د.خالد الطراولي*

ktraouli@yahoo.fr

لم تكن مبادرة 18 أكتوبر إلا ثمرة مجهود انطلق حين دخل أول مظلوم عتبة السجون والمنافي، لم تكن إلا محطة متقدمة في مسلسل الوقوف والجرأة الذي دشنته أجساد بالية من وراء زنزاناتها الانفرادية أو الجماعية وتسارعت إلى مساندته أصوات وأقلام حرة من داخل البلاد ومن خارجها، ليست المبادرة إلا تعبيرا على تواصل يقظة النخبة وعدم توقف إرادتها على المقاومة وعزمها على مواجهة الاستبداد ببطون خاوية وعقول مليئة بحب تونس وحب أبنائها، ليست المبادرة إلا مرحلة مهمة في مسار عودة الوعي داخل المشهد السياسي التونسي وهي حلقة مصيرية في مسار نضالي تصاعدي ينشد تنحية الاستبداد وزعزعة الثقة في تمكنه والمساهمة في بناء مجتمع العدل والحرية والأخلاق.

المشهد الجديد

إن الأيام الحالية التي يمر بها المشهد السياسي في تونس ليست بالعادية ولا شك، ولقد ساهمت عديد العوامل في بروز وضع عام مختلف ومتغير…فلقد انتهت أيام الغطاء الاقتصادي المغشوش، وظهر للعيان هشاشة قطاعات بأكملها، كانت كل المؤشرات تؤدي إلى استفحالها، لم تكن هزة قطاع النسيج بالفجائية فدخول الصين كان مبرمجا، ونهاية اتفاقية النسيح كان معروفا، ولكن أهل الذكر تخلفوا عن الركب ولم يستعدوا لأيام المحن، ولم يكن ارتفاع أسعار النفط ونبوض الثروة البترولية التونسية بالشيء غير المرتقب، ولكن كانت الغفلة وكان التجاهل. انتهى الاستغفال الإقتصادي وأصبح التونسي في حالة اجتماعية غير مستقرة… انتهت المنامة الاقتصادية ولم يتزوج ابن السلطان سندرلا، ودقت ساعة الحقيقة وغابت الأميرة المغشوشة، وظهرت الفتاة الفقيرة حافية تجري نحو أفق مسدود…!

وانتهت الغفلة الاجتماعية وغمرت النكات اللاذعة والقصص التي تلامس الأساطير المجالس والنوادي واللقاءات الخاصة ومواقع الانترنت، وانتشرت المحسوبية والرشوة والجور الاقتصادي، وغزت البيوت والأسواق، وأصبح المواطن يراقب فقره ومسكنته وانحداره إلى مستنقع الحاجة والمساعدة، ويتطلع إلى ثراء الجار البعيد وهو يزيد جنة إلى جنانه و طابقا جديدا في بنيانه…

وانتهى الاستغفال السياسي ولم تعد تنطلي قصص وروايات الديمقراطية القائمة والتعدد المتوفر والمشهد السياسي السليم والمتحضر وكرامة الإنسان وحقوقه المصانة! وعرف الجميع أن أناسا من بني جلدتنا يقبعون ظلما وعدوانا في غيابات السجون، وأن رجالا صادقين ونساء طاهرات يعيشون المنافي والتشريد… انتهت المسرحية السياسية وعرفت الجماهير أن على الربوة يقف الاستبداد، وأن الباطل قد استغفلهم واستخف بحالهم، وأن الأيام الخوالي لم يعد لها وطن…

ولعل عنصرا جديد بدأ يبرز بكثير من الحياء وهو المعطى الخارجي، الذي بدأ يتململ بعض الشيء وكأن عهد الصك على بياض قد انتهى أو قارب التغيير، وهو بُعد لا يقل أهمية عن المعطى الداخلي وله ألف حساب..!

هذا هو المشهد الجديد للحياة التونسية العامة، وهو مشهد محيّر ومحفّز، ويدعو إلى كثير من التأني والقراءة الواعية والاستشراف الرصين، فهل تعني هذه التغييرات أنها هيكلية ونهائية وأن الأيام القادمة لن تزيدها إلا تأكيدا وتثبيتا، وأن ربع الساعة الأخير قد كثرت مؤشراته، وأن الثمرة قد أينعت وحان قطافها، وما علينا إلا إطلاق الأيدي وفتح الأفواه لالتقاطها؟، أم أن المسار لا يزال في بدايته وأن الأحلام والنوايا الطيبة والآمال المعلقة لا تعوض واقعا معقدا ولكنه صلب، وأن النظام لا يزال يمسك بكل الخيوط، وليست بطون خاوية لثمان من الرجال سوف تزعج بطونا انفلتت لكثرة الخير والرفاه؟ هذا هو الإطار الجديد الذي تتنزل فيه مبادرة 18 أكتوبر فهل هي إيذان بالنهاية؟

نهاية مرحلة وبداية أخرى

إن الحديث عن ربع الساعة الأخير يبقى وهما إذا عقلناه تواكلا وتكاسلا وانتظارا، إذا فهمناه نهاية النضال، واختفاء الاستبداد، إذا ولّد غرورا وتثبيطا وانسحابا، إذا مكّن لمنهجيات التسرع وحرق المراحل والتدشين قبل البناء والتمكين. لكنه يصبح حقيقة إذا أصبح دافعا للعزائم وداعما للإرادات، إذا كان يحمل حسن استقراء وجميل استشراف، إذا كان يهدم على وعي ويبني على رشد، إذا كان يحمل الثقة في النفس دون غرور، ويقيّم الخصم دون تضخيم أو تقزيم. إذا كان يتطلع للبناء الجماعي وليس العمل المنعزل والحسابات الفردية وثقب السفينة أو التخلص من ربانها أو ركابها في أول مرفإ أو في البحار العالية ودون رقيب!

