بقلم د.خالد الطراولي

ktraouli@yahoo.fr

يبلغ التدافع أشده هذه الأيام بين سلطة تسعى إلى ترويج بضاعة الاستقرار والديمقراطية وحرية المعلومة، وهي تحتضن مؤتمرا عالميا يدعو إلى تكريسها والبناء عليها، وبين مجتمع مدني يبحث عن خلاص ويريد إبلاغ صوت مكبوت و صورة أخرى عن تونس الدهاليز والزوايا المظلمة. ومع تواصل المد والجزر ودخول مبادرة الثمانية مناضلين الأفاضل في إضراب جوع، بدت الصورة عارية، وظهرت تونس رغم الغشاوة بلدا يحمل من نبات الحنظل أكثر من زهرة الياسمين.

لن يخطأ قارئ للفنجان أو للسطور أن يلمس مدى التأثير والرجة التي أحدثتهما مبادرة 18 أكتوبر..، أضواء كاشفة مزقت بعض السواد… ووسائل إعلام أجنبية تلمس عن قرب بلاد “المعجزة الاقتصادية” “والمعجزة السياسية”، ويطال بعضها ما يعيشه التونسي منذ زمان…،غليان وضوضاء، وسط أنين وصبر، وتضحية ورباط، وعزم وإرادة لرجال كرام، واقفين ورؤوسهم على الوسادة، يتحدثون وأفواههم مكممة. مجتمع مدني قرر الاستنفار…جماهير مازالت لم تغادر الدهشة محياها وإن كان يحركها هم وطن جريح، لكن التعود على الانتظار وخوف عصا الجلاد جعلها تراقب عن كثب ما يحصل، وتنظر بعيون حالمة أو آملة أو مترددة…

في هذا الإطار الجديد والمشهد المختلف، الذي لم تشهد مثيله تونس منذ زمان، تساؤلات وأسئلة يجب طرحها اليوم قبل غد حتى لا تظهر الصورة مشوهة، حتى لا نفاجأ بواقع قد نخطأ قراءته، حتى لا يغيب عنا تاريخ لم نع استقراءه، حتى لا نكون دمى متحركة في مشهد سينمائي أو مسرحية، لم نفقه السيناريو ولا الإخراج.. فلا نحمل قدرنا على ظهورنا ونحمل أقدار آخرين وأوزارهم، ونجدد العهد للعبث! :

