددية من حيث هما وجهان اثنان لموقف واحد مؤسّس على العقل واحترام الآخر من كل الأطراف ، و على التسامح و الدعوة المفتوحة لحوار عقلاني ديمقراطي مستنير [7] وجها لوجه امام السؤال المحوري التالي :اذا كان الاسلام على ذلك النحو ، اي يتضمن امكانية ان يُقرأ بمقتضى مبدأ التعددية القرائية اولا ، و باقرار بوجود “قراءة تؤسّس على شرائط الدعوة للاعتراف بالآخرثانيا بكل ما يستدعيه هذه الاعتراف من المساواة، و بتأكيد على اولوية القراءة العقلية المنغمسة في مصالح البشر المتغيرة ثالثا، و يفتح باب المشاركة في انتاج هذه القراءة من قبل اللاحقين كما هو الحال بالنسبة الى السابقين رابعا، و باحترام الخلاف و الاختلاف مع ذوي العقائد الدينية و الوضعية الأخرى خامسا ؛ نقول : اذا كان الامركذلك ، فان المجازفة بالقول بان هذا الاسلام ، على الأقل ، لايقف عثرة في وجه اثنين من استحقاقات المرحلة العربية و الاسلامية الراهنة و ربما كذلك ما يأتي بعدها من مراحل .اما الاستحقاق الأول فيتمثل في الدعوة الى الديمقراطية ، بما تنطوي عليه من مبادئ الحرية و التداول السلمي للسلطة و تكوين مجتمع سياسي و مدني متسم بحراك سياسي و ثقافي مفتوح . و يأتي الاستحقاق الثاني ليفصح عن نفسه بصيغة الدعوة الى العقلانية و الحداثة و المشاركة العالمية في صوغ عالم انساني جديد.

ان ذلك مجتمِعا يدعو الى القول بان هاجس التنوير و الاستنارة كامن في نسيج الاسلام المذكور .ففي أخْذه بالتعددية و الحرية المفتوحة المضبوطة ، اضافة الى تأكيده على انسانية الانسانية و احترامها و الدفاع عنها ضمن رؤية منغمسة في الأرض كما في السماء. في ذلك كله ما يدعونا الى الخلوص لاستنباط اولي حاسم ، هو ان الاسلام المقروء على هذا النحو المتقدّم انما هو ايديولوجيا تنويرية لا تجد غضاضة في التشارك مع الآخرين ممن يحملون هذا الموقف و يدافعون عنه [8].

[1] فهمي جدعان – اسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث ، بيروت 1979، ص 46-50.

[2] انظر جاك بيرك – حينما كنت اعيد قراءة القرآن ، ترجمة وائل غالي ، ضمن مجلة (القاهرة ، سبتمبر/ايلول 1995، ص34).

[3] تاريخ الطبري- جزء 5، دار المعارف بمصر 1963 ص 66.

[4] جاء في الاعتصام للشاطبي (تعريف محمد رشيد رضا بجزئين،الجزء الثاني ،مصر، ص (173-174) ان النبي (ص) قال :”قبل الساعة سنون خداعا، يصدق فيهن الكاذب و يكذب فيهن الصادق ، و يخون فيهن الأمين ، و يؤتمن الخائن و ينطق فيها الرويضبة – قالوا هو الرجل التافه الحقير في امور العامة ”

[5] فخر الدين الرازي – تفسير ، الجزء الثاني ، ص 107.وفي هذا السياق ، يرى طه حسين انه “لاغرابة في ان تختلف مذاهب القوم في القرآن باختلاف الموضوعات و باختلاف المقامات ايضا ، انما الغرابة في مذهب واحد” .(طه حسين :مرآة الاسلام ،ط4، القاهرة ،ص105).و لعلنا نورد في في هذا الحقل ،ان عليا بن ابي طالب كان يأخذ على الصحابي ابن عباس انه يحاجج خصومه (اي خصوم علي من الخوارج) بالقرآن ،و يدعوه الى غير ذلك :”فخاصمهم و لا تحاججهم بالقرآن فانه ذو وجوه و لكن خاصمهم بالسنة “.(ضمن السيوطي – الاتقان في علوم القرآن ، بيروت1979،ج1، ص 51)

[6] يتضح ذلك خصوصا من “آية التأويل” التي يبرز التأويل فيها ذا طابع اشكالي بسبب الاختلاف في اعراب حرف “الواو” فيها :لايعلم تأويله الا الله ، و الراسخون في العلم يقولون آمنا ! انظر حول ذلك : طيب تيزيني : النص القرآني امام اشكالية البنية والقراءة – دمشق ، دار الينابيع 1997، ص235- 261.

[7] انظر كيفية تصيّر الشريعة معرفة مؤرقة حافزة على التقدم عموما :
8- De Boer –Geschichte der Philosophie im Islam

[8] Stuttgart 1901, s.40.انظر في ذلك : طيب تيزيني – بيان في النهضة والتنوير- دار الفارابي ، عام 2005، وكذلك مقالة Kant الشهيرة بعنوان: Was ist Aufklrung?