لم يعد يخفى على القريب والبعيد أن اليوم ليس كالبارحة، وأن السلطة التونسية تمر بأزمة ثقة وتأزما اقتصاديا واجتماعيا واضحا… ومن يقول غير هذا مع احترامنا لمقولته فهو إما مغال أولا يريد فتح العيون أو من أصحاب عنز ولو طاروا! لن يقنعنا أحد بأن الحالة الاقتصادية العامة اليوم هي أفضل مما كانت عليه في بدايات حكم السابع من نوفمبر لا في مستوى النمو ولا في مستوى القدرة الشرائية ولا في مستوى البطالة! مصانع أغلقت أبوابها وسارعت تستسقي خارج الحدود، وألقت بشغّاليها خارج الدورة الاقتصادية، ورمت بهم في دوامات الاسترزاق الرخيص والحاجة. أسعار ترتفع بارتفاع حرارة الشمس..، سعر الخبزة يرتفع ووزنها يتقلص حتى لنهاب اليوم الذي يذهب فيه التونسي ليشتري خبزا فيدفع ثمنا لينال تحية وسلاما..! تداين دخل كل بيت واستوطن العقول وولّد المآسي وفجّر أُسرا وأرحاما…

هذا المعطى الاقتصادي الجديد يلتقي مع أزمة أخلاقية متورمة ضربت الاجتماع والاقتصاد على السواء، ليس الحديث عن المحسوبية والرشاوى والفساد اكتشافا، وليست قضايا التجاوزات والاستهتار والسقوط الأخلاقي جديدة على مجتمعاتنا، إنما الجديد والمصيبة أن تصبح عقلية وسلوكا عاما، ونظاما مقبولا له مبرراته ومقوّماته، ويصبح شيئا عاديا لا يناله القرف أو الاشمئزاز، فتسمّى الأشياء بغير أسمائها وتختلط المسميات وتصبح الرشوة ” قهوة “، والتداين اقتراضا! ومن يفعل غير ذلك فهو إما مجنون أو جاهل أو يسكن على كوكب غير الأرض. لقد قص عليّ أحد الأصدقاء الذين يرتادون الوطن وكان على درجة طبيعية من الأخلاق، أنه عاش أزمة مع أسرته وأهل الحيّ لما تراء له أن يرفض عديد المعاملات والسلوك المشاع والمعاش وينقدها، فقوبل استغرابه بالاستهزاء والسخرية والقولة القديمة الجديدة “وليت خوانجي” والرجل بينه وبين السياسة مسافات، وبينه وبين الدين قرابة بسيطة من العلم!

هذه الأزمة المتعددة الأبعاد، أخلاقية واقتصادية واجتماعية، سبقتها وصاحبتها أزمة سياسية انطلقت منذ تراجع السابع من نوفمبر عن منطلقاته الأولى والتي حملها خطابه الافتتاحي أيام الورد والثقة المتبادلة والآمال والأحلام، وتنكّره لوعوده وتعهداته. فارتجّ التعدد وتهمّشت الديمقراطية وعمّ الاستفراد والإبعاد والإقصاء، وأصبح المشهد مغشوشا على أكثر من باب.

إن لزوم هذه الأبعاد مع بعضها وتورمها وخروجها عن المعقول، ساهم في زعزعة قناعات وأحدث أزمة ثقة عند النظام، وسارعت البادرة الأخيرة إلى تعميقها وإظهارها على العلن، فتمثلت في ارتباك واضح في التعليق والتصريح والتفسير، وفي سن قوانين عاجلة لضمان درجات ومقامات واهية، وفي عجلة مشبوهة نحو إطلاق بعض المسجونين بعدما أقنعونا سابقا بأنهم سجناء حق عام أو مجرمون وإرهابيون على النات.. كل هذه المعطيات تدعو بكل رويّة إلى الحديث عن ربع الساعة الأخير أو ما يشبهه… ولكن!

لن يغرنا ترهل الاستبداد، لن يغرنا ارتباكه، لن تزعزعنا ثقته المهتزة في رجاله، لن نهرول إلى أي سراب يبرز من هنا وهناك، حتى إذا لمسناه لم نجد شيئا ووجدنا الاستخفاف والاقصاء والاستبداد عنده!

ليس الاستبداد قطعة من ورق مقوى، وليس الاستبداد قصرا من رمال، ولكنه نسق ورجال ومصالح وبطانة وعقلية وسلوك وثقافة، ولن تكون المواجهة سهلة لتقويض أسسه، ولكنه عمل اليوم والليلة، يبدأ قبل التغيير ولا ينتهي بالتغيير…بدأته الكلمة الموحدة وتواصله الكلمة الموحدة ولن تنجيه وتنصره غير الكلمة الموحدة بعيدا عن السياسوية والنرجسية والحسابات الضيقة وعقلية أنا وما بعدي الطوفان!

إن مبادرة 18 أكتوبر فتحت طريقا ورجت واقعا، وأظهرت مخفيا وشكلت منعرجا حاسما في الحياة السياسية التونسية بجرأتها وإرادتها ورسالتها إلى كل مواطن تونسي أن أيام الاستبداد لن تطول وأن ساعته قد حانت، وإن كنا نجهل ربعها أو نصفها أو أكثر أو أقل، وما ذلك على الله بعزيز.

* رئيس اللقاء الإصلاحي الديمقراطي