  • صحفي فرنسي يتعرض لركل ولكم وطعن، فريق تلفزي بلجيكي تُحجز آلة تصويره، صحافيون آخرون من محطة TV5 ينالهم التضييق حتى فضلوا الانسحاب ومغادرة التراب التونسي..! هذا المشهد لا يقع في إطار عادي ولكنه في إطار لقاء عالمي للمعلومة، وتحت الأضواء الكاشفة لعديد الصحف والمرئيات والمسموعات، وفي بداية مؤتمر علقت عليه السلطة التونسية الكثير، وعملت من أجله الكثير، وتترقب من ورائه الكثير! كيف يعقل أن تقع أخطاء بمثل هذا الحجم وهذه السرعة حتى يكاد المريب يقول خذوني؟ لن تستطيع المعارضة أن تبلغ أمانيها هذا الحد ولا أحلامها هذه الدرجة في أن يخدمها النظام بمثل هذا الفعل، لن تستطيع أن تنتظر مثل هذه “الهدية”! لعل البعض سوف يعلق بأن الدكتاتورية كثيرا ما سقطت نتيجة تعثراتها المتكررة والمفاجئة، وأنها كثيرا ما غلب عليها الارتباك والعشوائية كلما واجهت واقعا منظما وحازما، ووقعت تحت الأضواء، فالتعود على الظلام ولد العمى فحدث التخبط والخطأ! لعل البعض يعتبرها دعوة مظلوم صعدت إلى السماء دون رفيق وعادت ومعها الملائكة!..، لعل ولعل ولعل! لكن السؤال يبقى حازما… لماذا، لماذا الآن، من يخدم هذه الأخطاء، هل هناك مراكز قوى وأصحاب نفوذ تلتقي أهدافهم مع أهداف المعارضة؟ وهل يجب المراهنة عليها؟ وهل أخطأنا حين جعلنا كل السلطة في سلة واحدة؟
  • السلطات الأمريكية على غير عادتها تحذر وترفع عقيرتها وتلوح بغضبها..، عضو بارز في سفارتها يزور الإخوة المضربن على مرأى ومسمع الجميع! الجار الفرنسي بعد تردد يلتحق بالقافلة، ووزير الخارجية يقطب حاجبيه ويطلب توضيحات عاجلة..، حضور متدني لأوروبا في القمة رغم أهميتها الكبيرة في حسم قضية انفرادية الولايات المتحدة الأمريكية في المسك بزمام عالم الانترنت… وحملة صحفية كبيرة في وسائل الإعلام العالمية، جعلت المؤتمر على أهميته يغيب في ظل التعرض لحالة الحريات في تونس، حتى أنك لا تكاد ترى تعليقا أو تقريرا حول تونس واستضافتها لهذه الندوة إلا وسبقها تعريج وتذكير بالمشهد السياسي المأسوي!
  • “أخطأ” تتجدد وتتكرر في بعض المقالات والمشاهد في إظهار وجوه وأسماء لم نتعود سماع صوتها في صف الوقوف أمام الجور، حتى أصبح أحدهم عند بعض هذه الأقلام أحد أبرز وجوه المعارضة التونسية! والرجل لم تجف بعد كسوة الوزارة التي لبسها أيام الظلام، ولم ينته سواد مائها رغم تجديد الغسل مرات ومرات!
  • قانون يعرض على البرلمان باستحياء، وكأنه نعي للسلطة القائمة وأذان للجميع بالاستعداد للرحيل! فيضمن للأهل والعشيرة العيش بسلام ولو تغير المشهد السياسي لاحقا.
  • السلطة لا تطلق سراح المعتقلين ولا تفرج إلا على ثلاثين مظلوما، وقد كانت تستطيع أن تفرغ السجون قبل المؤتمر وتظهر للعالم مدى نيتها في تكريس الديمقراطية والانفتاح و احترام الحريات ولو على مراحل بطيئة، والكثيرون من أصحاب النفوذ الخارجي يودون بكل قوة تصديقها حتى يتخلصون من وخز الضمير إن كان هناك ضمير، ويقنعون شعوبهم بصحة أفعالهم وأخلاقية مراهنتهم. لكن السلطة رغبت عن هذه الصورة المشرقة وخيّرت ترك بقية المحجوزين إلى زمن آخر، لعله لمن سيأتي ليتسلم مفاتيح القصر ويكون الخليفة المنتظر، فتكون أول أعماله المباركة فتح المعاقل وإفراغ السجون وينال هذا الشرف! فيقف له الجميع إجلالا واحتراما، ونجدد ثقتنا فيه وفي الله! وينال الشرعية والمصداقية وهو لم يكتشف بعد كل غرف القصر! ولا يسع الجميع إلا التهليل والتكبير والسير وراء المنقذ، والمراهنة على سلامة السريرة، والعهد على مساندته!!! ولعل مشهد السابع من نوفمبر يعاد ولكن في غير موعده وبدون أطباء ولا مستشفيات!
  • وجوه وأقلام تتسارع للظهور والكتابة وإعلان العصيان جهرة، وقد عودنا بعضها منذ زمن غير بعيد بحياءه أو مساندته العلنية للظلم والجور، لا تهمنا هذه العودة ونحن نستبشر بها ونبني على مصداقيتها فنحن لا نحكم إلا على الظواهر والله يتولى السرائر، وعفا الله عما سلف، ولا يبقى جامدا لا يتغير إلا الأحمق أوالصخر الرواسي! وتزيدنا هذه العودة تأكيدا على صدق ما آمنا به وناضلنا من أجله، وتمسكا بمبادئنا وثوابتنا آناء الليل وأطراف النهار. فمرحبا بمن غيّر البوصلة، ومرحبا بالسابقين ومرحبا بالملتحقين… لكن السؤال الذي يفرض نفسه أيضا لماذا الآن وليس الأمس أو غدا، وقد سبقت هذه المبادرة مبادرات أخرى، وقد كان الظلم بواحا إلى حين؟، أهي الجرأة والشجاعة واليقين في أن النظام في ساعته الأخيرة يحتضر؟، أم أن هناك تطمينا خارجيا أو من داخل القصر أن الفريسة قد سقطت وحان تقاسمها من جديد، وعلى السكاكين أن تُشهر، والأنياب أن تُكشّر، وعلى الجميع الاستعداد؟
  • تسارع جميل وملفت للمساندة من هنا وهناك داخل البلاد وخارجها، لجان تتكون، وأعمال ونضالات، وإضرابات جوع، وتنافس على البر والوطنية، ونخالها كذلك، وهو ما يثلج الصدر، خاصة وقد تجاوزت في أغلبها نعرة الأيدولوجيا وغلب عليها التعاون من أجل تونس، غير أن صدى لبعض المشاهد، على قلتها، توحي بوجود بعض النعرات الحزبية الضيقة وهيمنة طرف سياسي معين وغلبة منحى أيديولجي محدد، ومحاولة للإقصاء والاستبعاد والاستفراد، والهرولة للحصول على الصدارة والبقاع الأمامية، والشرعية النضالية، وكأن هناك هذه المرة خلوصا من بعض الأطراف إلى أنه يجب منذ الآن الإسراع حتى لا يتخلف أحد على العرس وتنتهي الوليمة بدونهم! وهذا، على سلامته نظريا إذا كان تنافسا بريئا، غير أنه يوحي إن تعمّق واستشرى، على هشاشة البناء المستقبلي بين أطراف من المعارضة، عرفت ولو بعد حين أن خلاصها في وحدتها وأن نجاح بناءها في سلامة أعمدتها وتنوعها.
  • صمت مريب لبعض الجهات أو فعل بكثير من الاستحياء! أهو الخوف من المراهنة على الفراغ واعتبار أن ما يحدث لا يعد إلا عاصفة في فنجان تنتهي بانتهاء الأسباب الضاغطة، فحبذت التروي والمراقبة والانتظار إلى من تميل إليه الكفة حتى لا يستفرد بها السلطان بعد انتهاء الحفل وتفرق المدعوين؟ أم هناك صفقة تحضر من وراء الكواليس وبعيدا عن الأضواء وعن عالم الانترنت الفاضح لكل مستور مغشوش، فخيرت هذه الجهات الفعل في عدم الفعل!

هذه كلمات غير مرتبة، وخواطر عاجلة، وعذرا لدى القارئ على ذلك، فهذا ما سمح به الوقت ورضت به الظروف، ولكن أردنا سردها على حياء حتى نساهم ولو من بعيد وبكثير من الأمل في أن نكون سندا للحق وحجرات بناء…

خوفي يا سادتي، وأنا أغلق على عجل هذا الملف الذي قض مضجعي، أن نؤكل من جديد على حين غفلة وبدون رشد..، خوفي أن ينالنا الطمع فلا نعود إلا بخفي حنين أونواصل طريقنا حفايا..، خوفي أن يسقط بعضنا في الطريق، وأن يساهم البعض في الإعانة على إسقاطه حتى يخلو له الطريق..، خوفي أن نكون خارج التاريخ مرة أخرى..، خوفي أن يُبنى المشهد العام في تونس المستقبل على الإقصاء والضباب والاستخفاف والاستبداد المبطن مرة أخرى، وتعاد الصورة ولكن بخلفية الزهر والياسمين… اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.. اللهم قد بلغت اللهم فاشهد!